بلا اتجاه

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
أوصلها والدها متأففا ً منتقدا ً كعادته إلى الاستراحة، حيث كانت بضعة سيارات فخمة متوقفة هناك والسائقين الشرق آسيويين يتبادلون الأحاديث، انتظر والدها حتى ولجت الاستراحة قبل أن يمضي.

استقبلتها صديقتها ( مي) عند الباب، تعانقتا وهما تتكلمان وترحبان في نفس الوقت، كانت الفتيات الأخريات يحطن بحوض السباحة الذي تلألأ بالأنوار وقد اصطفت حوله أرائك وكراسي مريحة، وتناثرت طاولات صغيرة بديعة الشكل رصت فوقها تشكيلة من العصيرات ومن الكعك المغطى بالزبيب أو بقطع الفراولة والمشمش، وطاولات أخرى تحمل أواني خزفية ممتلئة بالشاي وأنواع القهوة.

جذبتها مي إلى المجموعة وتداخلت أصوات الترحيب والكثير من الـ ( يووووه) والـ ( مو معقوووووووول) والـ ( ياااااا الله) والـ ( ما ني مصدقة)، طبعا ً استأثرت ( جوري) التي كانت حامل ببعض الصراخ، وحظيت ( شجون) المخطوبة بجزء آخر، ولـ ( أحلام) التي فقدت بعضا ً من وزنها جزء.

عندما هدأت الأوضاع كفت الفتيات عن الصراخ الهستيري وبدأ الحديث بينهن والضحك، ومضت الليلة جميلة رائقة محملة بالذكريات والحكايات التي لا تنقضي، وبعد العشاء رحلت أكثر المدعوات وتبقت مي المضيفة وفاطمة وهند فجعلن يقطعن وقت الانتظار بالحديث الذي تباطأ الآن، قادهم الحديث إلى الانترنت وأشهر المواقع والكتاب وما يدور فيه وكان لدى هند حكاية مثيرة.

أخبرتهم هند عن حكاية زميلتها في العمل والتي كانت على علاقة مع شاب في الانترنت، كان يوهمها بأنه يحبها وكانت كلماته لها أرق وأنعم ما سمعت في حياتها، والعلاقة بينهما تتطور يوما ً بعد يوم، حتى اكتشفت في يوم من الأيام بأنه أخترق جهازها وسحب منه صورها وصور صديقاتها والكثير من أسرارها ومتعلقاتها، ثم هددها بواسطتها، أخبرتهم هند بصوت خفيض عن طلبه لقاءها وخوفها من الفضيحة، رفضت ولكنه هددها وصار يطاردها حتى أنه كان يتصل بها في العمل، أخبرتهم كيف أن الله هداها ولم تستجب لطلبه وإنما لجأت إلى إحدى زميلاتهم في العمل، امرأة كبيرة في السن ذات تخصص اجتماعي ولها تعاون مع دور الرعاية الاجتماعية، وكيف نسقت تلك المرأة مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتم التوصل إلى الشاب والقبض عليه والتحفظ على جهازه، وإحالته إلى القضاء بسرية تامة حفاظا ً على الفتاة، كانت حكاية قطع خاتمتها اتصال والد فاطمة الذي وصل وينتظرها في الخارج.

خرجت فاطمة متعثرة وبانقباض خفي في معدتها، كانت حكاية تلك الفتاة قد جعلت صرحها الذي ثبت دهرا ً على الرمال يهوي في لحظات، حركت تلك الحكاية أشياء كثيرة وأثارت مشاعر كانت مدفونة فصارت الآن ترى نفسها بعين الخيال مكان تلك الفتاة.

عادت إلى البيت، أغلقت جوالها حتى لا تستقبل اتصال ما قبل النوم من حمد، وبدأت تفكر لأول مرة كيف يمكنها أن تنهي هذا العبث؟ لقد ظنت لأيام خلت أنها لا تستطيع التخلي عن حمد، ولكنها الآن لا تحس إلا برغبة شديدة بالفرار منه، أذهلها هذا الانقلاب المفاجئ في مشاعرها، وتساءلت هل كان لديها مشاعر أصلا ً؟

قضت تلك الليلة في التفكير بوسيلة جيدة لإنهاء تلك العلاقة المتشعبة، هل تتجاهل مكالماته؟ ولكنه يعرف كل شيء عنها، يعرف حتى أين تعمل، " يا لغبائي... لم كنت ثرثارة هكذا؟ لم أخبرته بكل شيء؟"، ألا يمكنها الطلب منه بكل بساطة إنهاء العلاقة؟ " ماذا لو رفض وهددها؟"، ولكن يهددها بماذا؟ " بأي شيء... إنه يعرف عنها وعن صاحباتها ما يكفي لإفساد علاقتها بنصف من تعرفهم".

