بلا اتجاه

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
كان العصر قد انتصف عندما أوقف سعد سيارته بجانب سيارة حمد، ونزل يودعه، وضع يده في يده واحتفظ بها قليلا ً وهو يقول وقد وضع عينيه في عيني حمد:

- تشرفت بمعرفتك، وأشكر لك هذه الزيارة الجميلة، رغم قصرها، وسأزورك في الرياض قريبا ً إن شاء الله.

- أهلا ً وسهلا ً بك في أي وقت، وهذي الساعة المباركة.

- في أمان الله وتوصل بالسلامة.

- الله يسلمك.

وانطلق حمد، وكما قطع الطريق إلى الخبر وهو غارق في الهواجس، عاد أيضا ً وهو يطفح فيها، ولكنها كانت هواجس من نوع آخر، كان سعد يحتل تفكيره، لقد رآه، جالسه، تحدث معه، ولكنه لم يتعرف عليه حتى الآن، يريد أن يعرف أكثر، كل ما عرفه عن سعد مجرد مجموعة آراء أدبية، وشذرات غير ذات أهمية من حياته، يريد أن يعرف الأهم، مثل ما الذي صاغ تفكيره بهذه الطريقة؟ كيف وصل إلى ما وصل إليه وهو في هذه السن؟ وغير هذا كثير من الأسئلة، ولكن لم العجلة ستأتي الأيام بعجاجها.

انتقل تفكيره بعد هذا إلى روايته ذات الفصل اليتيم، هل يفعل ما قاله سعد؟ هل يعجل بقتل أحد أفراد العصابة؟ أم يثبت على قراره ويرجئ ذلك إلى الفصل القادم؟ أدرا الفكرة في رأسه ثم قر قراره على العمل باقتراح سعد، سيدع جهز يموت في الفصل القادم.

وهكذا مضى ينقل أفكاره ويكد عقله، حتى وصل إلى المكان الذي يترك منه الطريق المعبد ويخوض في الأرض المبثوثة حصى ونباتات برية ليصل إلى المخيم، ضيق عينيه وخفف سرعته ومضى تكلله سحابة من الغبار يخترق الطريق الذي اعتاده، حتى وصل المخيم والساعة قد أوفت على العاشرة مساءا ً.

تسلل إلى أذنيه صرير الحشرات الليلية مخلوطا ً بضحكات أصدقائه عندما نزل، تنفس بعمق ووقف بجانب السيارة في الظلام، ومرت في ذهنه لمحات من كل ما فعله خلال هذا اليوم العجيب، فكر في رحلته كلها، لقاءه بسعد، وطفت في ذاكرته وبلا سبب صورة للكرسيين الذين رآهما في حديقة بيت سعد.

طرد الأفكار من ذهنه ومشى إلى حيث يقوده وهج النار التي التف حولها صحبه، وعندما لاح لهم جاءه صوت مروان:

- هلا... هلا والله.

- السلام عليكم.

جاءه الرد بأصوات مختلطة، صافح الجميع وجلس مستدبرا ً النار، استل ناصر من دلو ملئ بالماء والبيالات (بيالة) صب فيها شايا ً وناولها له وهو يقول:

- والله وفقدناك اليوم يا أبو علي.

- الله يسلمك.

مروان: أبو سعود اليوم ضاق صدره عشانك مشيت، حتى أنه بغى ما يتعشى من ضيقة الصدر.

ناصر: هههه، أشوى أنه يأكل بيديه الثنتين.

ضحك حمد، فيما تململ عبدالعزيز وقال وهو يحدج ناصر بنظره:

- والله ما خلص العشاء إلا أنتم يا راعين الكروش، وخصوصا ً هالدب.

وأشار برأسه إلى مروان، الذي أشار بإصبعه إلى فم عبدالعزيز وقال وهو يتصنع الجدية:

- أبو سعود... فيه مايونيز على فمك.

مسح عبدالعزيز فمه، فأنفجر مروان وناصر ضحكا ً:

مروان: شفت أنك مشفوح، الله لا يبلانا بس.

ناصر: ههههه، ترى أبو سعود ضايق صدره أن الأكل باليمين بس.

* * *

عندما انفرد حمد بمروان حول النار، كان الليل قد انتصف والبقية قد أووا إلى فرشهم، قال مروان وهو يحرك النار الخابية بعود طويل:

- قرأت الفصل اللي أعطيتني إياه.

- وش رأيك؟

- بصراحة حلو.

- وش اللي عجبك فيه؟

- شف أنا ما عندي هرج واجد... ما راح أقولك مثل باقي الناس ( فضاء الرواية ينقلنا إلى عوالم أرحب، والتواجد الزمكاني للبطل يحاول التضافر مع عوامل السرد لنحصل على مزيج من الرتمية والحس الواعي) إلى آخر هالكلام الفاضي، أنا ما عندي إلا كلمتين حلوة أو مهيب حلوة، بس.

مرت في ذهن حمد صورة سعد وهو يستفيض في نقد فصله والكلام يتدفق من فمه، وقارنها مع صورة مروان الذي قال هذه الكلمات اللا مبالية وهو يمد رجليه في اتجاه النار وقد اتكئ على وسادة خلفه مفسحا ً المجال لكرشه لتتمدد للأمام، طرد المقارنة من ذهنه سريعا ً، وقال ليتجاوز الموضوع:

- وروايتك... متى بتنزلها؟

- قريبا ً... لا تستعجلها بتأكل الجو عليك أنت والكتاب بالمنتدى.

- ههههههه، يصير خير.

- إلا على فكرة، اليوم وش السالفة؟ ما كنت طبيعي الصباح، كنت ضايق صدرك وكان فيه شيء مثقل عليك، والآن مبسوط كأنه هم وزال عنك، عسى ما كان فيه مشكلة وإلا شيء؟

صمت حمد قليلا ً، ثم لم يدري لم انطلق لسانه لينهي إلى مروان بخبر سفره كاملا ً، ذكر كل شيء من بداية تعرفه على سعد إلى لقائه اليوم معه، أغفل فقط حكاية الروائية الجماعية لأنه لم يحن وقتها.

صمت مروان وتلقى الحكاية كاملة وهو يحرك الرماد والجمر، وعندما انتهى حمد قال:

- والله إنك مهبول... وشلون تسافر لواحد ما تدري من هو؟ ولا تعرف أي شيء عنه، وبدون ما تبلغ أهلك، أو حتى تبلغ أي أحد بمكانك، يعني لو لا سمح الله صارت لك مشكلة وشلون بندري عنك؟ المفروض بلغتني أنا على الأقل.

- والله إنك صادق... لكن ما جاء على بالي... كنت مستعجل فتصرفت بهالشكل.

- وبعدين هذي خاتمتها يالردي... تخلي ربعك وأخوياك كذا، وتسافر عشان واحد يكتب بمنتدى... يا خسارة تربيتي فيك.

- ههههههه، أقول ضف وجهك، أنت ما تربي ولا عنز.

- المهم... نصيحة لوجه الله، لا تصير مطفوق، مهوب كل واحد يعجبك كلامه و إلا كتابته تروح تركض له، ترى الواحد ممكن يكون أسلوبه في الكتابة ملاك، لكن لما تقابله تكتشف أنه شيطان في صورة إنسان.

- فعلا ً... يعني أنت مثلا ً يا مروان لما الواحد يقرأ لك يحس أنك فاهم، لكن لما يقعد معك يكتشف أنك ما عندك ما عند جدتي.

- الشرهة مهيب عليك الشرهة علي اللي أضيع وقتي معك... أقوم أنام أصرف لي.

ونهض فلحقه حمد وأطفأ النار، وعندما استوى حمد على فراشه، بدا له اليوم الذي مضى طويلا ً جدا ً وحافلا ً، و تواردت إلى ذهنه عندما تدلى في جب النوم صور كثيرة، مروان وعبدالعزيز يصنعان القهوة صباحا ً، جذع شجرة محروق طرفه وعلى الطرف الآخر نقشت ذكريات مجهولة، عامل بنغالي ذو سن مكسور في بقالة مغبرة، شواخص الطريق وهي تمر به أو هو يمر بها، مواقف الراشد، سعد، غمازات سعد، المسجد الشامي، حديقة، نخلة، كرسي في الحديقة، دجاج وسمك، جوال، بحر... بحر... بح... وسحبه الموج إلى الأعماق فنام.

*
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
* *

مضى يوم الجمعة سريعا ً، وصارت السفرة الخاطفة مجرد ذكرى، وبدأت ملامح سعد تذوب، حتى أن حمد تساءل " هل حقا ً كنت بالأمس في الخبر؟"، عاد إلى المنزل بتساؤلاته وذكرياته.

وعندما انتهى من السلام على أهله، وقبل رأسي أمه وأبيه، قصد دورة المياه وألقى بنفسه في البانيو الذي ملأه ماءا ً دافئا ً، أسند رأسه إلى الطرف وأغمض عينيه، أحس بالماء يجلو تعبه، اضطرابه، يرتب ذاته المتناثرة.

أمضى قرابة الساعة وهو مسترخ ٍ، والأفكار تتجول بهدوء في طرقات عقله، فكر في روايته، لقد قرر أن يفعل ما قاله سعد، سيدع جهز يموت في هذا الفصل، وسيكون هذا الموت بعبارات حاسمة وقوية وبدون ابتذال للمشاعر، وسيرى كيف يتلقى القراء النص.

خرج من الحوض، جفف جسده، وتناول عشاءا ً خفيفا ً ثم جلس أمام الجهاز، ألقى برأسه للخلف وجعل يدير الكلمات في ذهنه، سيبدأ بداية صاعقة، هو يحب مثل هذه البدايات، عندما تحاصر القارئ بمجموعة من الأحداث المتوالية، ثم تنسحب بهدوء وتبدأ من البداية لتفسر ما حدث.

فتح صفحة بيضاء على معالج النصوص ( الوورد)، كتب في أعلاها ( الفصل الثاني) ثم بدأ يكتب سطرا ً ثم يمسحه وهو شارد والكلمات تتداول في عقله، ثم جاءت الكلمة وتلتها أخرى، وتتابعت الكلمات، واستحالت صفحة ثم صفحات، حتى مضت ساعة وهو منطلق وعندما توقف عن الكتابة كان بين يديه فصل وليد.

* * *

في مدينة الخبر/ 10.45 مساءا ً.

كان السكون يلف حديقة المنزل، التي تلمع أعشابها من أثر الماء، وتحت العريشة التي غطتها النباتات المتسلقة جلست نوال، كان الهواء المحمل برطوبة خفيفة منعشة يهب مداعبا ً وجنتيها وشعرها.

كانت تجلس على كرسي الخيزران المبطن تبطينا ً جيدا ً، وعلى ركبتيها استقر جهاز محمول تداعب أصابعها مفاتيحه الناعمة، وتلقي شاشته الصغيرة نورا ً خافتا ً على وجهها وسط الظلمة التي لفت المكان، كانت منهمكة في وضع اللمسات الأخيرة على تصميم من تصميماتها الحالمة التي تفيض بالأطفال والزهور والطيور والألوان الهادئة.

جاءت نوال كدرة العقد بين أخوتها وأخواتها، فجمالها ورقتها كانت تضفي عليها هالة سحر تقتحم القلوب بسهولة، ذات بشرة بيضاء وعينين حوراوين وغمازات في خدها تتراقص بجنون عندما تضحك، وشعر يكلل رأسها كتاج رباني أسود، كانت تسمى بين زميلاتها في المدرسة ( سالي) لشبهها بـ ( سالي) بطلة أحد أفلام الكرتون الشهيرة ولرقتها ولطفها، وامتد عبث الفتيات إلى تسمية المديرة بالآنسة ( منشن) لأسباب ليس هذا مجال ذكرها.

ورغم التدليل والمعاملة الخاصة التي نالتها نوال من أبيها ومن سعد وأخوتها من أبيها فإن هذا لم ينشئها مدللة، سطحية، لا يتعدى تفكيرها رغبتها ونزواتها كما يحدث دائما ً، بل جاءت تربية أمها الحازمة لتوازن الدفة وتصنع من نوال شخصية آسرة.

في مثل هذا الجو نشأت نوال رقيقة مرهفة الحس، تحب الرسم والذي طورته إلى التصميم على برامج التصميم الحديثة، وتكتب خواطر بسيطة تدونها في مفكرة ذات قفل صغير.

كل فتاة في الدنيا عندما تبدأ عواطفها في التشكل تفتش عن رمز تحبه، لا حبا ً عاطفيا ً كحبيب بل حبا ً خالصا ً كرمز، قد يكون هذا الرمز أبا ً أو أخا ً أو عما ً أو حاكم البلد، قد يكون حيا ً وقد يكون ميتا ً، لأن الفتيات يختلفن عن الفتيان بأن الحب لديهن متعلق بالأشخاص لا الأشياء، الحب لدى الشاب انتقائي، فهو يحب شكل فلان، عيني فلانة، وأخلاق فلان الثاني، وأناقة فلان الثالث وهكذا، بينما تركز الفتاة حبها كله في شخص محدد، فتحبه بكل ما فيه، تحب شكله وكلامه وضحكته والتفاتته وحتى مشيته، ولذلك عندما تحب الفتاة تحب بإخلاص، وفي حالة نوال كان هذا الرمز الذي درجت على حبه أخوها سعد.

وعلى مر السنين ورغم تقلباته النفسية وانعزاله ظلت حب سعد عامرا ً في قلب نوال، بل ربما غلت في حبه حتى بدأت تظن أنها لن تحب أحد مثلما أحبته، وظلت دوما ً تحاول التقرب منه، وتنفيذ طلباته البسيطة التي لا تتعدى صنع ألوان من الطعام يفضلها، أو تهيئة المنزل لاستقبال أحد أصدقائه القليلين، ولذلك عندما طلب منها يوما ً مساعدته في تصميم منتدى على الانترنت حلقت فرحا ً بهذه الخطوة التي قد تعيد إليها سالف الأيام.

ثم بدأ في كتابة القصص القصيرة، فتحمست لمتابعتها، حتى أنها صارت تحملها معها إلى المدرسة لتطلع بفخر زميلاتها عليها، وجعلت من نفسها القارئة الأولى له، حتى صار يعطيها القصة لتقرأها قبل أن يضعها في المنتدى، ثم شرع في كتابة رواية، حينها وصل حماسها إلى القمة، وتتبعت بطليه خالد ونورا وأحبتهما، أحبت بساطة خالد كما أحبت عمق نورا، وتمنت أن لو تكون نورا وأن يأتي يوما ً خالد الذي يكتب فيها المعلقات، وبلغ من هوسها أن صارت تبكي بعيدا ً عن العيون عندما تقرأ كلمات خالد اليائسة، وتتمنى لو تطلب من سعد أن لا يقسو عليه.

في ذلك المساء كان التصميم الذي بين يديها يكاد ينتهي، عندما سمعت باب البيت الداخلي يفتح ورأت سعد يبرز منه خارجا ً وبين يديه مجموعة من الأوراق، قصدها وهو يرفع الأوراق إلى رأسه، هتفت فرحا ً:

- الفصل السادس؟

- ايه.

- ما شاء الله... ايش النشاط هذا؟ العادة الفصل يأخذ منك وقت أكثر.

- آه... لو تدرين الفصل هذا قد ايش تعبني ودوخني، المهم... الفصل بين يديك ِ، أنا الآن بطلع البحر، أبغى أغير جو وأشم هواء بعد التعب هذا كله.

- في هالوقت؟ مو عادتك. ( قالتها وهي تنظر إلى ساعة يدها التي قاربت الحادية عشرة).

- محتاج للخروج... أبي أغير جو، أقرأي الفصل... أريد رأيك ِ قبل أن انشره غدا ً.

وغادر المكان بخطوات خفيفة، فأغلقت نوال جهازها وحملته مع الأوراق إلى الدور الثاني حيث غرفتها الصغيرة، وضعت المحمول على المكتب، وأطفأت الأنوار وألقت بنفسها على السرير مضيئة نور القراءة المجاور للسرير والذي يزودها بالجو الخاص بها.

تحسست الأوراق التي بدت لها أكثر من المعتاد، أملت نفسها بفصل دسم، ومرت بأصابعها على الحروف المنغرسة في لحمة الورق، وهي تتأمل خط سعد الذي يلتهم الكلمات من السرعة.

بدأت عيناها بالمرور على السطور محركة شفتيها بهمس خافت مرددة ما تقرأه، وعندما بدأت كلمات الفصل تتوالى بدأت أصابعها تتوتر على الورق ودقات قلبها تزداد، وقلبت الأوراق بأصابع مرتجفة، وتوالت الحروف كدر عقد مقطوع، وبدأ سؤال مجنون يثب في ذهنها وهي تقترب من الورقة الأخيرة، وعندما بلغتها سقطت الورقة من يدها وتهادت لتحط على بقية الأوراق، وهناك على خدها الأسيل لمع خيط من الدمع، وبعد ثانية تبعه خيط ثان ٍ.

* * * * * * * * *
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الفصل الحادي عشر

في لحظة فتحت عينيها، كان نور مصباح القراءة يبدد جزء ً صغيرا ً من ظلام الغرفة، حركت يدها فأحست بآلام في رسغها فأدركت أنها قد نامت متكئة على يدها.

كان الفجر قد حل، نهضت بتثاقل وأدت فرضها وعندما انتهت أنارت الغرفة، لمحت الأوراق المتناثرة على السرير، وعادت إلى ذهنها الكلمات المسطورة فيها، وداخلها شعور بالضيق والهم، تناولت الأوراق، جمعتها في حزمة واحدة، وعادت لتستلقي في السرير وتقرأ بتعب وحزن.