هكذا ذهبت إلى العمل من الغد وهي نصف نائمة، والخدر يسري والتعب يغطي مساحات جسدها، وضعت جوالها المغلق أمام ناظريها، وفكرت هل تفتحه؟ كم رسالة يا ترى ستأتيها؟ كم اتصالا ً اتصل بها البارحة؟

فكرت عندها لم لا تتجاهله ببساطة، كما دخلت حياته ببطء، تنسل منها ببطء، ترد على مكالماته وتتجاهل بعضها، تحاول الانسحاب بشكل لا يثيره ولا يغضبه، ما الاحتمالات الممكنة لهذا الحل؟ إن كان من نوع الشباب الذين لديهم كرامة سيتجاهلها ويرحل من حياتها فورا ً، أما إن كان من طينة الشباب اللحوحين المزعجين فيمكنها التذرع عندها ببعض الانشغال ومحاولة البحث عن حل آخر.

وهذا ما كان، بدأ حمد يحس ببرودة تزحف لتغلف المسافات بينهما والتي تضاءلت كثيرا ً، صارت مكالماته ترن بلا معنى أو مجيب أكثر وأكثر، بدأت رسائله وعواطفه تتراكم بلا رد أو يكون الرد إن وصله بارد متقلص.

فكر أولا ً أنه ربما أغضبها أو ضايقها في شيء ما، حاول أن يتذكر أي شيء بينهما ولكنه لم يجد، ففكر عندئذ أنها ربما تمر بمرحلة من الكآبة والضيق التي تطوف بالفتيات في هذا العمر، حاول التخفيف عنها وبث شيء من عواطفه في رسائله أو مكالماته ولكنه لاحظ تهربها من الرد أو تشاغلها.

طالت المدة فتجرأ على سؤالها عما يضايقها؟ فأنكرت أن يكون هناك شيء، ربما هي مشاغل الحياة وضغوطات العمل، لم تقنع هذه الحجة التقليدية حمد، ولكنه تلقفها مرغما ً حتى لا يفتح جدلا ً هو في غنى عنه.

بدأت الكلمات والتعابير تضمر بينهما، وتساءل حمد أكثر وأكثر ما الذي حدث؟ وكيف حدث؟ ثم برق خاطر في ذهنه، " هل كانت تخدعه؟ هل هي تعبث به؟ هل كانت مشاعره وقلبه مجرد عبث ملت منه الآن وتفتش عن تسلية أخرى؟ أم هل هناك آخر؟".

آلمته الأسئلة فطلب الحقيقة وإن كانت مرة، قرر مراقبتها انترنتيا ً، واستطاع بكل بساطة اكتشاف أنها تتواجد على الشبكة كثيرا ً ولكنها تبقيه بعيدا ً عنها، هل صارت تضع حضرا ً عليه كما فعلت مع سعد؟ مع الأيام صارت الإجابة واضحة.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
أوصلها والدها متأففا ً منتقدا ً كعادته إلى الاستراحة، حيث كانت بضعة سيارات فخمة متوقفة هناك والسائقين الشرق آسيويين يتبادلون الأحاديث، انتظر والدها حتى ولجت الاستراحة قبل أن يمضي.

استقبلتها صديقتها ( مي) عند الباب، تعانقتا وهما تتكلمان وترحبان في نفس الوقت، كانت الفتيات الأخريات يحطن بحوض السباحة الذي تلألأ بالأنوار وقد اصطفت حوله أرائك وكراسي مريحة، وتناثرت طاولات صغيرة بديعة الشكل رصت فوقها تشكيلة من العصيرات ومن الكعك المغطى بالزبيب أو بقطع الفراولة والمشمش، وطاولات أخرى تحمل أواني خزفية ممتلئة بالشاي وأنواع القهوة.