كان الفصل الذي بين يديها عبارة عن رسالة طويلة جدا ً من خالد إلى نورا، وكانت الرسالة تبدأ بـ :

( حبيبتي نورا

لحظة... لا تعقدي حاجبيك ِ ولا تسخطي على جرأتي، أعرف أنها أول مرة أخاطبك ِ بها بهذا اللقب، بل أنت ِ أول من أقول لها " حبيبتي"، ولكن خذيني بالرفق وأقرئي الرسالة إلى نهايتها.

سأحدثك ِ في هذه الرسالة عن نفسي فأنا لم أحدثك ِ عنها إلا القليل، سأفعل الآن وإن كان لي عندك ِ فضلة مودة لم تطيرها كلمتي السابقة فلا تتململي من حديثي، فقد كنت أسعد كثيرا ً عندما كنت تحدثيني عن نفسك، آرائك، صديقاتك، واليوم أظن أني قادر على الرد بالمثل.

ولدت في صيف لاهب في قرية صغيرة مطمورة بالرمال، كنت أول حفيد لجدي، وربما هذا هو السبب الذي جعله يفقد وقاره كما أخبرتني أمي، حيث صار يأتي كل حين إلى غرفة النساء ليطل علي في المهد، يتأمل خلقتي وملامحي الصغيرة وهو يردد ( ما شاء الله... ما شاء الله... الخشم خشم عمه سلطان، والعيون عيون أميمته، والخشيشة خشيشة خالته أسماء، يا الله أنك تغفر لي والوالدي، اللهم صلي على محمد... يا زين ذا الولد زيناه... كله ملح)، طبعا ً هي ملاحة وفق مقاييس جدي وللمرآة رأي آخر.

كان أبي يعمل عملا ً ما، تجارة أو نقل يقضي بأن يتنقل بين السعودية والكويت، فكان يتغيب عن القرية شهورا ً، نقضيها أنا وأمي في كنف جدي، عندما كبرت قليلا ً أدركت أنه هناك عدم استلطاف مخفي بين أمي وعماتي، هو شيء من أمور النساء التي تعرفينها، أظن أن عماتي كن يردن تزويج أبي امرأة ما وخيب أبي آمالهن بزواجه من أمي فغضبن وصرن يعاملنها بجفاف، وأمي ليست ناقصة لسان ولا خافتة صوت، كانت ترد الصاع صاعين، ونشأت أنا بين الفريقين، كنت أتلقى القبلات من كليهما، وخصوصا ً من عمتي فاطمة التي مازلت أتذكر قبلاتها المبللة باللعاب وأنفاسها اللاهثة.

عندما اقتربت من السابعة قال أبي لأمي أنه سيأخذنا إلى الرياض حتى أدخل المدرسة وأصير "أستاد" كما كان يتمنى فيما كانت أمي تأمل أن أكون إماما ً للحرم المكي وهو حلم لم يتحقق كما ترين، صحيح أني صرت إماما ً لمسجد حينا الصغير لفترة بسيطة في أحد الرمضانات، وكنت أجتهد حينها في القراءة من المصحف والترتيل بصوت كنت أحسبه شجيا ً، حتى جاء يوم قرأت فيه سورة الأنعام ولم أنتبه أن هناك يدا ً أثيمة قد انتزعت صفحة كاملة من المصحف، عندما أحس المأمومون بقفزي لعدد من الآيات ردوا علي فأصررت على موقفي لأن المصحف بين يدي وأرى ما لا يرون، عندما انتهت الصلاة نبهوني على خطأي، أريتهم المصحف بعناد، فضحكوا وهم يشيرون إلى أرقام الصفحات، تواريت أنا خجلا ً من بلاهتي، وفي الغد قدموا غيري.

دخلت المدرسة واجتهدت في الدرس والتحصيل، وخصوصا ً أن أبي كان لديه نظرية تربوية جميلة اسمها " نظرية اللعاب" تتحدث هذه النظرية عن أن " أن كل العيال لعابين، وأن الولد ما ينضبط إلا إذا مسيته بالعقال وإلا الخيزرانة"، هذه النظرية كانت حافزا ً من حوافز لي لأجتهد، وبغض النظر هل كنت لعابا ً أم لا، فالحاصل هو أني كنت أنجح وإن كان نجاحا ً بسيطا ً، حتى تخرجت من الثانوي ودخلت في كلية المعلمين لأحقق حلم أبي وأصير " أستاد".

هنا يجب أن أتوقف وأن أعترف، صحيح أني اخترت قسم اللغة العربية، وصحيح أنه كان لزاما ً علي أن أقرأ كثيرا ً في التراث العربي حتى أحصل على مادة علمية تخولني النجاح، ولكني رغم ذلك كنت شابا ً متواضع القدرات، بلا حلم، بلا طموح، بلا هدف.

ثم جئت أنت ِ، كان الأمر كأني كنت راقدا ً سنوات طويلة في قبر مفتوح، والأتربة تنثال علي ببطء، وأن بابا ً من السماء فتح وأطللت أنت ِ منه وقلت ِ لي قم فقد طال رقادك، فقمت كأني بعثت جديدا ً.

نورا... لقد مرت بي أيام كنت أمضي فيها في الحياة، أدرس وآكل وأشرب، أضحك وأسافر وأصخب، ولكن عندما أتيت أني بدأت أفكر، لقد أيقظت ِ عندي الرغبة في التغيير.

لا أظن أني يوما ً من الأيام سأوفيك ِ حقا ً أو سأستطيع أن أرد لكي جميلا ً، لا... لا... لا ترفعي حاجبا ً وتهزي رأسا ً وتقولي ولكن ماذا فعلت أنا لكي أستحق كل هذا؟

نورا... يا نور حياتي وبهجتها، كنت أقرأ في الكلية للجاحظ، والتوحيدي، وابن خلدون، والمعري في الأقدمين، وللرافعي والزيات والعقاد والطنطاوي في الآخرين، ولكني كنت أقرأ لهم قراءة لا تجاوز حلقي ولا تنفذ إلى عقلي وقلبي، لا زهدا ً فيما يكتبون ولكنه الشيء عندما يفرض على الواحد منا فلا يقبله، ثم جاء اليوم الذي قرأت فيه لكي فأيقنت حينها أني لم أقرأ قبلها كتابا ً ولم أفهم خطابا ً.

قد تظنين أني أبالغ في كلامي، وأن حبي لكي يجرح شهادتي في قلمك، ولكن سأخبرك ِ ماذا فعلت بأحد مقالاتك ِ التي أذهبت عقلي، حيث أني نسخت مقالك ِ الشهير " التعب الأدنى" بعدما كلفت به، ولم أذيله باسم بل كتبت في أسفله " كاتب ناشئ ينتظر رأيك" ودفعت المقال تحت باب أحد المحاضرين لدينا في الكلية، وهو ناقد معروف وله بحوث ودراسات لها احترامها، وعدت بعدها بأيام لأجد ورقة ملصقة على بابه مكتوب فيها

" إلى كاتب ناشئ

قرأت ما خطته يداك يا بني، وحري بمن له هذا القلم أن يطرق الباب وأن يعرض نفسه للعيان لا أن يدفع بأوراقه من تحت الأبواب كأنها منشورات أو محظورات، تابع دربك فهو طويل ولكن لا تبخس نفسك حقها، واسأل الله لك التوفيق والسداد."

ذهلت فهذا الناقد معروف بعنفه وقلمه الذي يسوط به الكتاب والشعراء، هل تذكرين الرواية التي فازت بتلك الجائزة الخليجية، هو عينه الناقد الذي ساط الكاتب واللجنة التي تقدم الجائزة، وقال فيهم قولته الشهيرة " الذي يهرف بما لا يعرف يجيزه الذين لن يعرفوا يوما ً أنهم لا يعرفون"، المهم أني ذهلت أنه لم يشذب المقال ولم يهاجم الكاتب كما يبدو أنها هوايته الأثيرة.

نورا... صحيح أنك ِ لم تأتي بجديد في اللغة أو في الأدب، ولكنك ِ من الذين يعرفون طريق القلب، الذين تلين لهم الكلمات وتتقلب حيث يريدون، الذين يجاوزون المواضيع التقليدية ليعبروا عن هواجس القراء، رغباتهم، أحلامهم وخيباتهم، أنت ِ تستطيعين أن تقولي ما يتلجلج في صدور الجميع ولكنهم يعجزون عن الإتيان به حتى يروه مسطورا ً بين يديهم فيقولوا يا الله ما أجمل هذا وأبسطه، كأن الكاتب أطلع على أفئدتنا فقال ما أردنا أن نقوله.

نورا... الحب يجترح المعجزات، وحبك ِ صنع معجزتي، انتشلني من هوة الضياع، من الوقت الذي يمضي سدى، تعرفت عليك ِ ذات أحد، كانت الساعة الحادية عشر ليلا ً وكنت قد قصدت مقهى الانترنت الذي يبعد عن منزلنا ثلاثة شوارع والذي آتيه عندما أستشعر الملل، كان مظلما ً وغمامة من الدخان تطوق الجالسين فيه، انتحيت الركن الذي أفضله، ومضيت أتجول في الانترنت بلا هدف، في يوم الأحد المبارك ذاك الذي مر عليه الآن سبعة أشهر و اثنان وعشرون يوما ً، ولجت المنتدى إياه ووقعت عيناي على قصتك ِ ( مذكرات أحمر شفاه) جذبني العنوان كما تجذب عبارة ( تخفيضات 70 %) النساء ( ههههه، أعترف أني لا أجيد أسلوبك ِ في التهكم والتعبير، لا تشرهين)، ما علينا قرأت قصتك ِ مرتين وسط رائحة الدخان الخانقة، فأحسست كأن الرائحة النتنة قد زالت وحل محلها عطر غامض مجهول، طفقت كالمجنون أبحث عن قصصك ِ الأخرى في الموقع، وجدت يومها قصة ( فتاة غلاف) ومقالك ِ ( التعب الأدنى).
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
عدت إلى المنزل فجرا ً، أحمل في جلدي وملابسي رائحة الدخان العفنة، وبين جوانحي عطر كتاباتك الغامض، ورغم أني ارتجفت تحت دفق الماء البارد فإن النار التي بعثتها حروفك ِ لم تخبو بين جنبي، كانت قد تبقت ساعتان على موعد المحاضرة الأولى ولكني لم أنم، جلست ككاهن من قبيلة الزن اليابانية على السرير أستمع لضجيج المدينة التي تستيقظ، وأفكر بك ِ، كنت أتخيلك ِ حينها نائمة بوداعة رضيع.

عدت طبعا ً لأقرأ ما كتبته مرات ومرات، و لأتتبع كل ما تكتبينه حتى وعيت في يوم من الأيام على حقيقة أني بدأت أحبك ِ، لم نكن قد تبادلنا حرفا ً واحدا ً حينها، كنت أيامها أخجل أن أخط لك ِ ولو سطرا ً واحدا ً بلغتي المتواضعة ومفرداتي القليلة، كنت قانعا ً بأن أقرأ لك ِ فقط، أن أعب حروفك ِ وأن أستنشق عبقها، وأن أترك لخيالي رسم تفاصيل ملامحك.

حتى بلغ الحب مني الشغاف، وجاوز الأعطاف، جلست يوما ً على مكتبي الصغير الذي تغطيه الكتب الجامعية والمذكرات والملخصات، وبين يدي ورقة بيضاء مسطرة، وجعلت أتأمل الخطوط الزرقاء الدقيقة المتوازية وأنا أكد ذهني بحثا ً عن شيء أكتبه لك ِ، وكلما فكرت في جملة أعود فأنبذها مستسخفا ً، حتى أدركني اليأس، فرفعت بصري إلى سادة القلم المستقرين على مكتبي، استعطفت المازني، وتملقت الرافعي، وداهنت الزيات، ولكنهم كانوا عني في سبات.

يومها أوقد حبك ِ شرارة الثورة، ثورة العاشق الذي اقتضى حبه أن يغير نظام حياته من أجل حبيبته، ثورة عصفت بكل شيء في حياتي، برنامجي اليومي، هواياتي، الناس من حولي، يومها وضعت رسالة لائقة لك ِ كهدف أمامي ومضيت أبحث عن كل ما يؤهلني لأكتب لك ِ، نورا... كان الطريق مريرا ً متعبا ً، أمضيت شهرين في الصيف في القراءة اليومية، وألغيت سفرة كنت قد أعددت لها مع أصدقائي، وفي النهاية صار بين يدي رسالة أستطيع أن أرسلها لك ِ، كانت هي الأولى، وصار ما تعرفين من ردك ِ علي، والرسائل التي تبادلناها، وانتقالنا إلى الحديث المباشر على المسينجر وصولا ً إلى رسالة اليوم.

نورا... كنت قد قطعت على نفسي عهدا ً أن لا أؤذيك بكلمة، كنت أتخير ألفاظي لك ِ رغم لهفتي الشديدة وحبي الجارف، كنت آنف أن أدنس طهرك ِ وأن أتجاوز أخلاقي وتربيتي، كنت أكبت الحب وأعيد النظر في الحروف لأتأكد أن لا كلمة تسللت من رقابتي الصارمة.

تتسألين ما الذي غيرني اليوم؟ هل تجاوزت أخلاقياتي؟ هل أرضى أن يمسك ِ سوء أو أن تعلوك ِ كآبة؟ لا والله... دون ذلك الموت، ولكني تعبت يا نورا... تعبت... وصار يتملكني الآن شعور عداء المسافات الطويلة الذي جرى كل المسافة ثم أدرك في اللحظات الأخيرة أن السباق ألغي، وأن تعبه وجهده لا معنى له.

نورا... أدركت منذ فترة بسيطة ومن سياق كلامك ِ أنه لا مكان لي في قلبك، لا الآن... ولا مستقبلا ً، وأن نظرتك ِ لن تتعدى يوما ً ( القروي البائس الذي يلوك الحروف)، يقولون في الإستراتيجية العسكرية دائما ً لا تبدأ حربا ً لا تستطيع كسبها، أنا لن أكسب هذه الحرب.

وبما أني خاسر لا محالة، واستباقا ً للطعنة القادمة، فسأمزق فؤادي مختارا ً وأرحل، سأحمل حروفي الكسيرة، سأحمل بقايا الحلم الميت بين يدي كطفل مات اختناقا ً، سأرحل لأوقف الاستنزاف اليومي لقلبي.

منذ يومين أعطيت أمي الإشارة التي كانت تنتظرها لتبدأ رحلة البحث عن زوجة لي، لم أشترط شيئا ً، تدور أمي الآن باحثة عن هذه البائسة الصغيرة المتشبثة بالحلم، هذه البائسة التي ستفرح عندما يقال لها أنه هناك من تقدم لها، ستبدأ بالاستعداد... ستطوف الأسواق لتشتري كل جديد وجميل تكسو به جسدها، وفي ليلة العمر ستبكي أمها وهي تودعها، ستزهو في حفل أمام الحاضرات وأمام صديقاتها وقريباتها، ثم ستخطو إلى منزل قد سد صاحبه قلبه منذ زمن، وبعد أيام تعلم إلى أي قبر اقتيدت، لن تسمع أصداء الكلام الجميل... سترى بؤسها يجوب زوايا المنزل، تهرع بهلع إلى الهاتف... تحدث صديقاتها بهستيريا ( ما يكلمني كثير... ما ني قادرة أفهمه يا بنات... أحس إني مخنوقة... ياليتني ما تزوجت... خايفة... خايفة) سيطمئنونها ويطالبونها بالصبر وأنه ستتغير الأحوال إلى الأفضل مع الأيام، وتمر الأيام ولا يتحسن شيء وترضى هي بواقعها الكئيب، ويبقى صاحب القلب المغلق يتمتم نورا.

أليست بائسة؟ لا... لا... لست متوحشا ً يا نورا، أنا عاشق مصدوم، يتقلب كل ليلة على الألم بأن حبيبته ستذهب إلى غيره، وأن كلماتها وضحكاتها سيستمتع بها رجل آخر. )

توقفت نوال عن القراءة مع تجمع الدموع في عينيها من جديد، أخذت نفسا ً عميقا ً، نظرت إلى الساعة، لم يتبقى الكثير على موعد ذهابها إلى المدرسة، نهضت لتصلح من حالها.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
عندما انتهت كانت قد تبقت خمس دقائق على موعد خروجها، وبدلا ً من أن تتناول إفطارها المعتاد، تناولت الأوراق وقفزت بقية الأوراق وقصدت الصفحة الأخيرة:

(

هكذا... لا رسالة بعد اليوم ستصلك ِ مني، ولا رسالة منك ِ سوف أستلمها، سأقوم بإلغاء هذا البريد الآن، لن ألج المنتدى يوما ً... بل ربما أغادر الانترنت كاملا ً... كل ما سأصطحبه معي حبك ِ... كلماتك ِ... والامتنان العظيم على الدافع الذي وفرته لي لأرقى بنفسي فكريا ً... والألم العميق من تأثيرك ِ على نفسيتي وصحتي.

نورا... هو الوداع... لا لقاء إلا في الجنات بإذن الله، أتمنى أن لا أكون مجرد شخص عابر في حياتك.

أرى الطريق الآن يتبدى لي موحشا ً، كمسافر مع قافلة اكتشف في القفار أنه فقدهم، أنا الضائع يا نورا في قفار الحب، أنا التائه الشريد.

أهدي لك ِ بيتين نظمتهما:

هونا على قلبي ولا تذهبا /// بروحي فما زلت متعبا
إذا المجنون بليلى مات معدما /// فأنا في نورا أحيا معذبا

خالد

انتهت الرسالة

* * *

((إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ))

- تمت الرواية بحمد الله –)

لفت نوال الأوراق وحملت حقيبتها وانطلقت إلى سيارة سعد التي تنتظرها في الخارج.

* * *

انطلق سعد بالسيارة حالما ركبتها نوال، تركا الصمت يغطيهما ببردته، كانت هي ترمق وجهه المختفي خلف النظارة الشمسية القاتمة بطرف خفي، تحاول النفاذ إلى مشاعره، وعندما يئست مدت له الأوراق المطوية بهدوء.