جذبتها مي إلى المجموعة وتداخلت أصوات الترحيب والكثير من الـ ( يووووه) والـ ( مو معقوووووووول) والـ ( ياااااا الله) والـ ( ما ني مصدقة)، طبعا ً استأثرت ( جوري) التي كانت حامل ببعض الصراخ، وحظيت ( شجون) المخطوبة بجزء آخر، ولـ ( أحلام) التي فقدت بعضا ً من وزنها جزء.

عندما هدأت الأوضاع كفت الفتيات عن الصراخ الهستيري وبدأ الحديث بينهن والضحك، ومضت الليلة جميلة رائقة محملة بالذكريات والحكايات التي لا تنقضي، وبعد العشاء رحلت أكثر المدعوات وتبقت مي المضيفة وفاطمة وهند فجعلن يقطعن وقت الانتظار بالحديث الذي تباطأ الآن، قادهم الحديث إلى الانترنت وأشهر المواقع والكتاب وما يدور فيه وكان لدى هند حكاية مثيرة.

أخبرتهم هند عن حكاية زميلتها في العمل والتي كانت على علاقة مع شاب في الانترنت، كان يوهمها بأنه يحبها وكانت كلماته لها أرق وأنعم ما سمعت في حياتها، والعلاقة بينهما تتطور يوما ً بعد يوم، حتى اكتشفت في يوم من الأيام بأنه أخترق جهازها وسحب منه صورها وصور صديقاتها والكثير من أسرارها ومتعلقاتها، ثم هددها بواسطتها، أخبرتهم هند بصوت خفيض عن طلبه لقاءها وخوفها من الفضيحة، رفضت ولكنه هددها وصار يطاردها حتى أنه كان يتصل بها في العمل، أخبرتهم كيف أن الله هداها ولم تستجب لطلبه وإنما لجأت إلى إحدى زميلاتهم في العمل، امرأة كبيرة في السن ذات تخصص اجتماعي ولها تعاون مع دور الرعاية الاجتماعية، وكيف نسقت تلك المرأة مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتم التوصل إلى الشاب والقبض عليه والتحفظ على جهازه، وإحالته إلى القضاء بسرية تامة حفاظا ً على الفتاة، كانت حكاية قطع خاتمتها اتصال والد فاطمة الذي وصل وينتظرها في الخارج.

خرجت فاطمة متعثرة وبانقباض خفي في معدتها، كانت حكاية تلك الفتاة قد جعلت صرحها الذي ثبت دهرا ً على الرمال يهوي في لحظات، حركت تلك الحكاية أشياء كثيرة وأثارت مشاعر كانت مدفونة فصارت الآن ترى نفسها بعين الخيال مكان تلك الفتاة.

عادت إلى البيت، أغلقت جوالها حتى لا تستقبل اتصال ما قبل النوم من حمد، وبدأت تفكر لأول مرة كيف يمكنها أن تنهي هذا العبث؟ لقد ظنت لأيام خلت أنها لا تستطيع التخلي عن حمد، ولكنها الآن لا تحس إلا برغبة شديدة بالفرار منه، أذهلها هذا الانقلاب المفاجئ في مشاعرها، وتساءلت هل كان لديها مشاعر أصلا ً؟

قضت تلك الليلة في التفكير بوسيلة جيدة لإنهاء تلك العلاقة المتشعبة، هل تتجاهل مكالماته؟ ولكنه يعرف كل شيء عنها، يعرف حتى أين تعمل، " يا لغبائي... لم كنت ثرثارة هكذا؟ لم أخبرته بكل شيء؟"، ألا يمكنها الطلب منه بكل بساطة إنهاء العلاقة؟ " ماذا لو رفض وهددها؟"، ولكن يهددها بماذا؟ " بأي شيء... إنه يعرف عنها وعن صاحباتها ما يكفي لإفساد علاقتها بنصف من تعرفهم".

هكذا ذهبت إلى العمل من الغد وهي نصف نائمة، والخدر يسري والتعب يغطي مساحات جسدها، وضعت جوالها المغلق أمام ناظريها، وفكرت هل تفتحه؟ كم رسالة يا ترى ستأتيها؟ كم اتصالا ً اتصل بها البارحة؟

فكرت عندها لم لا تتجاهله ببساطة، كما دخلت حياته ببطء، تنسل منها ببطء، ترد على مكالماته وتتجاهل بعضها، تحاول الانسحاب بشكل لا يثيره ولا يغضبه، ما الاحتمالات الممكنة لهذا الحل؟ إن كان من نوع الشباب الذين لديهم كرامة سيتجاهلها ويرحل من حياتها فورا ً، أما إن كان من طينة الشباب اللحوحين المزعجين فيمكنها التذرع عندها ببعض الانشغال ومحاولة البحث عن حل آخر.