انتبه ليدها الممدودة، فتناول الرزمة وعرف فيها فصله السادس والأخير، ألقى بالأوراق بلا مبالاة في المقاعد الخلفية وسألها:

- كيف شفتي الفصل؟

سكتت هي قليلا ً لتبحث عن كلمات مناسبة، ولتبلل حلقا ً جافا ً ثم أجابت:

- ليش سويت كذا؟ حرام عليك تخلص الرواية وهي في الفصل السادس، يعني الرواية توها بادية، وبعدين ليش خالد يترك نورا... يعني مو معقولة... ما تصير في الواقع، الواحد ما يترك وحده يحبها، القصة كذا صارت مرة سخيفة.

ضحك سعد باستخفاف، وقال وهو يلف حول إشارة ليعود في الاتجاه العكسي:

- والله النشبة... وش تبيني أسوي؟ أخلي خالد يخطب نورا، ونورا تقوله كلم أبوي وتعطيه مسينجر أبوها، ويدخل خالد على أبوها في المسينجر ويقول له ( داخل على ثم عليك، ما أقبل إنك تضيفني عندك إلا إذا حققت طلبي، أنا والوالدة شفنا بنتك نورا في منتدى وجازت لنا، وأبيها على سنة الله ورسوله) عاد يرد أبوها ( هذي الساعة المباركة يا ولدي، هات مسينجر أبوك ومسينجرات ربعك عشان نسأل عنك، أنت عارف يا ولدي الأصول)، ههههههههههه.

- هاهاه... ما تضحك... أنا ما قلت كذا، لكن كنت تقدر تكمل القصة وتخليها أحسن من كذا.

- يا نوال... يا حبيبتي... كيف أكملها؟ خلاص خالد طوال الوقت يرسل لها في الفصول السابقة، لازم تكون هناك نهاية، وما فيه أحلى من هذي النهاية، حبيبتي هذا الواقع، وأنت عارفه الشيء هذا، لا تخلين عواطفك تتدخل، علاقة زي العلاقة هذي، كيف نهايتها؟ قولي لي؟

- ما أدري... لكن مو بالشكل هذا... حاسة الرواية مبتورة، وحاسة إنك قسيت على خالد.

- أنا قسيت على خالد؟ أنا؟ أنا خليته بطل يا شاطرة... خليته يتخذ قراره بنفسه، خليته رجل يعرف متى يوقف ويقول لا وينسحب بكرامته، بدل ما يجلس ينتظر اليوم اللي هي تقوله فيه، أنا انخطبت يا خالد مع السلامة.

كان قد توقف عند مدرستها، ففتحت هي الباب، والتفتت إليه:

- عموما ً... نصيحتي لك لا تنزلها في المنتدى بالشكل هذا، لأنه ما راح أحد يتقبلها بالشكل هذا.

- فات الأوان... نزلتها قبل نصف ساعة.

* * *

الرياض/ نفس اليوم العاشرة والنصف مساء ً.

جلس حمد يستمع إلى الرنين المميز للاتصال بالانترنت، وعندما تم الاتصال قصد المسينجر وأدخل كلمة السر ثم ضغط رابط منتدى ( أقلام بلا اتجاه) وطفق ينتظر أيهما يفتح أولا ً، كان المسينجر الأسبق، وكان سعد موجودا ً، نقر حمد بسرعة:

حمد: السلام عليكم.

سعد: وعليكم السلام... هلا والله.

حمد: ما توقعت أحصلك هالوقت.

سعد: ما لي وقت محدد... ممكن تحصلني في أي وقت.

حمد: وكيف حالكم؟ طيبين؟

سعد: ههههههه، شكلك ما دخلت المنتدى وشفت المناحة اللي فيه.

حمد: مناحة؟ أي مناحة؟ وش السالفة؟

سعد: أبدا ً بس نزلت الفصل السادس والظاهر ما أعجب القراء الأعزاء، والله سخافة، روح أقرأ الردود والله تحس إنك تكتب على جدران شارع مهوب منتدى محترم.

حمد: أح... أح... وراك معصب؟ لحظات بقرأ الفصل والردود وأرجع لك.

سعد: أنا بطلع أشوفك بكرة وآخذ رأيك، مع السلامة.

حمد: خير إن شاء الله... مع السلامة.

* * *

قرأ حمد الفصل بسرعة، وعندما انتهى توقف يتأمل النهاية الغريبة باستغراب والتي جاءت كقطع لخيط السرد، ولكن في داخله تولد إعجاب بتصرف سعد الذي أخلص لأفكاره ونهجه ولم يبالي بالاعتراضات والردود الغاضبة.

عاد يقرأ الردود ولم يستطع منع نفسه من الضحك على بعض الردود التي جاءت منفعلة ومعبرة عن صدمة كاتب أو كاتبة الرد، حيث كتبت إحدى القارئات:

( لاااااااااااااااااااااااااا حرام عليك وش هالنهاية التعبانة ما يصير تسوي كذا في خالد وبعدين نورا وش ردت على رسالة؟؟؟)

وهناك قارئ متحمس حاول أن يتحكم بأعصابه وأن يكتب بقلم الناقد، ويبدو أنها المرة الأولى التي يشارك فيها في هذه القصة حيث كتب:

( انا متابع منذو زمان للقصة ولاكن مادعني للكتابة هو النهاية حيث جت مبتوره ---

وايضا البطل خالد كان لابد ان يحاول ان يتقدم لحبيبته وليس يفر لانه هذا ليس من رجولة - -

وشكرن)

أما إحدى كاتبات الخواطر الشهيرات في المنتدى فقد كتبت:

( هي النهاية إذن
لملم خالد قلبه المبعثر ورحل
يا خسارة كنت أتوقع أن يقاوم خالد وأن يدافع عن حبه
صحيح أنك أخي قلم بلا اتجاه نقلت لنا الواقع ولكن لا تنسى أن الناس أحيانا لا تبحث عن الواقع وإنما تبحث عن تجميل لهذا الواقع.

مع خالص التمنيات في كتاباتك القادمة)

انتبه حمد إلى أن الساعة قد جاوزت منتصف الليل فأوى إلى فراشه، وفي هذه المرة أصطحب معه خالد إلى أحلامه، وعندما بدأ يهوي في جب النوم كانت ملامح خالد التخيلية قد امتزجت بملامح سعد حتى صار كأنه هو.

* * *
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
إضاءة

سعد: رجعنا للكتاب والقراء؟ أنا هو أنا، لا يهمني أن فلان كتب قصة حب أو أن القارئ الفلاني يهمه هذا النوع، أنا أكتب عن الحب لأسباب خاصة قد تعرفها يوما ً.

الفصل التاسع

إعتام.

* * * * * * * * *


الفصل الثاني عشر

وجد حمد المناحة لا زالت قائمة عندما عاد من الغد إلى المنتدى، فالذين فاتهم النواح بالأمس قدموا ليقوموا بدورهم اليوم، ولكن سعد ظل صامتا ً وسط كل هذا الضجيج.

قرأ حمد الردود الجديدة وهو يتساءل هل كان للرواية كل هذا التأثير؟ هناك بعض الردود لأناس حديثي تسجيل، بعضهم كان هذا الرد الأول بالنسبة له، عجبا ً أين كان هؤلاء عندما كان سعد يكتب الرواية؟ لم َ لم يشاركوا حينها؟ لم انتظروا حتى انتهت الرواية؟ بعض هؤلاء كان يبدو عليه الحماس الشديد والإلمام بأجواء الرواية أكثر من المشاركين الدائمين فيها.

كتب أحدهم وكان يدعى (The Bone) وتحت اسمه صورة لما يشبه عظما ً بشريا ً ترفعه يد سوداء إلى السماء:

( عزيزي قلم بلا اتجاه

كنت أتابع هذه الرواية منذ مدة، من الفصل الثاني تقريبا ً، طبعا ً هو ليس تاريخا ً بعيدا ً في رواية سداسية الفصول.

سأخبرك بأمر بسيط أولا ً قبل الحديث عن الرواية، كان جدي يملك بستانا ً صغيرا ً في ضاحية من ضواحي حلب، وكان مما يميز البستان ويضفي عليه جمالا ً مجموعة من أشجار المشمش ذات الثمار الذهبية والتي كنت أتسلل لأقطف من إحداها بضع ثمرات قبل أن ألوذ بالعريشة خلف البير لأمسحها بكمي ثم آكلها متحملا ً لذعتها الخفية.

كان جدي يجمع المشمش بمساعدة جدتي وبعض بناته اللواتي لم يتزوجن، وكان المشمش حينها المادة الخام التي يقوم جدي وبعد عمليات طويلة جدا ً تعتبر سر الصنعة لديه بتحويلها إلى مربى ً شهير جدا ً يحمل اسم ( مربى أبو غسان)، اسأل عن هذا المربى لو زرت الشام يوما ً، ما أريد قوله أن جدي لم يكن يحصل على المشمش مباشرة، بل كان عليه أن يتحلى بالصبر ويترك الأمور تسير ببطء ولكن بإحكام.

عندما قرأت روايتك لأول مرة، رأيت فيها دقة جدي واهتمامه بفنه، وحكمت لك بدقة في تنشيع اللحظة الإنسانية واستخلاصها تماثل دقة جدي في تنشيع المشمش واستخلاص المربى منه، ولكن في هذا الفصل اكتشفت للأسف أنك لم تحز صبره، فجاء المربى الذي صنعته ناقصا ً ذو حموضة مؤذية.

أتمنى أن أقرأ لك يوما ً عملا ً كاملا ً غير مبتور.

تحياتي.)

تساءل حمد هل أحتاج لكل هذه القصة ليقول أن الرواية ناقصة، صحيح أن بعض الناس يتنفس بالكتابة، مشمش وبير وتنشيع، يا للفراغ.

عندما تأخر الوقت ولم يأتي سعد غادر حمد المسينجر، نظر إلى ساعته كان قد تبقى بعض الوقت، عاد إلى الفصل الصغير من روايته، أعاد قراءة ما كتبه، عالج بعض الأخطاء، أعاد كتابة بعض المقاطع، أكمل السرد قليلا ً، وعندما ناوشه النعاس استسلم له كوشاح حريري في مهب ريح شمالية.

* * *

مر الغد سريعا ً حتى أن حمد تساءل في المساء عندما جلس أمام الجهاز، هل صار الانترنت والمنتدى والروايات كل حياته؟ لم يعد يذكر شيئا ً آخر، بدا الأمر كأنه دوامة ضخمة تجذبه، لقد بدأ ينعزل قليلا ً... قليلا ً، عن أهله، عن أقاربه، عن أصدقائه، أصبح عالمه مكونا ً من حمد، خالد، نورا، طراد، مع هؤلاء يعيش يومه، يحاورهم في خياله، يلبسهم حالته النفسية، عندما يكون غاضبا ً، يتراءى له خالد وهو يصفع نورا، فيما تصرخ هي ( أيها السلطوي الوضيع ذو الثقافة الرجولية)، بينما طراد يطلق النار بلا سبب، وعندما يحزن تبكي نورا بينما خالد يردد ( أيها الحزن... لقد اتخذتك خليلا... أيها الحزن... لقد حللت ثقيلا... أيها الحزن... ذقت الصب مرا ً.... عويلا)، بينما طراد يلقي جهز في القبر، وعندما يضحك... يرى نورا تضحك مفرجة عن أسنانها التي وصفها سعد، أم كان خالد؟ لا... كان سعدا ً على لسان خالد بأنها كهوابط ثلجية في كهف مضيء، فيما يردد خالد كأنه ممثل مسرحي يؤدي دورا ً لشكسبير ( أما الضحك فيحدثوننا عنه وما ذقناه... يقولون أنه دواء للروح لذي الروح) وطراد يضحك وهو يمشي وسط عاصفة صحراوية.

أهال حمد على هواجسه ركام اليوم عندما فتح المسينجر ووجد سعد أمامه، ابتدره بالسلام ثم أتبع:

حمد: هلا والله بالبتار.

سعد: وعليكم السلام... وش بتاره؟

حمد: ههههههه من كثر ما رددوا اللي في المنتدى كلمة النهاية مبتورة صرت أسميك البتار.

سعد: ايييييييه... لا يهمونك، عالم فاضية، يا إما أكتب اللي يبونه وإلا خلاص يقلبونها مناحة.

حمد: ايه بعد بسميك النواح من كثر ما تقول مناحة هههههههه.

سعد: والله إنك رايق.

حمد: ههههه، لا من جد وش بترد عليهم.

سعد: ومن قالك إني بتعب نفسي وأرد عليهم، اليوم إن شاء الله بقفل الموضوع، وخلهم يموتون بحرتهم.

حمد: معقولة؟

سعد: ليش لا، عالم فاضية وردودهم زي وجيههم، ليش أتعب نفسي وأرد عليهم.

حمد: ما أدري... بس أحسها قوية بحقهم وبحق المنتدى وخصوصا ً إنك مشرف.

سعد: أنا كتبت الرواية بصفتي الشخصية، والإشراف شيء ثاني.

حمد: طيب رد رد واحد للجميع توضح فيه وجهة نظرك، أحسن من أنك تتجاهلهم.

سعد: ولا رد ولا نص رد، أنا مذنب عشان أبين وجهة نظري؟ لا... لا... خلهم ينطقون.

حمد: ههههههه، شكلك معصب مرة، وسع صدرك وخذ الأمور برواق.

سعد: والله سخافة، صجة هنا في المنتدى وحتى في البيت ما سلمنا، أختي موجعة رأسي بهالموضوع بعد.

حمد: ما شاء الله... أختك متابعة القصة؟

سعد: أول شخص يقرأها هي، والمشكلة إنها من النوع اللي يتعلق بأبطال القصص والمسلسلات.

حمد: يا رجل أحمد ربك... أنا أهلي ما يدرون إني أكتب حتى.

سعد: المهم أتركنا من هالموضوع لأنه بيفقع مرارتي، وقلي وش صار على قصتك؟

حمد: قصتي يا طول البقاء والسلامة خلاص يومين وبنزل الفصل الثاني بإذن الله.

سعد: ممتاز... عشان أعرضه على الباقين من الأعضاء ونخلص من موضوع الرواية الجماعية.

حمد: عسى إن شاء الله.

أمضيا بقية الوقت في أحاديث أخرى، ثم مضى كلا ً منهما إلى شأنه.

* * *

في الجامعة/ الساعة العاشرة صباحا ً.

غادر حمد قاعة الدرس وهو لا يكاد يحمل رأسه بين كتفيه، كان يحس بنعاس رهيب ورغبة شديدة في النوم، كانت محاضرة الدكتور العجوز إياه ذو الصوت المنوم، وكان حمد قد أغفى صدقا ً مرات ومرات... ولم ينقذه إلا لكزات مروان من الوقوع بين يدي الدكتور.

كان مروان يضحك وهما خارجان وهو يقول:

- هاه... يا نومان... الله يغربل أبليسك فضحنا شخيرك.

- مروان... والله يا بي نوم... يا أخي أشوف بطنك كأنه وسادة من التعب.

- ايه... ايه... هذا من التهجد طول الليل... نم شوي، إن لجسدك عليك حقا، شوي... شوي على نفسك.

- أقول أقلب وجهك... يبيلي الحين كوفي عشان أصحصح... خل نروح البوفيه.

توجها إلى بوفيه البهو المفضل لهما، وأخذ حمد كوبا ً كبيرا ً من الكابتشينو ومروان مثله من عصير الفواكه، وجلسا في طرف قصي، وقال حمد وهو يذيب السكر في كوبه:

- وش أخبار روايتك؟ أخبرك بتنزلها قريب؟

- الله المستعان... نزلتها أمس، والناس ردت عليها... وينك أنت.

- والله... ما شاء الله... ما شاء الله... ولا تقولنا ولا شيء؟

- ما نزلتها إلا أمس بالليل وهذاني قلت لك... عاد نبي رأيك فيها.

- بدخل وأقطعك تقطيع... بقول ( الحقيقة أن الكاتب يحاول التماهي مع الأقلام النقدية في خصوصية سردية ذات أفق تتضافر فيه العوامل الإبستمولوجية في تأثيريتها على القارئ مما يعطي انبجاسا ً معرفيا ً...

- جعله ينبجس بطنك... رد زي الناس وإلا وريتك الشغل.

- ههههه، أبشر اليوم بإذن الله بدخل وأقرأها، وش اسمها؟

- اسمها ( بيت أبو مرزوق).

* * *
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
نفس اليوم/ العاشرة مساء ً.

جابت عينا حمد الصفحة الأولى في المنتدى بحثا ً عن رواية مروان، ثم انتقلتا إلى الصفحة الثانية ثم الثالثة ولكنه لم يجدها، جرب طريقة البحث، كتب ( بيت أبو مرزوق) في خانة البحث، ولكنه لم يجد شيئا ً بين النتائج التي عادت له.

تساءل عندما يأس، هل كان مروان يعابثه؟ ربما أخطأت في الاسم... ولكن لا... هو مقلب من مروان، لا ريب أنه يضحك الآن من تصديقي له، سأعرف كيف أقتص منه، تناسى بعدها الموضوع وعاد ليضع اللمسات الأخيرة على الفصل الثاني من روايته.

* * *

من الغد وعندما جلسا في البوفيه بين إحدى المحاضرات، تظاهر حمد بأنه لم يحصل شيء، تحدثا في عدة موضوعات، كانت عينا حمد تحاولان قنص أية بادرة سخرية من عيني مروان، ولكن ملامحه لم تحمل له شيئا ً ذا بال، فقرر في النهاية أن يكون البادئ:

- على فكرة... وراك أمس تكذب علي؟ تقول منزل روايتك وأنت مانزلتها.

اكفهرت ملامح مروان وقال وهو يلف عبثا ً قطعة رقيقة من بقايا منديل حول سبابته:

- نزلتها ولكن أنحذفت.

- أنحذفت؟ من اللي حذفها؟

- هالتعبان... قلم بلا اتجاه.