وهذا ما كان، بدأ حمد يحس ببرودة تزحف لتغلف المسافات بينهما والتي تضاءلت كثيرا ً، صارت مكالماته ترن بلا معنى أو مجيب أكثر وأكثر، بدأت رسائله وعواطفه تتراكم بلا رد أو يكون الرد إن وصله بارد متقلص.

فكر أولا ً أنه ربما أغضبها أو ضايقها في شيء ما، حاول أن يتذكر أي شيء بينهما ولكنه لم يجد، ففكر عندئذ أنها ربما تمر بمرحلة من الكآبة والضيق التي تطوف بالفتيات في هذا العمر، حاول التخفيف عنها وبث شيء من عواطفه في رسائله أو مكالماته ولكنه لاحظ تهربها من الرد أو تشاغلها.

طالت المدة فتجرأ على سؤالها عما يضايقها؟ فأنكرت أن يكون هناك شيء، ربما هي مشاغل الحياة وضغوطات العمل، لم تقنع هذه الحجة التقليدية حمد، ولكنه تلقفها مرغما ً حتى لا يفتح جدلا ً هو في غنى عنه.

بدأت الكلمات والتعابير تضمر بينهما، وتساءل حمد أكثر وأكثر ما الذي حدث؟ وكيف حدث؟ ثم برق خاطر في ذهنه، " هل كانت تخدعه؟ هل هي تعبث به؟ هل كانت مشاعره وقلبه مجرد عبث ملت منه الآن وتفتش عن تسلية أخرى؟ أم هل هناك آخر؟".

آلمته الأسئلة فطلب الحقيقة وإن كانت مرة، قرر مراقبتها انترنتيا ً، واستطاع بكل بساطة اكتشاف أنها تتواجد على الشبكة كثيرا ً ولكنها تبقيه بعيدا ً عنها، هل صارت تضع حضرا ً عليه كما فعلت مع سعد؟ مع الأيام صارت الإجابة واضحة.

وانفجر غضبه يوما ً عندما غادرت المسينجر على عجل مدعية أنها مدعوة إلى حفلة عشاء، وبعد ربع ساعة رصد مشاركة لها في أحد المواقع.

أقسم أن ينساها وفي الغد حمل كل ما يربطه بها، هديتها، رسائلها التي طبع عددا ً منها حتى يقرأها في مكانه المفضل، كل ما يخصها أو يذكره بها، وغادر الرياض بحثا ً عن مكان يفرغ فيه غضبه وكان ما كان.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
هذه طريقة جميلة تعلمتها لأحافظ على صفاء ذهني وحتى لا يجرفني سيل الأفكار الذي لا يرحم، وهي أن أقوم بكتابة أفكاري التي أفكر بها في ورقة حتى يمكنني تخفيفها من ذهني، كما أن الكتابة تبطئ التفكير لأنها أقل منه سرعة، وحتى يكون هناك تناغم بين ما أفكر به وما أكتبه ( هكذا قرأتها في ذلك الكتاب، ماذا كان اسمه؟ أممممم، لا أذكر).

الأيام الماضية كانت صعبة جدا ً، يجب أن أعترف بهذا، كما أعتقد أن التجارب التي مررت بها تحتاج مني إلى وقت أطول لدراستها واستخلاص نتائج منها، سأكتفي الآن بكتابة ما أشعر به وربما القليل من الآراء التي سيفيض بها عقلي المنهك.

تعلمت ولكن بثمن باهظ دروسا ً لا تقدر بثمن في العلاقات وفي طريقة التفكير، أظن أني سأظل مدينا ً إلى آخر عمري بما علمتني إياه التجربة.

تعلمت الفرق بين العقل والهوى، تعلمت كيف ينحدر الإنسان بسهولة عندما يظن أنه مكتف بذاته، قادر بذاته، تعلمت كيف ينحط عندما يجعل قائده هواه، كيف يتردى وتتضارب أفكاره وأحكامه.

تعلمت أن النية الحسنة لا تكفي، وأن الصلاح يتحقق عندما يستوفى في القصد والفعل، وأني وإن حسنت مقاصدي فذلك لا يكفي إن كانت طرائقي واهيات.