- ليش؟

- أرسل لي رسالة على الخاص يقول إنها ما ادري ايش مخالفة للقوانين، ولا تحمل هدف، الله أكبر... عاد هو راعي الأهداف، قصته أسخف قصة شفتها في حياتي، حب... وواحد يحب وحدة وبعدين يتركها... قمة التناقض.

- غريبة؟ طيب ليه ما أرسلت له عشان تعرف بالضبط منه وش اعتراضاته؟

- اتركه عنك بس... إنسان تافه ومريض، أصلا ً أنا خلاص بترك المنتدى هذا، بنشرها في منتدى ثاني والله أحس منه ألف مرة.

- مروان... وسع صدرك، أنا بكلم سعد وشوف وش الموضوع.

- سعد؟

- قلم بلا اتجاه... هو سعد اللي رحت الخبر الخميس الماضي عشان أقابله، نسيت؟

- صح... يا حسافة مشوارك على ناس ما تستاهل، نصيحتي لك، لا تزيد علاقتك به، تراه مغرور وشايف نفسه.

- يصير خير... أنس الموضوع أنت.

* * *

لم َ حذفت رواية مروان؟ تردد السؤال في ذهن حمد وهو يقود السيارة عائدا ً إلى المنزل، كان الهواء يهب بقوة حاملا ً ذرات الرمل وبقايا ورقية مجهولة ليسفيها في نهر الطريق أمامه، ويصل إلى إذنه صوت الريح خافتا ً كخلفية لأفكاره وهواجسه، هل كانت سيئة فعلا ً؟ معقولة؟ لقد رأيت في المنتدى في الأيام السابقة روايات رديئة المستوى جدا ً ولكن سعد كان يبقيها مراعاة للقراء، لماذا رواية مروان بالذات؟

مخالفة للقوانين... ربما هذا هو السبب، ولكني أعرف مروان، أخلاقه عالية وابن عائلة طيبة ولا يمكن أن يكتب شيئا ً مسيئا ً لأحد، ما السبب يا ترى؟ لقد بدا سعد متوترا ً في المرتين الأخيرتين اللتين التقيت به فيهما، هل كان لتوتره وعصبيته الظاهرة دور في تصرفه هذا؟ نعم... لا ريب أن هذا هو السبب، ربما إحساس سعد بالضغط والهجوم الذي ناله الفصل الأخير الذي طرحه هو ما جعله يبحث عن حجر يركله تنفيسا ً وكان الحجر يا لسوء الحظ مروان.

زادت الريح من زئيرها، وتداخلت الأفكار في ذهن حمد، قال لنفسه وأنا الذي كنت أحلم بأن ينضم مروان للمجموعة لو قدر لي الانضمام لها، الآن فسدت علاقة سعد بمروان وهما لم يلتقيا بعد، ومروان كما خبرته عنيد جدا ً، كما أنه إذا غضب فمن الصعب إرضائه... يا للأحلام عندما يطوحها الواقع.

* * *

كان أول ما كتبه حمد بعد السلام عندما وجد سعد في المسينجر مساء ذلك اليوم:

- عسى هدأت أعصابك بس؟

- أعصابي هادئة من زمان، ليش السؤال؟

- لا بس اليومين اللي فاتت طايح تقفيل وحذف مواضيع، فظننت أنك معصب وضايق خلقك.

- لا... لا... منب معصب ولا شيء، وبعدين أنا ما سويت شيء خطأ، قفلت رواية انتهت والردود عليها ما عاد لها قيمة، وحذفت رواية غير مناسبة للمنتدى.

- على فكرة الرواية اللي حذفتها كاتبها صديقي الروح بالروح، وتكلمت معي اليوم بالموضوع وكان معصب مرة ويرى إنك ظلمته.

- لا ظلمته ولا شيء، ومو مهم صديقك وإلا لا، المهم اللي كاتبه يرقى للمشاركة في المنتدى وإلا لا.

- طيب... وش المشكلة في روايته؟

- أولا ً مهيب رواية، كلام فاضي، مجمع لي نكت محششين وما أدري أيش، على لغة ماسخة ما أدري وش تبي، على أحداث هزيلة... واستخفاف دم ممجوج.

- معليش سعد، بكون صريح معاك مهوب عشان الكاتب صديقي، لا والله ولكن أنا قرأت كثير من القصص في هالمنتدى بايخة وبعضها وصل إلى عدد كبير من الفصول، ومع ذلك ما حذفتها ولا شيء.

- كانت غلطة، في البداية كنا نبي نكسب القراء، فلذلك فتحنا لهم المجال يكتبون في حدود القوانين، لكن الآن خلاص لابد للكاتب من كتابة شيء راقي، وإلا الباب يوسع جمل.

- ههههههههه، وااااوك... أنت ناوي تنتقم من القراء وإلا شلون؟ سعد هذا منتدى مهوب جريدة، يعني الكتابات تكون متفاوتة، ومسموح بالكتابة الرديئة إذا لم تتجاوز القوانين.

- لا... خلاص، إلى متى نظل على هالحال؟ لازم نطور أنفسنا ونطور الكتاب والقراء.

- بالقوة؟ والحذف والتقفيل؟

- والله اللي مو عاجبة في أمان الله، المنتديات كثيرة... المهم اتركنا من الموضوع هذا... وين الفصل الثاني من روايتك؟

- جاهز... بنزله الليلة.

- ممتاز بقرأه قبل ما أنام... وأرسل الرابط للجماعة.

- خير إن شاء الله... قبل لا أمشي أحب أقولك شيء، ممكن؟

- تفضل.

- أنا حاس أنه غضبك من الردود اللي جتك وراه سر، فيه شيء داخلك تأذى، أنت كنت تتمنى إن القراء يهتمون باللي كتبته مهوب يهاجمونه، ما أدري تحليلي صحيح وإلا لا، لكن اللي يهمني الآن هو أن غضبك وخيبة أملك في القراء ما تجعلك تعاقبهم، بس... هذا اللي بغيت أقوله، وعذرا ً لو كنت تعديت حدودي.

انتظر حمد رد سعد، مرت دقيقتين ولم يظهر الرد، كانت علامة أن سعد يكتب ردا ً الآن تظهر وتختفي أسفل مربع النص، ثم توقفت العلامة عن الظهور، ورحل سعد.

* * * * * * * * *

الفصل الثالث عشر

" ما الذي حدث؟" هذا هو السؤال الذي صار مضغة في ذهن حمد وسيارته تخوض في الرمال في طريقه إلى المخيم، والشمس التي تنحدر على خط الأفق كشطر برتقالة على حرف كأس تهاجم عينيه بشراسة اليأس، " لم رحل سعد بتلك الطريقة؟"، كان قد انتظر عودته لنصف ساعة أدرج خلالها الفصل الثاني من روايته، ولكن أمله بأن يكون الأمر مجرد انقطاع في الاتصال تبدد كخيط من دخان، وعندما عاد اليوم من الجامعة، فتح بريده قبل خروجه، ولكن لم تكن هناك رسالة اعتذار أو توضيح تزاحم فضاء الأسئلة المهووسة.

" هل غضب سعد من كلامي؟ ولكن لم َ؟ أنا لم أقل شيئا ً ذا بال، عجيب أمره، ما هذا الغموض الذي يكتنفه؟ وما هذه الأسئلة التي يثيرها حوله دائما ً؟ وتصرفاته الغريبة، مع أبطاله، رواد المنتدى، معي الآن، ما دوافعها؟ نرجسيته ونظرته الفوقية؟ أم سره الدفين الذي ألمح له يوما ً؟ لن أنسى المرة الأولى التي قرأت فيها حروفه، لقد أحسست حينها بثقل المعاني المحملة فيها، وأنها ليست مجرد قصة عابرة، بدت لي كأنها سيرة ذاتية، تلك الحرارة وتلك التفاصيل العميقة التي بدت كأخاديد في سهل السرد المبسوط كانت تشي بآثار التجربة لا الخلق، هل يكون سعد قد أحب يوما ً؟ هل يمكن أن يكون سعد هو خالد؟ هل هناك نورا؟ هل نورا موجودة حقا ً".

أحس حمد عندها بحرارة في بدنه، أحس كأنه توصل إلى السر الدفين، إذن سعد هو خالد، ونورا ليست نورا ورقية وهمية الملامح، هي إذن ذات بصفات حقيقية، هي الملهمة التي ألهمت سعدا ً كل هذا، وربما يكون اسمها الحقيقي نورة كعادة الكتاب في تحوير الأسماء عند استلهام الوقائع الحقيقية، ولكن أين خالد من سعد؟ سعد كما رأيته وعرفته ذو شخصية طاغية وقدرات عقلية وكتابية لا تتناسب مع شخصية خالد البسيط ذو الثقافة الوليدة، لا... لا... هناك فكرة ما... هناك شيء ناقص، سعد مبثوث في النص، هذا ما أنا متأكد منه، ولكن ليس بهذه السهولة، أحتاج إلى نفس أطول لأصل إلى العمق.

توقف حمد عن التفكير عندما وصل إلى المخيم، وفيما هو يستعد للنزول عاتبته نفسه، " إلى متى تشغل بالك بهذا السعد؟ كأنه محور الدنيا وقطبها؟ لديك حياتك تعيشها... لديك أصدقاء تجالسهم... وهذا السعد الذي تركك بلا كلمة وداع لا يجب أن يحجب عقلك عن الاستمتاع بالمخيم والجو الجميل والرفقة الذين حرمك منهم في الأسبوع الفائت، يجب أن تنفض عقلك من هواجسه".

* * *

مضى الوقت جميلا ً سريعا ً، وحمد والبقية غارقون في الضحك والصخب والحديث، تناولوا عشاءهم المعتاد دجاجتين مشويتين تجلت فيهما خبرة مروان، وحمصا ً وزيتونا ً أخضر، ثم تناولوا شايا ً أسودا ً ثقيلا ً حول النار وهم يتسامرون ويتبادلون الأحاديث ومروان لا يكف عن المشاغبة والنيل من عبد العزيز بلسانه، يساعده في ذلك ناصر، فيما يكتفي حمد ومحمد بالضحك والدفاع عن صاحبهما معرضين نفسيهما للسان مروان ولذعاته.

عندما وضع حمد رأسه على الفراش، طافت بذهنه ذكرى رحلة الأسبوع الماضي إلى الشرقية، بدت كأنها آتية من زمن سحيق، وفيما هو ينزلق على سفح النوم البلقع علقت في ذهنه صورة سعد وهو يودعه ذات يوم في مواقف سوق الراشد.

* * *

هب حمد فزعا ً في ظلام الخيمة الصغيرة، كان قلبه يدق بقوة، وبدا لعينيه اللتان مازال النوم يعشيهما كأن أحدا ً يقف تلقاء باب الخيمة حيث يتسلل خيط من النور، مد يدا ً مفزوعة وقبض على يد محمد ليوقظه بلسان معقود، هزه فتململ محمد ثم انقلب على الجانب الآخر، وفي تلك اللحظة ولج حمد مرحلة اليقظة الكاملة وأدرك أن ما حسبه رجلا ً قائما ً ليس إلا ثوب معلق بجانب الباب، تنفس بصعوبة وتوقفت الرجفة التي تهز أعماقه، حاول تذكر الحلم الذي أفزعه، تلاشت التفاصيل في العتمة، كل ما تبقى شارع طويل مظلم وفي آخره كان هناك شخص يجلد بالسياط، أرعبه أنه كان يعرف الشخص ولكنه لم يتذكر من هو، عاد إلى فراشه وأغمض عينيه مستدعيا ً النوم، وعندما انتظم تنفسه نام.

نهض في موعد جولته الصباحية، خرج من الخيمة وغسل وجهه بالماء الذي تسربت إليه برودة الليل، تناول بسكويتا ً دسه في جيبه، وقصد ملاذه وبين يديه رواية ( الجذور) لأليكس هايلي.

كانت الأعشاب قد يبست ولم يفلح ندى الصباح في ترطيبها، والمنطقة التي كانت قبل أسابيع قليلة خضراء يثعب فيها الماء ويجري في كل اتجاه، وتتنقل فيها الحشرات مابين أصناف الزهر، صارت اليوم يباسا ً غاض مائها، وأحرقت الشمس أزهارها، فصارت الأعشاب تهتز ورؤوسها للأرض كنادب الأهل.

أسند ظهره إلى الجذع الحنون الذي ألف شقوقه وتجاعيده، داعب اللحاء بأصابعه ومسح على رؤوس الجذور الضاربة في الرمل والتي بدت كأفاعي تتقمص دور النعام المزعوم، فتح الصفحة الأولى من الرواية وقرأ:

(( في بداية ربيع 1750 وفي قرية جوفور على مسيرة أربعة أيام من ساحل جامبيا في غرب أفريقيا ولد طفل ذكر ل "أمورو وبينتا كنت" مستمدا قوته من جسد بينتا الشاب القوي وكان أسود مثلها تجري في عروقه دماؤها وكان لا يكف عن الصراخ، وكانت القابلتان المجعدتا الجلد....))
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
صلوا العصر والشمس التي زادت حرارتها خلال الأسابيع الماضية تحد من حرية حركتهم، وتجعلهم يفيئون إلى الظلال أن وجدوا لها سبيلا، جلسوا بعد الصلاة يتناولون غداءهم الذي أخروه إلى أن ينادي منادي الجوع.

وعندما انتهوا وغسلوا أيديهم حمل كلا ً منهم نصيبه من الشاي وجعل يتجول في المنطقة بخطى وئيدة، كان حمد يرشف الشاي بهدوء مدافعا ً هجمات الذباب بيده، ومتأملا ً شقوق التربة والنباتات الذاوية، والحشرات التي تأتي وتمضي سريعا ً، والبقايا التي نثرها متنزهون سابقون بلا أخلاق أو مروءة، بقايا زجاجية مهشمة، علب صفيحية صدئة، بقايا أطعمة ملقاة بإهمال وقد لونتها الشمس، وأكياس بلاستيكية ممزقة ذات ألوان باهتة.

كان شاردا ً، يداه تتحركان بآلية الأولى ترفع كوب الشاي إلى فمه فيما الأخرى تهش الذباب المستبسل، الذي يطن بحيوية ممثلا ً الصوت الوحيد في هذه البرية، حتى جاء صوت ثان ٍ، كان صوت جوال حمد، تناوله بتراخي وهو يرشف الشاي الذي فترت حرارته، ولكن الحرارة هذه المرة جاءته من الاسم الذي كان يتراقص على الشاشة، لقد كان سعد، ضغط حمد على زر الإجابة وتدفق الصوت إلى أذنه:

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام ( دفعها حمد بجهد كبير إلى نبرة اللامبالاة).

- كيف حالك حمد؟ عسى مرتاح إن شاء الله ( كان الصوت هادئا ً يأتي كطبقة واحدة، كأن سعد يقرأ من ورقة).

- بخير الحمد لله ( ماذا سيفعل الآن هل سيعتذر عن فظاظته؟ تساءل حمد).

- عذرا ً على الانقطاع اللي صار بشرح لك السبب عندما نلتقي.

- لا... لا... ما صار إلا كل خير ( بس؟ عسى ما تكلفت؟ والله من زين الاعتذار).

- آ.... الحقيقة أنا الآن في الرياض، وراجع الليلة للشرقية، عندي أشغال أسويها العصر وبنتهي منها بحدود آخر العصر، فلو كان فيه إمكانية أشوفك قبل ما أمشي.

- في الرياض ( أصاب الوجوم حمد، توقف عن المشي، وتلفت حوله، لم يتوقع أن يكون بهذا القرب)، آ... والله إنه...

- حمد، لو كنت ما أنت متهيئ، أو مشغول لا تضغط على نفسك، أنا جاي بشكل سريع وبمشي الليلة، بس كل السالفة إني ما حبيت أجي الرياض وأروح بدون ما أقول لك.

- لا... خير إن شاء الله، إذا خلصت شغلك اتصل بي.

- تم... مع السلامة، أشوفك على خير.

- مع السلامة.

أعاد الجوال ببطء إلى جيبه، ورشف آخر قطرة في الكوب، وبدأت من جديد مسيرة الحيرة والاضطراب، " آآآآآآآه... يا ذا السعد، آآآآآعععه... محيرني في غيابه وفي حضوره، أف... أف... وبعدين؟ هو أنا كل ما قلت خلصنا، رجعنا لنقطة البداية، الآن كيف أترك الشباب؟ الأسبوع اللي فات عدت على خير، لكن الأسبوع هذا بيزعلون، وخصوصا ً مروان، هاها... يا سلام... مروان من جد بيقلبها على رأسي، أتركه وأمشي وعشان من؟ عشان سعد، والله حالة، أف... أف...".

تحرك من وقفته عندما أحس بلسعة حبيبات الرمل الساخنة التي تسللت إلى نعله، نفض رجله بقوة ومشى وهو يجر الكوب خلفه خير منتبه لنقط الشاي الأخيرة التي تسربت ملوثة ملابسه، " طيب وأنا ليش غبي أواعده؟ كان قلت له لا مشغول... الله يساعدك، مع السلامة، يعني معليش واحد جاي بدون موعد سابق وبدون أتفاق مهوب ذنبي، لكن... لكن الرجل أكرمني يوم رحت له في الشرقية، مهيب حلوة بحقي أهمله يوم جاء للرياض، يعني مهما كنت مشغول الرجل ضيف، وبعدين على من ألعب؟ أنا اللي ضربت أربعمائة كيلو عشان أقعد معه، أزهد به يوم جاء عندي؟ مهوب منطق، بس الشباب وشلون أقول لهم؟ مروان قسم بالله إن يفضحني، طيب أقول لهم إن أمي اتصلت تبيني؟ لا... والله إن يبتليني ربي على هالكذب، وش الدبرة؟ أف... حسبي الله ونعم الوكيل يا سعد، ما تعرف تجي بيوم مناسب؟ لازم تحوسني؟"

نظر إلى ساعته وحسب الوقت الذي يلزمه للرجوع إلى الرياض، مع الوقت المتبقي على صلاة المغرب، لم يكن لديه وقت كاف ٍ للحيرة، ولذا قصد سيارته مباشرة وأدار محركها، كان الشباب متفرقين في نواحي متباعدة ماعدا أبو سعود الذي كان مستلقيا ً في ظلال الخيمة وقد طرح شماغه على وجهه، ظنه حمد نائما ً ولكنه أبعد الشماغ ورفع رأسه عندما سمع صوت المحرك وقال وهو يشير بيده:

- حمد... وين؟

- عندي شغل يا أبو سعود في أمان الله.