كيف انظر إلى فاطمة الآن؟ وإلى نفسي؟ وإلى ما حدث؟ لا أريد أن أظلمها ولا أن أظلم نفسي، كلنا نتحمل جزء من الخطأ عندما سمحنا لعلاقة بنيت على أساس هش هكذا بالتطور والتفرع حتى جاء اليوم الذي تداعى فيه أساسها فتداعت تداعي الجدر المنخورة.

عندما انظر لما حدث، لا أستطيع منع نفسي من تحميل جزء من اللوم عليها، وجزء آخر لي، ألومها على انسياقها في العاطفة وهي موقنة بأنه لا نهاية واضحة لها، حيث الكف في حق الفتاة أولى لأن الحياء زينتها التي زينها بها ربها، وألوم نفسي لأني نسيت العقل أو تناسيته ومضيت سادرا ً حتى إذا انتهى كل شيء غضبت لا للحق ولكن لنفسي.

ورغم النهاية المؤلمة لهذه العلاقة ولكني أجد أني ارتحت كثيرا ً حالما زال غضبي وحنقي، وحالما وجدت نفسي من جديد حرا ً طليقا ً كما كنت، تخلصت من الشعور بالذنب وبالدنس، وعدت من جديد إلى الاستمتاع بالأشياء الصغيرة التي حرمني الانترنت وعلاقاته منها.

أعرف أني أمر بسن حرجة، وهي السن التي يحاول فيها الشباب دوما ً رسم شخصياتهم، وفهم علاقاتهم بمن حولهم، هي سن حرجة لأني لا أستطيع فيها فهم كيف يجب أن أعامل الناس كما أن الناس لا تعرف كيف يجب معاملتي.

هي سن حرجة لأنها بين الطفولة والرشد، ولأنه مطلوب مني حجب الكثير من رغباتي وحماقاتي، لأثبت للجميع أني تجاوزت مرحلة الطفولة ولكل من ألتقيه أني صرت رجلا ً، كم هو الألم والتعب الذي نقع فيه في مثل هذا العمر عندما نعمل جاهدين على حجب وطمس كل آثار الطفولة كأنها آثار جريمة أو عار، كم هو مؤلم أن أمتنع عن إظهار الاهتمام بأي شيء كنت قبل سنوات قليلة أبحث عنه بجنون، كل الأشياء الصغيرة التي كانت تلون حياتي، المجلات المصورة، ألعاب الفيديو، أفلام الكرتون، القصص الرومانسية، الشوكولاتة والحلويات كلها يجب أن أئدها أمام أنظار الجميع لأنال مباركة الولوج إلى عالم الرجولة.

في هذه السن التي أخوض فيها مثل هذه الحرب الشرسة، وأعيش فيها هذه الحالة من التمزق الداخلي وعدم الفهم، يكون علي أيضا ً أن أحدد الكثير من الأشياء التي ستقرر مصير حياتي، فلا عجب إذن أن أجد كل هذه الأخطاء والقرارات الاعتباطية التي تسمني وتسم الكثيرين من أبناء جيلي.

بالتجربة فهمت الآن كيف يجب أن أتعامل مع الانترنت والأرواح الهائمة فيه، كيف يمكنني الوصول إلى العقول والأفكار فيه بدون الوقوع في حبائل العواطف والعلاقات التي تجر ألما ً.

فاطمة صارت تاريخا ً بالنسبة لي، فقدت كل ما يربطني بها في هوجة الغضب تلك، أحرقت وتخلصت من كل ما يذكرني بها، بقيت فقط ذكريات تلك الليالي المسهدة فقط، وذكرى صوتها المتسلل كأفعى.

هل أكرهها؟ لا أظن... ربما فقط أريد أن أتخلص من كل ذكرى لها لأنها تذكرني بضعفي وبأخطائي.

تبقى الآن الجزء الذي أتهيب الوصول إليه والتفكير فيه، الجزء الذي ظننت أني دفنته تحت ركام علاقتي بفاطمة وتحولاتها السريعة، ولكن ها هو قد تبدى بعدما أزحت ذاك الركام وأحرقته، ها هو يتبدى كنقش قديم واضح ومفهوم.