وانطلق بالسيارة، رأى مروان يتمشى في الشعيب الذي ألقت الأثول الضخمة ظلالها على جانبيه، اقترب منه واستجمع شجاعته وفتح النافذة الجانبية ونادى مروان فأقبل وهو يسحب خلفه عصا قصيرة وعلى وجهه ابتسامة ضاحكة:

- وش عندك؟

- آآآ... توصي على شيء أنا ماشي الآن، عندي شغل بسويه وأرجع الليلة، تبي شيء من الرياض؟

غاضت الابتسامة من وجه مروان، وأشاح بنظره إلى الأفق البعيد، تاركا ً صفحة خده تواجه حمد قبل أن يعود بنظره ويقول:

- الأهل؟

- لا.

أمال مروان رقبته قليلا ً منتظرا ً شرحا ً أكثر، ولكن حمد صمت وتشاغل بارتداء نظارته الشمسية، فهز مروان رأسه ومشى مبتعدا ً وهو يلقي خلفه بكلماته الأخيرة:

- في أمان الله.

نظر حمد بأسى إلى ظهر مروان الذي كان يمشي ببطء وبلامبالاة وهو يضرب الأرض بعصاه، أحس لحظتها بأن ثمة شيء قد انكسر في علاقته بمروان، شيء رآه في عينيه، ميزه في نبرة صوته، شيء كان موجودا ً ثم خبا، لام نفسه وهو ينطلق بسيارته لم َ لم يبرر فعله لمروان؟ لقد كان مروان ينتظر شرحا ً، ينتظر ما هو أكثر من هذه الكلمات البائسة.

وهكذا أمضى حمد الطريق في لوم نفسه على ضعفها، حتى دخل الرياض والشمس تنزلق من قبة السماء، وسجف الظلام قد بدأت تتهدل حتى تكاد تغطي كل المرئيات، عليه الآن انتظار اتصال سعد.

"ما الذي جاء بسعد إلى الرياض يا ترى؟ أي عمل هذا الذي يدعيه؟ ثم لماذا لم يعلمني بحضوره قبل اليوم؟ كان لديه الأسبوع بطوله... لم َ اليوم؟ هل هي محاولة منه لفرض سيطرته علي؟ لا شك أنها كذلك، مع هذا الغرور وهذه النرجسية لابد أنه يظن أن مجرد مكالمة منه تجعلني أغادر كل أعمالي لألحق به، كلام فارغ، من يظن نفسه؟ ولكن لحظة... هذا صحيح، لقد تركت أصدقائي، ووضعت علاقتي مع أحد أعز أصدقائي على خط النار بمكالمة منه، لا... لا... ليس الأمر هكذا، أنا فعلت هذا لأنه أكرمني ومن حقه أن أعامله بالمثل، أوف... خلاص بلا سخافة، يكفي تفكير، خلاص يجي الزفت هذا الحين وأشوف وش سالفته".

جاء الاتصال المنتظر قبيل المغرب، بذات الصوت الغريب ذو الطبقة الواحدة، بلا انفعالات، بلا دفء:

- السلام عليكم، هلا حمد، تأخرت عليك؟

- وعليكم السلام هلا والله، لا حيالك الله، تبي أوصف لك البيت؟

- بيت؟ لا... لا... لا تأخذ المسألة بشكل رسمي، أنا ماراح أطول مسافر الليلة، خلنا نخليها جلسة شبابية خفيفة في كوفي.

- ما يصير تجي الرياض ولا تدخل بيتنا، لازم نتعشى وإياك.

- مرة ثانية، الظروف ما تسمح المرة هذي.

- بس...

- حمد، أرجوك المرة هذي أنا مستعجل، خلها مرة ثانية.

- طيب مثل ما تحب، وين تحب نجلس؟

- يناسبك ( د.كيف) اللي بشارع الأحساء؟

- ممتاز... متى؟

- بعد صلاة المغرب مباشرة.

- خير إن شاء الله.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
أوقف حمد سيارته ونزل وهو يدير عينيه في الطاولات المتناثرة خارج المقهى، لمح سعد جالسا ً إلى إحداها وقد أمال جسده في استرخاء، قصده وحالما لمحه سعد قادما ً هب وتصافحا وهما يتبادلان عبارات المجاملة.

كان حمد يتفحص وجه سعد الذي بدا طبيعيا ً وبلا تعبير محدد، طلب حمد كابتشينو فيما طلب سعد موكا، ثم نظر سعد إلى وجه حمد وقال:

- أرجو إني ما أكون قطعت عليك أشغال أو شيء.

- لا... لا... بالعكس هذي الساعة المباركة اللي جيت فيها الرياض، كان ودنا والله لو ضيفناك بالبيت.

- لاحقين خير، ترى أنا زياراتي للرياض كثيرة.

- اها... أنا فكرت إنك قليل ما تجي للرياض.

- لا... أنا أجيها بمعدل ست... سبع مرات في السنة، مع إنه مالي أقرباء هنا.

وصلت الأكواب الساخنة لحظتها والبخار يرقص فوقها رقصته الشهيرة المتموجة، تناول سعد كوبه ورشف منه رشفة، ثم مسح شفتيه التي تغطت بالكريم ( القشدة المخفوقة كما يسميها اللغويون) وأكمل:

- الرياض بالنسبة لي ملاذ فكري، عندما أحس بالضيق والوحدة، أركب سيارتي وأخلف الخبر خلفي بل الساحل الشرقي كله، أغادر الرطوبة التي تكاد تزهق أنفاسي، أغادر الوجوه التي ألفتها، وآتي هنا... إلى الصحراء القاسية، أتجول في الرياض، أدور في أسواقها، مطاعمها، تقتحم أذني ضجة شوارعها، وأنفي رائحة طرقاتها، ثم أقصد أخيرا ً مكتباتها لأكدس في سيارتي أحدث الكتب، ثم أرحل وحيدا ً كما جئت وحيدا ً.

سكت سعد هنيهة، وأنزل رأسه يتأمل الكوب الذي بين يديه ثم رفع رأسه وقال وهو يصوب نظراته إلى حمد:

- أريد أن أعتذر عن خروجي الوقح ذلك اليوم، لم أفكر بصفاء حينها، تعاملت مع كلامك بحساسية شديدة، أنت وضعت يدك على الجرح، أنا فعلا ً تأذيت كثيرا ً من تعامل القراء مع ما كتبته على أنه مجرد قصة أخرى يحق لهم العبث بها، أحسست بشعور الغريق عندما يطلب منه أن لا يبلل ملابسه، شعور الفتاة التي استعدت لليلة رومانسية مع زوجها بشموع وإضاءة خافتة لتفاجأ بقوله عندما عاد ( وش هالظلمة ولعي اللمبات، كتمتينا بهالشموع).

ضحك حمد بقوة على الوصف الغريب، وشاركه سعد الضحك وهو يكمل:

- هذا هو شعوري والله يومها، الخيبة... الخيبة تمثلت لي جاثوما ً أزهق أنفاسي، هل يعلم هؤلاء أني أكتب الفصل في يومين ثم أصاب بعدها بما يشبه الحمى الفكرية، فأظل أهذي ولا أقرب ورقة ولا قلما ً لأسبوع، هل يعلم هؤلاء أن الأمر بالنسبة لي بمثابة استفراغ فكري؟ هل يعلمون أنهم بعثروا آلامي؟ أنهم وطئوا جروحي، عاثوا في مساحات حزني؟ لا... لا يعلمون، لأنهم لا يقرأون ولا يفهمون، لا تلمني يا حمد... فما كتبته لم يكن خيالا ً محضا ً، وإنما هو شيء مني، قطعة مني، لقد أطلعتهم على عوالمي الداخلية، على مسارات الأفلاك التي ظلت طريقها داخلي، ولكنهم طوحوا بهذا كله في لحظة.

سكت سعد عندما أحس بأنه صوته ارتفع، تجاهل نظرات من حوله الذين وصلتهم كلماته الأخيرة، وأشاح بنظره بعيدا ً، فيما أطرق حمد مفكرا ً بما سمعه، ولم ينبهه إلا صوت سعد الذي جاءه قائلا ً:

- حمد... تعرف مكان قريب نقدر نمشي فيه؟

- نمشي فيه؟ كيف؟

- مضمار للمشي يعني.

- آآآآ... فيه طريق النهضة قريب، شارعين من هنا.

- خل نروح نمشي هناك أحسن من الجلسة.

ركبا سيارتيهما، ولحق سعد بحمد الذي انطلق مسرعا ً وفي عقله تتردد كلمات سعد الأخيرة، " ترى ما السر الذي تختزنه يا سعد؟ ترى ما السر؟ هل نورا حقيقية؟ هل أحببت يوما ً؟ ما هي جروحك؟ ما هي أحزانك؟ متى تفتح قلبك يا سعد وتخبرني؟ متى؟".

كانت المواقف تمتلئ عادة في يوم الخميس، ولكنهما وجدا لحسن الحظ موقفين متباعدين، نزلا إلى الممشى الذي تحوطه الأشجار ويمضي متعرجا ً، فيما يجلس الناس على جانبيه، ويمضي الأطفال راكضين وهم يزعقون بفرح.

لفهما الصمت قليلا ً ثم قال سعد وهو يسحب الهواء بعمق:

- جميل هذا المكان، يبدو أنه سيكون مزارا ً لي في المرات القادمة التي آتي فيها إلى الرياض.

- نعم هو جميل ( ما هذه العبارة السخيفة – قالها حمد لنفسه بعدما تلفظ بها).

عاد الصمت يلفهما من جديد، كان ثقيلا ً لزجا ً، يكتم الأنفاس، ويتعب الروح، وعندما طال انبرى سعد قائلا ً:

- أتعرف ما هي مشكلتي يا حمد؟ مشكلتي هي أني أفكر كثيرا ً، هي أني دقيق جدا ً أكثر مما يحتمل، كل شيء لدي يخضع لحسابات، نوع من هستيريا التنظيم والدقة، مشكلتي أن أفضل وأقرب أصدقائي هما الكتاب الذي يضيف لي جديدا ً والساعة التي تخبرني أن الوقت يمضي بسرعة، هل تعلم أني أحيانا ً أحس بارتفاع في حرارة جسدي من كثرة التفكير، أحس بضغط كبير على عقلي، أفكر في كل مكان... البيت، الجامعة، الشارع، وأنا أقود السيارة، أفكر وأحدث نفسي طوال الوقت، أفضل محاور لي هو ذاتي، أحاور ذاتي كل يوم، أنقدها، أبتدع نكتا ً وأضحك منها، أسلي نفسي بنفسي، هناك ثرثار في رأسي، لا يريد أن يصمت، يخبرني كل يوم بما أعرفه، يخبرني بتفاصيل كل ما قرأت، ويمضي يتنقل بين المعلومات والمواضيع بجنون، هل تريد أن تسمع جزء ً من هذره اليومي؟
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
وأشار إلى رأسه بسبابته، فهز حمد رأسه أن نعم، بدون أن يفتح فمه، فألقى سعد بنظره إلى الأرض، وبدأ بالكلام بسرعة:

- أين كنا؟ حسنا ً لا يهم... الكلام يأتي ببعضه... يقول ابن مالك في ألفيته (كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم) وكل ما أحتاجه الآن مجرد اسم أو فعل حتى أصوغ حكاية جيدة أو موضوعا ً شيقا ً، ألفية ابن مالك بالمناسبة هي منظومة في النحو، فالعرب كانت تنظم كل شيء... العقيدة، الفقه، النحو والتاريخ، فهناك ألفية العراقي ونونية ابن القيم ونونية القحطاني، فالشعر ديوان العرب الذي حفظ آدابهم، الغريب هو أن كثير من الأمم سبقت الكتابة الأدب عندهم، ما عدا العرب كان الشعر سابقا ً للكتابة، ولذلك ظهر فيهم شعراء مجيدون منذ القدم، وما شعراء العصر الجاهلي إلا أبسط مثال على ذلك، وإن كان الدكتور طه حسين يرى في كتابه الشهير ( في الشعر الجاهلي) أن الشعر الجاهلي منتحل، هذا الكتاب الذي سحب بسببه إلى المحكمة، طبعا ً ليس بسبب متحمسين للشعر الجاهلي وإنما بسبب أشياء أخرى ذكرها في الكتاب، نعود إلى الشعر والأمم... انظر مثلا ً إلى الإنجليز أشهر شعرائهم هو وليم شكسيبر لم يظهر إلا في القرن السادس عشر، شكسبير هذا لازال شخصية غامضة، لا نملك معلومات واضحة عن حياته حتى أن البعض نفوا أن يكون شخصية حقيقية ونسبوا أعماله إلى الفيكونت إدوارد دي فير، أما الغريب والمضحك في الأمر فهو أن هناك من أدعى أن اسم شكسبير ليس إلا تحوير لـ ( الشيخ زبير) ولا تسألني عن سبب هذا الادعاء، وليم شكسبير... وليم... بالمناسبة اسم وليم هو اسم تيوتوني مثله مثل إيرك وهنري، والأسماء التيوتونية هي الأسماء التي تنتج من اندماج اسمين لشيئين ولا يعني هذا بالضرورة أن يكون للاسم الناتج معنى، وليم مثلا ً مكونا ً من جزئين ول التي تعني إرادة ويم التي تعني خوذة، وأسماء الأعلام بالمناسبة ذات أصول عدة فهناك الأسماء ذات الأصول العبرية مثل بنجامين أو بنيامين والذي يعني ( ابن اليد اليمنى) و سوزان الذي يعني ( زنبق) نتنياهو الذي يعني ( عطا الله) وهناك الأسماء اليونانية مثل ميلاني وهيلين وجورج وهناك الأسماء السلتية مثل دوجلاس وجنفر، وطبعا ً العربية مثل محمد وعبدالله، أما أغرب الشعوب في التسمية فهم اليابانيون فهم مولعون بالأسماء ذات المعاني الغريبة، قرأت قبل سنوات في إحدى الصحف عن الأب الذي كان يرغب بتسمية ابنه بـ ( زهرة زنبق على عجز كبش) أو شيء من هذا القبيل ولكن قسم تسجيل المواليد رفض قبول هذه التسمية، فأختار عوضا ً عنه اسم ( ابن الشيطان) مدعيا ً أن هذا لا يلحق الأذى بأي أحد، والشيء بالشيء يذكر، فالهنود الحمر كانوا شاعريين في اختيار أسمائهم فكان لديهم ( الريح في شعره) و ( الراكل إلى الأعلى) و طبعا ً أنت تعرف ( الراقص مع الذئاب)، ولكن الهنود الحمر تم ذبحهم وإبادتهم من قبل المستعمرين الأوروبيين، وكل ما تبقى منهم الآن أربعة ملايين فرد يعيشون في محميات، ولا نعرف عنهم شيئا ً سوى أسماء قبائلهم التي أطلقت على بعض المنتجات، فالشيروكي (السيارة) والأباتشي ( الطائرة الهجومية) ليست إلا أسماء قبائل هندية، طبعا ً هناك قبائل هندية كثيرة الكريك والسوك والشيووا والسيوكس والآباش وغيرها، ولكن الأمريكان لم يخرجوا حتى الآن بمنتجات تحمل أسمائها، وبما أننا في سيرة الأمريكان وإنتاجهم، فلا بد أن نعرج على الثقافة الأمريكية الاستهلاكية؟ فالشعب الأمريكي أكبر شعب استهلاكي في العالم، وهو على عكس ما يظن الناس يستهلك أكثر مما ينتج، ولذلك فأمريكا الآن ترزح تحت دين عام يبلغ 7400 مليار دولار، نعم... 7400 ألف مليون دولار، لقد سمعتني، بمعنى أن أمريكا الآن تنهب خيرات العالم بالدين ولا تقدم شيئا ً بالمقابل، بينما من الجهة الأخرى الشعب الياباني شعب منتج أكثر منه مستهلك، بالإضافة إلى أنه سوق مغلق أمام جميع المنتجين غير اليابانيين، فاليابانيون عودوا أنفسهم منذ سنوات على تقليل الإنفاق وزيادة الإنتاج وهم الآن يحصدون ما زرعوا، طبعا ً لا ينافسهم أحد إلا الألمان، والعجيب هنا هو الدافع لدى الشعبين، فدافع الشعب الياباني للتفوق هو الشعور بالدونية والنقص فاليابانيون يحاولون دائما ً التغلب على نقصهم وضعفهم وفقرهم إلى الموارد الطبيعية وهذا ما يدفعهم للأمام، بعكس الألمان الذين يشعرون بالفوقية وأن ألمانيا فوق الجميع كما يقول النشيد الألماني الشهير، وهو المدخل الذي دخل عليهم منه هتلر، فهتلر كان يذكر دائما ً بالظلم الذي لحق بالأمة الألمانية في الحرب العالمية الأولى والأراضي التي اقتطعت منها وأعطيت إلى فرنسا ( الألزاس واللورين) وأيضا ً ما حصلت عليه بولندا، الغريب هنا هو أن هتلر ليس ألمانيا ً أصلا ً وإنما هو رسام نمساوي مغمور كان يبيع لوحاته للمقاهي في فيينا، واسم عائلته أصلا ً لم يكن هتلر وإنما كان هيدلر ولكن تم تحريفه إلى هتلر تخفيفا ً في النطق، شارك في صفوف الألمان في الحرب العالمية الأولى وأصيب، وعندما نتحدث عن هتلر فنحن لا ننسى رفاقه بالطبع هملر رئيس الجشتابو وجورينج صاحب اللوفتوافه، أتعرف اللوفتوافه؟ الطيران الألماني الحربي الضارب الذي أرعب أوروبا، أيضا ً جوبلز وزير الدعاية الوسيم الذي كان مؤمنا ً بهتلر حتى أنه عندما سقطت برلين قام بتخدير أبنائه الستة ثم قتلهم بالسم بالتعاون مع زوجته قبل أن ينتحرا معا ً، ورومل ثعلب الصحراء والقادة الكبار مثل فون رنشتد وفون باولوس ودانتز، لقد كانت أياما ً أسود من قلب الكافر، قتل فيها 35 مليون إنسان في ظرف ست سنوات، طبعا ً كان الختام باللمسة الأكشنية الأمريكية بواسطة قنبلة ( الولد الصغير) كما أسموها التي ألقيت على هيروشيما، وقتلت مائة ألف من سكانها في لحظة، أعوذ بالله من غضب الله، ولكن دعنا من الحروب وسيرتها مع أن المؤرخ توينبي قال أن مجموع السنوات التي قضتها البشرية بدون حروب في التاريخ المنظور 278 سنة فقط، تخيل هذا !!! آلاف السنين لم يدم فيها السلام سوى هذه الفترة البسيطة، فلذلك الحروب شئنا أم أبينا تشكل جزء من الثقافة البشرية، والعجيب أن الحروب ساهمت أحيانا ً في تقدم العلم، فكثير من المنتجات التي نستعملها الآن كانت في الأصل منتجات حربية ولأبحاث التي قامت عليها كانت تحت مظلة وزارات الدفاع، وأبسط مثال شبكة الانترنت التي كانت في الأساس شبكة لوصل متعهدي القوات المسلحة الأمريكية بوزارة الدفاع الأمريكية، عموما ً... قلت أننا سنخرج من الحروب وأقرب قشة نتعلق بها هي الانترنت، الانترنت الحالة الجديدة، سبحان الله... كل الأمور تبدأ بسيطة ثم تتعقد، انظر للانترنت الآن... بدأنا الآن نسمع بالجرائم الإلكترونية وبدأت الدول في سن القوانين التي تجرم بعض استخدامات الانترنت، ومع مضي السنوات ربما يتحول الانترنت إلى منظمات ضخمة وجماعات ضغط هائلة، فالانترنت يتميز بسهولة الاستخدام والعالمية مع قدرة عالية على النشر وتوصيل المعلومة، وسيأتي اليوم الذي تسود فيه الثقافة الجوجلية ( نسبة إلى محرك البحث جوجل) الذي يقدم لنا خدمات كبيرة جدا ً في نشر المعلومة كما يحمل سلبيات يجب أن نحذر منها، وبالحديث عن النشر... لو تعلم مقدار الخدمة التي قدمتها لنا الطباعة؟ في الماضي كان نسخ الكتب يتم يدويا ً ويأخذ وقتا ً طويلا ً، كما أن المؤلف الذي يقضي ربما سنوات في التأليف ويكد بدنه وعينيه في البحث والكتابة يضطر عندما ينتهي إلى البحث عن ملك أو وزير ليهديه النسخة الأولى من الكتاب، فإذا أعجب بها أمر بنسخها ومنحه مبلغا ً من المال كمكافأة، وربما لا ينتشر الكتاب كثيرا ً لقلة الناسخين له فيطوى في بطون المكتبات، وتتعجب عندما تنظر في سيرة الكتاب الكبار في الزمن الماضي فتفاجئ بأنهم شحاذين رسميين، خذ أبو حيان التوحيدي مثلا ً، أقرأ مقابساته أو كتابه الإمتاع المؤانسة ستعجب بعلم الرجل وسعة معارفه ولكنك أيضا ً ستعجب من اللغة الذليلة الخانعة التي يستجدي فيها مثل قوله ( أجبرني فإنني مكسور، اسقني فإنني صدٍ، أغثني فإنني ملهوف، شهرني فإنني غفل، حلني فإنني عاطل)، إلا يسوؤك أن تجد هذا في كتاب أدبي أو علمي؟ وأبو حيان هذا هو الذي أحرق كتبه في آخر عمره بسبب تألمه من أن لا أحد قدر جهده وعمله وظنا ً بعلمه على الناس أن يقرءوه بعد موته، ويشابه الشعراء في هذا الكتاب، فالمتنبي الذي عده البعض أفضل شعراء العرب، أين قصائده في الفقراء والمساكين أو في الأحوال الاجتماعية أو الفكرية، للأسف جل قصائده ذاتية استرزاقية مطعمة بالحكم التي تخلب لب الناس، لماذا؟ لأن الشعر أكل عيش، وعليه قس أكثر الشعراء الذين كانوا يقفون بأبواب الخلفاء لينعم عليه الخليفة بـ ( أعطوه عشرة آلاف دينار وجارية وغلام يا حاجب)، مساكين أولئك الشعراء فاتتهم الآن الدواوين المطبوعة لشعراء اليوم، ذات الصفحات المصقولة والتي تكتب بها القصيدة على خلفية تمثل شمس غاربة أو قمر في المحاق، ويصدر الغلاف بصورة الشاعر وهو يبتسم بخفر وحياء كأنه مغصوب على طبع الديوان، وعندما تفتح الديوان لا تجد قصائد وإنما تجد كلاما ً فارغا ً من نوع
( راحت وحسيت أنها بتروح
وقلبي معها راح
وبغت تروح الروح
حزة صلاة التراويح
والقلب مجروح
جاء غزال مقبل مملوح
مثل رجم العقوم الطراميح
القلب يبي له عدة وتصليح
والأكل ما يصلح بدون تبهير وتمليح)، تبهير وتمليح؟ من معنا؟ الهدوج وإلا ماما نورة؟ كلام فارغ، للأسف فات المتنبي هذا العز، وبما أننا مازلنا في سياق النشر فحمى النشر لم تصب فقط الشعراء بل والكتاب أيضا ً، اذهب إلى المكتبات ستجد على رفوفها الغث والسمين، وللأسف ستجد الغث يحتفى به وتتناوله الأقلام بينما تغض الطرف عن الكتاب ذوي المواهب، وهذا يدل على أن المسألة لا تخضع للثقافة أو لمعايير فنية وإنما هي القدرة على تسويق الذات والمصالح، لدينا شللية (من شلة) في الأدب للأسف، لدينا أقلام تضيع في الزحام بسبب الخلافات الإيديولوجية أو الشخصية، لدينا...
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
كانا قد وصلا الآن إلى نهاية المسار من الناحية الشمالية وصار لزاما ً عليهما الالتفاف والعودة مع المسار الآخر، ترامت إليهما أصوات المؤذنين متداخلة وهم يدعون للفلاح، استدارا وعادا صامتين يرددان مع المؤذن، وعندما انتهى سعد (..... وآت محمدا ً الفضيلة والوسيلة وابعثه مقاما ً محمودا ً الذي وعدته) التفت إلى حمد الساهم وأشار إلى رأسه وقال بحزن:

- أرأيت حجم ما يدور هنا؟ أرأيت ما يلاحقني في وحدتي؟ هل تصدق أني قطعت المسافة بين الرياض والشرقية وهذه الملاحم تدور وتدور في رأسي، إني لا أستطيع النوم بسهولة؟ صار النوم في فلسفتي مضيعة وقت؟ أحيانا ً أضع رأسي تحت الوسادة لا فوقها، وأحاول أن أسكت هذا الثرثار الموجود في عقلي، ثم عندما أتهادى في الوسن وأرى النوم كحضن أم رؤوم وعندما يغوص رأسي في نعومة المهد الرباني، ينسى الثرثار الذي بدأ صوته بالخفوت نصف بيت أو تاريخ حدث ما أو عبارة قرأها في كتاب ما، فيحرمني النوم، فأنهض هاتكا ً أستار الليل وأظل إلى الفجر أنقب في مكتبتي عن ما نسيه، حتى إذا صليت الفجر سقطت على الفراش فاقدا ً للوعي خانقا ً الثرثار.

صمت والتفت ينظر إلى فتاة صغيرة جميلة كانت تمر بهما وهي تضحك بقوة وعلى فمها وبين أصابعها حلوى ذات لون أحمر جعلتها كمثال صغير لدراكيولا، ولكنه دراكيولا فاتن وجميل بالطبع، بينما كان حمد ساهما ً معقود اللسان، لا يدري ما الذي يجب عليه قوله، كان مبهوتا ً بكل ما سمعه، يحس بما يحس به كل إنسان اقترب من حافة المآسي الإنسانية.

وصلا إلى المواقف، قال سعد وهو يمسح حبات العرق التي كللت جبينه ويتجنب نظرات حمد:

- أنا ماشي الآن.

- الآن؟ خل نتع...

قاطعته إشارة سعد الحاسمة، فصمت ونظر إلى سعد الذي ركب سيارته وأدار محركها، ثم فتح النافذة الجانبية ونظر إليه نظرة أخيرة قبل أن يقول:

- أتمنى إني ما أكون صدعت رأسك اليوم بحديثي، كما أني تركت للختام خبرين صغيرين، الأول هو أني تعوذت من شيطاني وسأرد ردا ً واحدا ً مفصلا ً على القراء في روايتي، والثاني هو أني قرأت الفصل الثاني من روايتك، وأعجبني كثيرا ً كما أعجب الجماعة الذين أرسلت لهم، تستطيع اعتبار نفسك العضو الجديد في الجماعة، هذه هدية بسيطة أرجو أن تمسح بعضا ً من وقاحتي، وبإذن الله خلال الأسبوع القادم سيكون الاجتماع التحضيري لوضع الخطوط الرئيسية للرواية الجماعية.

- الله يبشرك بالخير، فاجأتني بصراحة.

- ههههه، توصي على شيء؟

- سلامتك.

- مع السلامة.

تراجع سعد بسيارته دافعا ً إياها خارج الصف، ولوح بيده وهو ينطلق حتى وصل مخرج المواقف حيث تمهل ولمعت الأنوار الخلفية الحمراء لسيارته للحظات، ثم رحل سعد.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الفصل الرابع عشر

عاد إلى المخيم، ولكن الأمور لم تعد كما كانت، عاد يحمل خدوشا ً على جوانب روحه، كأن كلمات سعد أحجار ضخمة سقطت في أعماق نفسه وهي تصطدم في جوانبها محدثة صلصلة لازالت ترن في أذنيه.

عاد ساهما ً، واجما ً، متسائلا ً... تخوض سيارته في الرمال، وتحاول كشافاتها تبديد الظلمة والغبار، والليل الذي كان وليدا ً عندما خلف الرياض وراءه قد صار أبا ً ذو نجوم وهلال.

وصل المخيم ليجد أصدقائه قد جلسوا على السجادة الحمراء التي قد أحترق أحد أطرافها من مزحة سخيفة ذات يوم، ولونت بقع الشاي التي انسكبت في مناسبات متفرقة وجهها الأحمر ذو الزخارف، كانوا يتحدثون ويتناقشون بحماس ويصخبون حينا ً وحينا ً يضحكون.

حاول وهو مقبل عليهم أن يدرع بوجه باسم يقيه تساؤلاتهم وكلماتهم، التي جاء أولها من ناصر:

ناصر: هلا... والله هلا... هلا والله بالحامل والمحمول.

حمد: السلام عليكم... لا حامل ولا محمول... ما معي شيء.

ناصر: هه... ما جبت لنا شيء من الرياض؟

حمد: وش أجيب يا كافي... عطوني بيالة شاهي بس... رأسي مصدع.

عبدالعزيز: وهذي بيالة شاهي ( قالها وهو يمد يده بواحدة مثلومة).

حمد: يا هالبيالة المكسورة... دايما تصير من نصيبي.

ناصر: هذا أبو سعود الله يهديه... بخيل ولا يعرف بالإتيكيت.

عبدالعزيز: مخلين الإتيكيت لك يالدب.

ناصر وهو ينظر إلى مروان الذي كان يجلس على مبعدة عدة أمتار وبين يديه قطع دجاج يشويها على الفحم بنظرة طلب المساندة، ولكن مروان جاوبه بابتسامة خفيفة ولم يعلق: ما أقول شيء يا أبو سعود... أنت أبخص.

عبدالعزيز: كمل نصبتك اللي كنت تنصبها علينا قبل لا يجي حمد تر....

لم يسمع حمد باقي الجملة لأن عقله غاب من جديد في حمى الأسئلة، وعيناه معلقتان بمروان الذي كان يتشاغل بما بين يديه ولا يشارك بالحديث على غير عادته " هل هو غاضب؟ هل ضايقه رحيلي؟ لا بد أن أتحدث معه، ولكن ليس الآن فأنا لا أكاد أفيق من توهاني وشرودي" هكذا حدث حمد نفسه وهو يرمق يدي مروان وهما تديران الأسياخ بمهارة وخبرة.

* * *

الرياض بالنسبة لي ملاذ فكري، عندما أحس بالضيق والوحدة، أركب سيارتي وأخلف الخبر خلفي بل الساحل الشرقي كله، أغادر الرطوبة التي تكاد تزهق أنفاسي، أغادر الوجوه التي ألفتها، وآتي هنا... إلى الصحراء القاسية، أتجول في الرياض، أدور في أسواقها، مطاعمها، تقتحم أذني ضجة شوارعها، وأنفي رائحة طرقاتها، ثم أقصد أخيرا ً مكتباتها لأكدس في سيارتي أحدث الكتب، ثم أرحل وحيدا ً كما جئت وحيدا ً.

* * *

هل يعلم هؤلاء أني أكتب الفصل في يومين ثم أصاب بعدها بما يشبه الحمى الفكرية، فأظل أهذي ولا أقرب ورقة ولا قلما ً لأسبوع، هل يعلم هؤلاء أن الأمر بالنسبة لي بمثابة استفراغ فكري؟....

* * *

مشكلتي هي أني أفكر كثيرا ً، هي أني دقيق جدا ً أكثر مما يحتمل، كل شيء لدي يخضع لحسابات....

* * *

هناك ثرثار في رأسي، لا... يريد.... أ... ن... ي...ص... م... ت...

* * *

عاد حمد إلى أرض الواقع على أصوات الشباب وقد نهضوا يغسلون أيديهم استعدادا ً للعشاء، نهض يتبعهم متثاقلا ً وسار حافيا ً، يحس بخشونة الأرض تحت قدمه، وقسوة الحصى المبثوث في جنبات المخيم، وتداعب باطن قدمه أعشاب ميتة قد سجتها الرياح، غسل يديه بماء بارد، ثم وجهه ورأسه وجعل يهز رأسه نافضا ً الماء وهو يشعر بانتعاش، وبالهواجس تتوارى، وتختفي في الشقوق الذاكرة حتى حين.

عاد إلى السجادة ليشارك الشباب وليمتهم البسيطة، كان مروان قد استرد جزء من روحه وعاد يداعب عبدالعزيز بكلماته، ورغم أنه لم ينظر إلى حمد أبدا ً ولكن مجرد عودته أشعرت حمد بالراحة، فجعل يضحك من كلمات مروان بقوة، للتنفيس أحيانا ً وللتملق أحيانا ً أخرى.

مروان: أبو سعود تكفى شوي شوي... ترى الدجاج مهوب طاير... ما طار وهو حي وشلون يطير وهو مشوي.

عبدالعزيز وهو يلوك خبزا ً وحمصا ً قد تبقى بعضه على طرف فمه: وأنت شوي شوي... مهوب لازم تعبي بطنك بق للمسلمين شيء.

ناصر بلؤم: أبو سعود أمسح فمك حومت كبدي... وع.

عبدالعزيز وهو يغمس قطعة خبز في الحمص ثم يبلل بها شفتيه ليغيض ناصر: وهذي خشتي صارت كلها حمص... وش عندك.

مروان: الله يحلل البزور يا أبو سعود... هذا وحنا نقول أنت كبيرنا... قالوا من عاقلكم قالوا هالمربط.

ناصر: مروان... تبي نربطه بعد العشاء، ترى معي حبل بالسيارة.

مروان: والله إنها فكرة زينة... لا ونأخذه ونجدعه بالشعيب يقولون إنه كله جن.

عبدالعزيز وقد أوجس خيفة لأنه يعرف جنون صاحبيه فقال محاولا ً توجيه الحديث وجهة أخرى: أقول أعقلوا بس... إلا أنت يا حمد وشلون الرياض.

نظر له حمد بغل لأنه حول الأنظار إليه وكاد كأس الكولا الذي يتجرعه يسقط من يده ورد بتعجل لإنهاء الحديث: الحمد لله بخير.

ناصر: لا تصرف يا بو سعود... والله العظيم إن ما مسحت خشتك ذي... أن لا أربطك أنا ومروان ونجدعك بالشعيب ونخلي الجن توريك الشغل.

خنس عبدالعزيز ومسح فمه وسط ضحكات مروان وناصر الشامتة.

* * *
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
كانت النار قد خبت عندما نهض مروان الذي قضى الساعة الماضية وهو يحرك شاردا ً رمادها بعصاه، كان الجميع قد أووا للفرش تباعا ً وظل حمد يقاوم النوم والشرود، منتظرا ً اللحظة التي ينفرد فيها بمروان.

وحانت اللحظة عندما جلس مروان على السجادة بجانبه، سكب لنفسه ماء ً ثم سأل حمد:

- كيف شغلك اليوم؟

- الحمد لله.

- طيب ليه ضايق صدرك وشارد؟

- مريت اليوم بتجربة غريبة... إحساس ما مريت فيه قبل يا مروان.