سعد... وعلاقتي به ونهايتها المخزية مازالت تنتظر مني فهما ً أو تفسيرا ً على الأقل لنفسي، من أنت يا سعد؟ وكيف سأنظر إليك الآن بعدما باعد العهد بيننا؟ هل أنت ذلك الفتى النابه الذي لم يجد من يفهمه؟ أم أنت ذلك المغرور الذي لا يرى إلا نفسه.

بالأمس، أو ربما الذي قبله عدت لقراءة روايتك تلك ( صفحات حب تذروها الرياح)، لا أعلم ما الذي ذكرني بها؟ أو لم أردت قراءتها؟ أحسست أنها تجذبني بقوة إليها وعندما انتهيت منها، أدركت كم أنت رائع يا سعد، وقرأت بعض الرموز التي بثثتها في تلكم الحروف.

كانت روايتك تلك رواية بشتى التفاسير، كان خالد فيها هو المثال والأنموذج الذي لم أستطع الوصول إليه، كان الرمز الذي ضل الكثيرون عنه، فكرت بالأمس إذ تذكرت أنك لا تهمل التفاصيل أبدا ً بمغزى الاسمين الذين اخترتهما لأبطالك، لم َ خالد؟ ولم نورا؟ خالد... ربما من الخلود لأنه خلد الفكرة على حساب الشخص، خلد فكرة القوة والانتصار على الضعف، فكرة أن أقوى الأقوياء هو الذي ينتصر على ضعفه وعلى رغباته ويفتح له دربا ً حيث لا دروب، أما نورا فربما من النور الذي يحرق بذاته ولكنه ينير لنا الدرب.

فكرت بالأمس وأوراق روايتك تغفو بين أصابعي، بلم َ كانت نورا في الرواية كالطيف الخفيف بينما استأثر خالد بكل المساحات؟ هل كنت تطلب منا التركيز التام على الفكرة وتجاهل الباقي، أم كنت ترمي إلى أن نورا كالنور يؤلمنا عندما نطيل النظر إليه، عندما نحاول معرفة مصدره بدل الاكتفاء بأثره علينا.

سعد... لم تكن تلك مجرد رواية بل كانت فلسفة حياة، وأظن أني سأحتاج إليها كثيرا ً، أظن أني سأعود إلى قراءتها بين حين وحين لأستخرج منها كنوزها المدفونة في كل سطر، حيث كان غرورك يلزمك بأن تودع في كل عطفة من عطفاتها سرا ًمن أسرارك.

لقد فقدتك يا سعد... وكل ما تبقى لي الحسرة والألم، كنت بشرا ً يا سعد ولكن لا أحد غفر لك بشريتك، طالبناك بأن تكون كاملا ً وأن لا تخطئ كالآخرين، حاولنا تفسير كل أفعالك وتصرفاتك كأنما فرغنا من أفعالنا وتصرفاتنا، لم نغفر لك أن بحر خصالك كان مشوبا ً ببعض زبد الضعف الإنساني، بينما بحيراتنا الصغيرة ماتت كل كائناتها مختنقة بالجهل والزيف.

ربما كنت مغرورا ً يا سعد، ربما أحببت نفسك كثيرا ً جدا ً، ولكنك كنت صادقا ً مع نفسك دوما ً ومع الآخرين، كنت تبحث عن روح تنفس عليك بعضا ً من وحدتك الروحية والعقلية القاتلة، ولكن من قال أن السخف والضحالة تحابي أحدا ً.

لقد علمتني أشياء كثيرة يا سعد، سأظل وفيا ً لها ولأفكارك، سأخبر الجميع دوما ً بأني عرفت شخصا ً مثلك ولكني أضعته بكل بساطة وحماقة، لا بل ربما أكتب عنك يوما ً كتابا ً... رواية، أخبر فيها الجميع عن ذلك الذي منحني أشياء كثيرة في حياتي، ذلك الذي كان ملهما ً لي.

وعندما أفعل ذلك يا سعد، سأتقيد بكل تعليماتك، كل آرائك، سأصنع الرواية كما تحب أن تكون، سأضع النهاية كما تحب أنت النهايات، سأتعامل مع الشخوص كما تتعامل أنت مع شخوصك، لن أكون المدعي والقاضي سأدع الحكم للناس وللتاريخ.

وسأهدي تلك الرواية لك، سيكون كل حرف فيها تحية مفردة لك، وعندما أنتهي سأسميها... ( بلا اتجاه.(


حمد




تمت بحمد الله