صمت مروان، وفي دقائق أنهى له حمد ما مر به خلال هذين اليومين، من محادثته مع سعد في المسينجر إلى حضوره اليوم، ومن لقاءهما في المقهى إلى سيرهما في طريق النهضة والانفجار العقلي لسعد إلى رحيله.

وقال حمد وهو ينهي حديثه:

- اليوم يا مروان عندما رحل سعد حسيت بمعنى الغربة الداخلية، حسيت كيف ممكن الواحد يقدر يألم نفسه ويقسى عليها أحيانا ً بسبب أشياء هو ماله ذنب فيها.

سكت مروان ولم يرد ثم نهض وانصرف وحمد يراقبه وعندما وصل باب الخيمة وقف لحظات ثم عاد وقال وهو واقف:

- معليش يا حمد... بس ما لاحظت إنك قلت الكلام هذا كله ببساطة، حمد... ما لاحظت إنك وفي خلال أسبوعين تخليت عن أصدقائك مرتين... وعشان من؟ عشان واحد مريض نفسي... حمد... ما لاحظت إن سعد الزفت هذا صار محور لحياتك... وصرت مستعد تتخلى عن أي واحد فينا عشانه... يكفي اتصال واحد منه وتروح تركض له... للأسف... كنت أظن إننا نهمك.

- مروان... أنا ما تركتكم الأسبوع هذا عشانه... أنا رحت عشان أرد له عزيمته لي الأسبوع اللي فات فقط... مروان أنت عزيز وغالي، كلكم عزيزين وغالين.

- لا تزعل مني يا حمد لو قلت إني ما ني مصدقك، أنت مفتون بهذا الشخص والأيام بتثبت لك الشيء هذا... عموما ً... أنت حر... تصبح على خير.

ومضى مروان إلى فراشه، فيما ظل حمد في الخارج يستمع إلى أنين الرياح ومعزوفة الحشرات الليلية.

* * *

مضى الغد بطيئا ً على حمد، كان يتجنب الصدام مع مروان، ويؤجل الحوار معه إلى أن يهدأ، سيتركه لنفسه يومين أو ثلاثة وبعدها تصلح الأمور، هكذا قدر.

أما مروان فقد كان يحس بألم في داخله، أن يرى أعز أصدقائه، يتخلى عنه بكل بساطة، كان يتساءل هل أنا فارغ إلى هذه الدرجة حتى يحس حمد بأن قضاء الوقت مع سعد أفضل من قضاءه معي؟ هل هي فورة ويعود بعدها حمد كما كان؟ هل؟

مضى اليوم... وعاد الجميع إلى منازلهم، وعاد حمد بغير الوجه الذي ذهب به، مرهقا ً شاردا ً يفكر في سعد، في مروان، في نفسه، في أشياء كثيرة تحتاج إلى حسابات جديدة.

* * *

السبت/ الساعة 9.30 مساء ً.

لم يذهب حمد إلى أصدقائه اليوم، وإنما قبع في غرفته تحت دعوى الإرهاق، كان لقاءه بمروان صباح اليوم في الجامعة باردا ً وهادئا ً، والكلمات قليلة وثقيلة، ولم يكن حمد في مزاج يسمح بالشرح والاعتذار ولذلك جعل الأمور تسير في مجراها، ولم يحاول التغيير.

كان سعد يلح على أفكاره، وذكرى يوم الخميس ماثلة أمامه، وكلمات سعد كأنما نقشت على لوح من رخام فهي تعرض عليه في كل لحظة، وتبرق في مخيلته كأنها ترجيع صدى أبدي.

ولذلك وجد صعوبة في أن يفعل شيئا ً، لم يستطع المذاكرة، ولا مشاهدة التلفاز، ولا الخروج، ولا الدخول، حتى الاستحمام بدا له بلا طائل، وعندما جلس أمام حاسوبه ينتظر الدخول إلى الانترنت، صار يزفر بقوة ليخرج الضيق الذي يثقل صدره.

وجد سعد في المسينجر، ارتجفت يداه، فكر بالهروب، بالخروج من الانترنت كله، لا يريد لقاءه، لا يريد الحديث معه الآن، لا يريد سماع شيء، تكفيه حيرته هو، اضطرابه هو، مشاكله هو، خيباته هو وانكساراته هو.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
ولكن سعد ابتدأه بالسلام ثم أتبع:

- أهلا ً... كيف الحال؟

- وعليكم السلام... الحمد لله بخير، كيف حالك أنت؟

- الحمد لله طيب...

- كيف الحال اليومين هذي؟

- بخير الحمد لله.

- قرأت الرد؟

- أي رد؟

- ما دخلت المنتدى اليوم؟ الرد على قراء روايتي.

- لا ما دخلت بدخل بعد شوي.

- أمس بالليل كتبته ونزلته في الموقع.

- الله يستر.

- ههههههههه... تفاءل يا أخي يمكن أكون غيرت النهاية.

- والله يا هي صعبة... أقرب الرد وأشوف.

- المهم... أنا مستعجل بروح أجيب أمي وأختي... برسل لكم الآن أنت والبقية الجماعة رسالة تحديد موعد الاجتماع الأول وتعريف بالبقية.

- ما شاء الله وش هالنشاط؟ متى الاجتماع؟

- الاثنين القادم على المسينجر الساعة 10 مساء ً.

- خير إن شاء الله.

- توصي شيء؟

- سلامتك.

- الله يسلمك... أستلم الرسالة.

لحظات ووصلت إلى حمد الرسالة فتحها ليجد مكتوبا ً فيها:

(( الأخوة الأعضاء

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يسعدني الإعلان عن انعقاد الاجتماع الأول لبحث كتابة الرواية الجماعية لمنتدى ( أقلام بلا اتجاه)، وذلك يوم الاثنين القادم الساعة العاشرة مساء ً، على المسينجر، أتمنى من الأخوة التقيد بالموعد، والآن سيتم تعريف سريع للأعضاء وتبادل للبريد:

1. قلم بلا اتجاه الخبر [email protected]
2. الليل الدمام [email protected]
3. مجروحة بأهدابي الرياض [email protected]
4. ضوء في آخر النفق الرياض [email protected]

وشكرا ً لكم.

قلم بلا اتجاه))

قرأ الرسالة وأسماء الأعضاء، لم يتذكر أنه قرأ لهم شيئا ً من قبل، فكر أن يقرأ لهم حتى يعرف لم َ أختارهم سعد؟ قصد المنتدى، وهناك فتح رواية سعد ( صفحات حب تذروها الرياح) ليقرأ الرد، ثم بحث عن مشاركات ( الليل) و ( مجروحة بأهدابي)، وجد ثلاث قصص قصيرة للأول، وقصة قصيرة وواحدة طويلة لمجروحة، فتحها كلها وجلس ينتظر، وعندما اكتمل فتح الصفحات قطع الاتصال، وقصد رواية سعد وبدأ يقرأ.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
هل يعلمون أنهم بعثروا آلامي؟ أنهم وطئوا جروحي، عاثوا في مساحات حزني؟ لا... لا يعلمون، لأنهم لا يقرأون ولا يفهمون، لا تلمني يا حمد... فما كتبته لم يكن خيالا ً محضا ً، وإنما هو شيء مني، قطعة مني، لقد أطلعتهم على عوالمي الداخلية، على مسارات الأفلاك التي ظلت طريقها داخلي، ولكنهم طوحوا بهذا كله في لحظة.

* * *

(( توطئة

هذا ما يجنيه من يحاول تحريك صخرة في وادي قفر، إنه يحرك عوالم قد استوطنتها... عوالم تتوجس من نور الشمس.

لذوي الألباب

عندما بدأت في كتابة روايتي... كانت البداية اختيارا ً... لم يسألني أحد الكتابة... لم أستشر أحدا ً في موضوع الرواية، أحداثها، اتجاهها... كان حق الكاتب في الكتابة، كما هو حق القارئ في القراءة والنقد.

وعندما وضعت النهاية التي أملتها علي مسئوليتي ككاتب يحترم فنه، يحترم قلمه، ويحترم قراءه، لم انتظر تصفيقا ً... هتافا ً... تملقا ً... كل ما أملته مجرد قارئ... قارئ يقرأ ما وراء الحروف... قارئ يقرأ الرواية كاملة... ثم يربت بيد وهمية على كتفي ويقول " لقد وصلت الرسالة... شكرا ً"... واليوم وأنا أطلع على ردودكم... أكاد أجزم بأن هذا الكاتب لم يتجسد واقعا ً... أنه ولد في خيالي وهناك ذوى ومات... لم كنت أكتب إذن؟ لمن؟

هنا في هذه الصفحة وعلى مدى شهور بعثرت نفسي، تركت قلمي يرسم لكم الإشارات... تركت خالد يخبركم أشياء ً وأشياء... كما تركت نورا تفعل ذلك... ومن وراء هذا كله كنت أنا الذي يتحدث إليكم... كنت أغلف رسالتي بأسلوب أدبي... ولكن يا للأسف... اكتشفت اليوم أني نسيت أن أضع لكم ( دليل الاستعمال).

ما يضايقني حقا ً... بغض النظر عن مدى فهمكم لما قلته... هو أني حاولت أن أصنع فارقا ً... حاولت أن أحول الصخرة الجاثمة عن مكانها، أن أجعل الشمس تصل إلى التربة التي اشتاقت إلى النور، إلى التنفس ورؤية وجه السماء، ولكني نسيت حينها إني معرض للسع، معرض لخشونة الصخرة، معرض لغضبكم.

ما يضايقني صدقا ً... هو أن الذين اقتاتوا على حروفي أياما ً... والذين شكلت كتاباتي رافدا ً لهم... عادوا اليوم يرتدون أسمال المزق التي انتزعوها من حروفي... ليصيحوا باسم الأدب والقصة والكتابة.

لم أسمع قبل اليوم بالنهاية التي يختارها ويصوغها القارئ... فهل سمعتم؟ هل كان يجب علي أن أكتب عشرات النهايات لهذه الرواية... نهاية لكل قارئ، لأستجلب رضا ً لا أبحث عنه.

لو نظرتم إلى ما كتبت لوجدتم أنه لا يعدو قصة شخص بسيط قرأ لفتاة مثقفة وأحبها ثم فر عندما لم يستطع مجاراتها... هي قصة بسيطة... لا جديد فيها على مستوى الحدث، فأنا لم أكن أبحث عن الأحداث، لم أعدكم بشيء، أنا هنا كنت أكتب عن الإنسان، خيباته، آلامه، آماله، انكسارات الحلم، قسوة الفقد، وفقد القدرة، وقدرة الفعل، وأشياء أخرى... كنت أحاول أن أصنع منظارا ً... استكشف به ذاتي وذوات الشباب الذين يرمز إليهم خالد... ونورا كانت أشبه ما تكون بالرمز لكل شيء جميل في هذه الدنيا... لا نستطيع الحصول عليه.

هل ظننتم أني عاجز عن تدوير الأحداث؟ اختلاقها؟ هل تظنون أني لا أستطيع أن أحبس أنفاسكم بتتابع الأحداث وسرعتها؟ هو أمر مقدور عليه... ولكنه لباس لا يناسبني، يقصر عن مقياس عقلي ورأيي، تركته لأهله... أنا أحاول الغوص في الأعماق، أحاول قراءة الناس، تصرفاتهم، آمالهم، مخاوفهم.

ولذلك فأنا أعتذر لكم لو كنت قد سحبتكم إلى الأعماق وأنتم لم تجاوزوا يوما ً المناطق الضحلة، أعتذر لأني كشفت هنا جزء ً من ذاتي المقروحة، وأعتذر لأني تعشمت أن هناك من يقرأ ما وراء الحروف.

أحتاج الآن إلى أيام طويلة لأبرأ وأتعافى من الكتابة... ولكن عندما أكتب هنا مرة أخرى أعدكم أن أظل قريبا ً من السطح، ليس من أجلكم، ولكن لأن أنفاسي ما زالت قصيرة... أقصر من رعشة هدب... أقصر من خفقة جناح... وأقصر من خطرة التفكير في العقول الصدئة.

وها هي قصة خالد تتجسد من جديد... أنا خالد... ونورا هي الكتابة العميقة... رباه... إن هذا الجب موحش. ))
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الفصل الخامس عشر

الاثنين/ التاسعة وخمسون دقيقة مساء ً.

زفر حمد بقوة وهو ينتظر الدخول إلى المسينجر، دقائق معدودة ويبدأ الاجتماع الأول لهذه المجموعة الوليدة، لحظات وتتضح صورة العمل القادم، لحظات ويتعرف على شخصين جديدين ويدخلان قاموس حياته الشخصية وتعاملاته اليومية، ( الليل) و ( مجروحة بأهدابي).

كان قد قرأ قصص ( الليل) الثلاث، أعجبته كثيرا ً أفكارها المبدعة والجديدة، هذا الشاب يملك خيالا ً مجنحا ً واسعا ً - قال لنفسه - ولكن يا للأسف لا تسعفه اللغة كثيرا ً، فلغته تغرق بسهولة مهما حاول انتشالها من العامية والألفاظ المصطنعة، والتشبيهات المتكررة.

وبالأمس قرأ ما كتبته ( مجروحة بأهدابي)، بدأ بالقصة القصيرة والتي تحمل اسم ( امرأة تقتات الحزن)، كانت القصة عن أرملة ثلاثينية تعاني من تسلط أخوتها، وتتذكر زوجها الراحل بحزن وحب، لم تحمل القصة جديدا ً، هي نفس تيمات الفتيات المتعلقات بالحزن، كأنما الحزن والشرود يكمل صورة الفتاة الرقيقة، ولكنه للحق أعجبته اللغة الجميلة، لغة كغيمة صيفية فرت من الحرارة ومن غضب الشمس، لغة ناعمة سلسة، مداعبة كنسيم الصباح.

طبع القصة وقرأها مرتين، ملونا ً الجمل والمقاطع التي أعجبته بلون فسفوري مميز، وصار يعيدها مستحسنا ً:

( تمضي أيامي كساقية بئر معطلة، لا تعزق ماء ً ولا أملا ً....)

( لا أصعب من الفقد... إلا سماع نقد الفقد... ممن لم يجربه...)

( بكت نورة ولفت وجهها ببقايا خمارها الممزق وهي تقول:

- دعوا لي صورته على الأقل، فمازال في عينيه ذلك البريق الذي كان يدفئ شتاءاتي الماضية.)

( صرخ عبيد:

- أيتها المخبولة لا تنتظري فارسا ً يأتيك ِ على صهوة الحلم، أبو عثمان غني وطيب، ولا يعيبه شيء... كفي عن العيش على ضفاف نهر جف.)

( الليل حيث يرتاح الظالم والمظلوم من معارك أطراف النهار...)

( هذا البيت يعبق به، ولو عمرت عشرة قرون، ثم مررت به بعدها، لسمعت وجيب قلبي في صدري...)

كانت القصة باذخة من هذا الوجه، أما الرواية والتي أربت فصولها على العشرين، فلم يقرأ إلا فصلها الأول، كانت لها نفس تلك اللغة، وذات الكلمات المنتشية العابقة بالعطور.

لقد أحسن سعد الاختيار، هكذا حدث نفسه، وهو يرى شاشة المسينجر تفتح أمامه ويرى سعد والليل ينتظران، بادر حمد بالسلام، فرد عليه سعد وكتب له:

- لحظة... سأضيفك إلى محادثتنا أنا والليل.

مضت ثواني وفتحت له النافذة الخاصة بسعد والليل، فكتب حمد:

ضوء: السلام عليكم.

قلم بلا اتجاه: وعليكم السلام.

الليل: وعليكم السلام.

ضوء: مساء الخير.

الليل: مساء النور... كيف حالك أخوي ضوء؟

ضوء: بخير، الله يسلمك، كيف حالك أنت؟

الليل: طيب طابت حالك.

قلم بلا اتجاه: ننتظر الأخت مجروحة، عسى ما تتأخر علينا.

قلم بلا اتجاه: كنا نتكلم أنا والليل على الفكرة اللي عنده، واللي بيطرحها في الاجتماع.

ضوء: اها.

الليل: كنت أقول لأخوي قلم إنه أعجبتني كثير روايتك ( سنوات مسنية).

قلم بلا اتجاه: هههههههه، مسنية ( وجه تعبيري يخرج لسانه).

الليل: أعوذ بالله ما يفوتك شيء، عذرا ً منسية، سنوات منسية.

قلم بلا اتجاه: ضوء، لا تشره ترى الليل يحاول يتعلم الكتابة بسرعة، وطبعا ً تطلع بلاوي زرقاء من وقت لأخر.

ضوء: هههههههه، عادي كلنا نخطئ من السرعة.

سمع الثلاثة لحظتها الصوت المميز و( تم تسجيل دخول مجروحة بأهدابي)، قام سعد بإضافتها، ثم وبلون أحمر قان ٍ جاء السلام والتمسيات منها، وبعد مرور لحظات المجاملة، كتب سعد مفتتحا ً:

قلم بلا اتجاه: أهلا ً وسهلا ً بكم جميعا ً وقبل ما نبدأ، أرجو يا أخوان حتى يكون ما نكتبه واضح ومفيد، أن نتجاوز ردود المجاملات، وأيضا ً أن يكون الكلام مداورة بيننا، حتى نعطي الفرصة لكل واحد بأن يقول ما يريده، اتفقنا؟

قلم بلا اتجاه: أولا ً: الموضوع الرئيسي للاجتماع: كتابة رواية جماعية بإسم منتدى ( أقلام بلا اتجاه) وطباعتها مع حفظ حقوق الأعضاء المشاركين المادية والأدبية.

قلم بلا اتجاه: الاجتماع الأول: سيتم فيه التالي:
1. توزيع نسخة مبدئية من القوانين التنظيمية للجماعة لدراستها من قبل الأعضاء وطرح آرائهم واقتراحاتهم ومناقشة ذلك في الاجتماع القادم.
2. تحديد موعد أسبوعي ثابت للاجتماع ومناقشة سير عمل الجماعة.
3. الاتفاق على حفظ نسخة من الكلام الذي يدور في الاجتماعات عند كل عضو كمرجع عند الضرورة.
4. الاتفاق على فكرة الرواية ومحاورها الرئيسية، وتكليف أحد الأعضاء بصياغة الفكرة وتقديمها في الاجتماع القادم.
5. توزيع العمل بين الأعضاء، وتحديد المسئوليات والمهام لكل عضو.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
قلم بلا اتجاه: ما رأيكم؟

ضوء: ممتاز... على بركة الله.

الليل: الفقرة الثالثة ما فهمت وش المصقود منها؟

الليل: عذرا ً المقصود.

قلم بلا اتجاه: ( وجه تعبيري مبتسم) لنتركها لوقتها بنمر على النقط وحدة وحدة.

مجروحة: حلو... لنبدأ.

قلم بلا اتجاه: النقطة الأولى... برسل لكل واحد منكم نسخة من القوانين في نهاية الاجتماع حتى تقرءوها وتعطون آرائكم في الاجتماع القادم.

قلم بلا اتجاه: النقطة الثانية... في أي يوم تفضلون أن يكون الاجتماع؟

ضوء: الاثنين.

الليل: الخميس عشان الواحد يكون فاضي.

قلم بلا اتجاه: الخميس صعب لأنه يمكن يتعارض مع مناسبات اجتماعية أو يكون الواحد طالع.

مجروحة: الاثنين حلو.

قلم بلا اتجاه: كل اثنين... الساعة عشرة؟

ضوء: 11.30 أفضل.

الليل: لا متأخر... ما أحب السهر.

مجروحة: متأخر.

قلم بلا اتجاه: ههههه، اسمك الليل ولا تحب السهر، طيب... ما رأيكم؟ بالاثنين الساعة 11 ولا تزيد مدة الاجتماع على النصف ساعة؟ زين كذا؟

ضوء: تم.

الليل: خلاص ( وجه تعبيري يغمز).

مجروحة: اوكي.

قلم بلا اتجاه: ممتاز... الوقت: كل اثنين... الساعة 11... ومن عنده نية التغيب عن الاجتماع يجب عليه تبليغ الأعضاء قبلها بيومين على الأقل.

قلم بلا اتجاه: النقطة الثالثة: المطلوب من كل عضو أن يحتفظ بعد نهاية الاجتماع بنسخة من الاجتماع على جهازه للتذكير بما دار فيه... بس هذي كل السالفة يا الليل.

الليل: اها... هيك لكان.

قلم بلا اتجاه: أي حبيب ألبي... اتفقنا.

الليل: اتقفنا.

مجروحة: تمام.

ضوء: اتفقنا.

قلم بلا اتجاه: ( وجه تعبيري يضحك) خلاص اتقفنا ( وجه تعبيري يخرج لسانه)

الليل: حبيبي قلم مشي، لا تأخذ ببالك، الكيبورد عندي ردية... الأسبوع الجاي بغيرها.

قلم بلا اتجاه: ههههههههه، ظلمت الكيبرود.

الليل: هههههههه ( وجوه تغمز وتضحك وترقص حتى) سجل عندك كيبرود، ههههههه، ( وجوه وزهور وقلوب محطمة).

ضوء: هههههههههه.

مجروحة: ههههههههه (وجه تعبيري مبتسم).

قلم بلا اتجاه: الليل شوي شوي لا يطق بك عرق، تراي قاصد الخطأ بس عشان أوسع صدرك.

الليل: ايه هين... على غيري.

قلم بلا اتجاه: طيب... نكمل، النقطة الرابعة: الفكرة وصياغتها، هاتوا الأفكار اللي عندكم... نناقشها ونصوغها.

الليل: عن أذنكم أنا عندي فكرة حلوة.

قلم بلا اتجاه: ما شاء الله... تزكي نفسك، حلوة؟؟؟ طيب وش يدريك يمكن تطلع قديمة وإلا تحوم الكبد ( وجه تعبيري مبتسم).

الليل: أنتم اسمعوها وبعدين أحكموا... هي زينة وإلا لا.

ضوء: هات.

الليل: طالب مبدع في الجامعة، يدرس حاسب آلي، ويروح في مسابقة علمية في أوروبا، يمثل الجامعة يعني والمملكة، وهناك يتعرف على شاب أوروبي ويتصادق معه، وعندما يرجع للسعودية يصير يتكلم معه بالمسينجر، وبعدين يكتشف أن هذا الشاب الأوروبي هاكرز، وأنه يتجسس على جهازه ويسرق أفكاره والبرامج اللي يسويها... معي؟

ضوء: معك... معك.

مجروحة: معك كمل بليييز.

الليل: المصيبة وين؟ المصيبة أنه في على جهازه أشياء شخصية جدا ً، صور له يعني وصور لأخواته وأهله، ويندم كثير على غلطته، وعلى وضعه للصور وعلى تعرفه وأمانه لواحد ما يستاهل، وبعدين يبدأ يفتش عن واحد يساعده، ويحصل في النهاية هاكرز سعودي، ويطلب منه أنه يساعده، وفعلا ً يساعده هذا الهاكرز ويدمر جهاز الأوروبي ويمسح كل اللي عليه، وتنتهي القصة بسلام ولكن بدرس قوي للشاب بأنه التكنولوجيا ممكن تكون لك يوم وعليك أيام.

مجروحة: رووووووووعة ( وجه تعبيري مبتسم).

ضوء: حلوة جدا ً بل ممتازة.

قلم بلا اتجاه: جميلة وحديثة.

قلم بلا اتجاه: فيه أفكار أخرى؟

مجروحة: أنا كان عندي فكرة، بس روعة فكرة الليل قضت عليها ( وجه تعبيري غاضب).

قلم بلا اتجاه: ههههه، لا قوليها يمكن تعجبنا أكثر.

ضوء: قوليها أخت مجروحة.

مجروحة: أوكي... مع إني مستسخفتها شوي.

مجروحة: هي تتكلم عن بنت ذكية وجميلة ولكنها مصابة بالصمم والخرس، تقرأ يوما ً من الأيام قصيدة لشاعر شاب وتعجب فيه، بل تحبه وتتعلق فيه، وتبدأ تتبع قصائده، وتحاول تتعرف عليه، وتكتشف في النهاية أنه أعمى، ويتحطم حبها على صخرة عدم وجود طرق للتواصل بينهما... بس... عارفة إنها حزينة وبايخة.

قلم بلا اتجاه: بالعكس جميلة وإنسانية... رائعة.

ضوء: رائعة، أعجبتني.

الليل: رووووووووووعة، أحسن من فكرتي يا هوووووووه.

قلم بلا اتجاه: فيه أفكار أخرى؟

قلم بلا اتجاه: طيب أنا عندي فكرة متواضعة... بشوف رأيكم فيها.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
قلم بلا اتجاه: فكرتي شوي متعبة ومركزة... تتكلم عن كاتب كبير في السن ومشهور جدا ً... قرر بعد سنوات أنه يقوم بتجربة عقول الناس، فكتب كتاب بطريقة سخيفة وغير مفهومة وأدعى أنها فتح أدبي جديد، واستغرب التهليل الكبير اللي لاقه كتابه والرواج والكتب والمقالات التي تناولته بالتحليل، وظهر شباب يقلدون طريقته، وبعد اكتمال التجربة يقوم بتأليف كتاب عن هذه التجربة وسخافتها وسخافة من صفق وروج لها.

مجروحة: حلوة... حلوة جدا ً.

الليل: ما أدري... هي حلوة... بس أحس أنها فلسفية وما فيها أحداث كثيرة.

ضوء: الفكرة جميلة ولكن أليست قصيرة؟

الليل: إلا قصيرة.

قلم بلا اتجاه: لن تكون قصيرة لأنها راح تتناول حياة الكاتب وأسلوبه والأسلوب الجديد الذي سيخترعه والكتابات التي صفقت له وبعدين كتابه الأخير اللي يختم فيه حياته الأدبية.

مجروحة: أنا أعجبتني.

قلم بلا اتجاه: طيب... فيه أفكار أخرى؟ ضوء؟

ضوء: بالنسبة لي لا

قلم بلا اتجاه: طيب... نسوي تصويت على الأفكار:
1. فكرة الشاب والهاكر.
2. فكرة الفتاة والشاعر.
3. فكرة الكاتب.
وش اللي يناسبكم؟

قلم بلا اتجاه: هههههههه، وراكم سكتوا مستحين؟ طيب أنا أبدأ مادام فكرتي ما أعجبتكم فأنا أختار فكرة ( الفتاة والشاعر).

ضوء: وأنا ( الفتاة والشاعر)

الليل: تم... الفتاة والشاعر.

مجروحة: فكرتك رائعة أخوي قلم... وأنا معكم في اللي تشوفونه.

قلم بلا اتجاه: مشكورة أختي... وخلاص تم اختيار فكرتك بالاتفاق، وأرجو إنك تصوغيها في حدود صفحتين وورد وترسليها لنا.

قلم بلا اتجاه: والآن نجي لتوزيع العمل... أنا عندي اقتراح وهو إننا ننقسم إلى فريقين الفريق الأول فريق التجهيز... والثاني فريق الكتابة... وبشرح لكم وش قصدي.

قلم بلا اتجاه: فريق التجهيز مهمته استلام الفكرة والبدء في تجهيز عناصرها الأساسية... بمعنى إعداد بيئة القصة... أشخاص القصة... عمل أبحاث تخدم القصة، في قصتنا مثلا ً تجهيز أوراق عن الصم والبكم والمكفوفين وأي تفاصيل يطلبها فريق الكتابة، وتكون مراجعهم الكتب أو الانترنت.

قلم بلا اتجاه: بينما فريق الكتابة مهمته تجميع هذه المادة وصياغة القصة وكتابتها... فما رأيكم من يريد أن يكون في فريق التجهيز؟ ومن يريد فريق الكتابة؟

الليل: أنا يناسبني التجهيز... أنتم ما شاء الله لغتكم العربية زينة مهوب مثلي.

ضوء: أتوقع أنك أنت أخوي قلم والأخت مجروحة الأنسب لدور الكتابة، لأنه ما شاء الله لغتكم ممتازة... بكون تجهيز.

قلم بلا اتجاه: خلاص... أنا ومجروحة كتابة وأنتم تجهيز... بترسل لنا مجروحة الفكرة خوذوها وجهزوها للكتابة... جيد؟

ضوء: خلاص.

الليل: تم.

مجروحة: بكتبها وأرسلها لكم بكرة.

قلم بلا اتجاه: ممتاز... وأنا برسل لكم الآن نسخة القوانين... أقرءوها وأعطوني آرائكم الاثنين القادم...
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
راجع حمد في مقعده بعدما فرغ من قراءة مسودة القوانين، جعل يتأمل الحوار الذي دار بينهم في المسينجر قبل نصف ساعة، ولأول مرة ينتبه إلى سيطرة سعد وحضوره القوي.

هذا السعد كم هو محير، أين هذا الإنسان اليوم الذي يمزح ويضحك ويدير الاجتماع بكل بساطة وقدرة وحيوية، من ذلك الشخص التائه الضائع الوحيد في طريق النهضة؟ كم من الشخصيات تحمل يا سعد في داخلك؟ كم أثواب تتسربلها وكم أثواب تنزعها في اليوم الواحد؟

كان لقاء ً جميلا ً ومبشرا ً، أحب في ( الليل) بساطته وروحه العالية، وقبل خروجه من المسينجر أتفق معه على لقاء قريب عندما يستقبلون الفكرة من مجروحة، مجروحة بأهدابي... اسم جميل ومعبر، كانت متحفظة اليوم وهادئة، يا ترى هل تستطيع التأقلم على تقلبات سعد بما أنها صارت في مجموعته؟ أسئلة كثيرة تواردت إلى ذهن حمد وهو يتابع الردود القليلة المشجعة لفصل روايته الثاني الذي غفل عنه قليلا ً في خضم الأحداث الأخيرة... أسئلة تكررت كثيرا ً... ورافقته إلى فراشه الذي دخله متعبا ً... أغلق عينيه... ابتسم... ثم ضحك بصوت خافت... وهو يقول ( مسنية... الله يغربلك يا الليل... والله إنك منتهي)... ثم أنقلب على جانبه ونام.

* * * * * * * * *


الفصل السادس عشر

"ها هو الصيف يقبل" قالها حمد وهو يلف شماغه على هامته، ليقي وجهه لفحة السموم وهو يخطو خارج مبنى الكلية متجه إلى مواقف السيارات.

سيلفه الصيف الطويل بعباءته الضيقة، لا رحلات برية منذ الآن... حتى حين، لا حرية في الحركة... سيضطر إلى تفيء الظلال، وإلى حصر نشاطاته الحركية إلى ما بعد مغيب الشمس، مشكلة الحرارة أنها تجلب الكسل وتزهد في العمل، يذكر أنه قرأ مرة أن الهنود يلجئون إلى تتبيل أكلهم لتنشيط أنفسهم ومحاربة الخمول الذي يبعثه جوهم الحار، ما هذا؟ حرارة في داخل البدن وحرارة في خارجه؟ الله يصبرنا.

ركب سيارته وبادرت يده المكيف استحثاثا ً لهوائه الفاتر الذي بدأ يبرد عندما انطلق، عندما أبترد قليلا ً انفكت حبائل أفكاره التي شبكتها الحرارة والضيق، دفع شريطا ً في المسجل، فانبعث صوت أحد المنشدين مترنما ً، اكتمل جوه الخاص الآن وبدأ يسرح كعادته.

بالأمس انتهى الاجتماع الثاني... " ما أسرع الأيام" هكذا فكر، تذكر التساؤلات التي حملها معه بعد الاجتماع الأول، تساؤلات عن سعد وعن الليل ومجروحة وعن المشروع والرواية، تذكر اجتماعه مع الليل على المسينجر بعدها بيومين وبين يديهما الفكرة كما صاغتها مجروحة.

الليل... في ذلك اللقاء اكتشف أن الاسم الغامض الذي يستمد غموضه ورهبته من الليل المجن للمرئيات يقبع ورائه إنسان طيب، بسيط بساطة متناهية، وذو روح طفولية، في ذلك اللقاء تحدثا عن كل شيء، الرواية، المنتدى، الأعضاء، حدثه الليل عن نفسه، طموحاته، آرائه، همومه، كان ككراس سقط مع عل ِ فتناثرت أوراقه في كل اتجاه.

عندما انتهى اللقاء عرف حمد أنه كسب صديقا ً جديدا ً وثمينا ً، كانا قد قررا في الاجتماع طريقة البحث ونوعية المعلومات التي سيجمعانها وطريقة التنسيق، واتفقا على محاولة الانتهاء من هذا كله مبكرا ً، للتفرغ للامتحانات النهائية التي لا يفصلهم عنها سوى أسابيع ثلاثة.

وبالفعل انشغل الاثنان في البحث والعمل، حتى في إجازة نهاية الأسبوع التي لم يخرج فيها حمد إلى المخيم بعدما قرر الأصدقاء وقف نشاطاتهم البرية بدعوى الحر وقرب الامتحانات، ولذلك تفرغ حمد للعمل واللقاء الليلي على المسينجر بصديقه الجديد، وعندما حل الاجتماع الثاني كان الجهد قد أثمر مادة متكاملة ومنسقة هي حاصل خمسة أيام من الجهد.

في ذلك الاجتماع القصير اتفق الجميع على وقف نشاطاتهم واجتماعاتهم لمدة ثلاثة أسابيع استعدادا ً للامتحانات، وبعد هذه الثلاثة أسابيع يبدأ كل من قلم ومجروحة الكتابة ويعرضان إنتاجهم في الاجتماعات الأسبوعية، ويتبادلون الآراء والنقد حوله.

توقفت أفكاره الآن... وداخله الضيق، عندما تذكر مروان، لازال البرود يغلف العلاقة بينهما، كان يأمل أن يرتق اجتماعهما في المخيم الفتق الناشئ ولكنه تفاجئ بمكالمة مروان التي أخبره فيها بإلغاء اجتماعهم لهذا الأسبوع والأسابيع القادمة، استغرب هذا التوقف المبكر... واستمع بخيبة أمل لحجج مروان، وعندما أنهى الاتصال تساءل " هل دفع مروان الشباب لهذا القرار؟ معقول؟ هل وصل زهده في لقاءي إلى التخلي عن البر والمخيم والليالي المقمرة؟ هل؟".
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
نفس اليوم/ الساعة 11.23 مساء ً.

يا الله كم يبدو المسينجر مقفرا ً الآن، هكذا حدث نفسه، بالأمس كان ضاجا ً بروح سعد وسيطرته، بطيبة الليل وبساطته، بغموض مجروحة وهدوئها، والآن... لا أحد، شتم الامتحانات في سره، عليه الآن أن يقضي ثلاثة أسابيع من الملل المتصل حتى تنتهي هذه الامتحانات المشئومة.

كان حمد من طينة الطلاب السماعيين الذين لا يطيقون مسك كتاب دراسي بأيديهم، يكتفي فقط بحضور المحاضرة، الاستماع بانتباه ومحاولة الفرار من هجمة النعاس، ثم عندما تحل الامتحانات يمسك كتابه بيده ويظل يدور في الغرفة وهو يزعق " أبسقط هالترم... أكيد... والله ما أدري وش السالفة؟ طلاسم يا خلق طلاسم" ويقضي وقته في الاتصال بالآخرين والبحث عن أسئلة السنوات السابقة، ثم عندما يحل اليوم الموعود وتصل ورقة الأسئلة إلى يديه، يغمض عينيه كأنه يتوقع أن يد ( لينوكس لويس) سوف تخرج منها لتلطمه من دون قفاز طبعا ً، ثم يفتح عينا ً ويتبعها الأخرى، ويقرأ الأسئلة ببطء وهو يبلع ريقه، ثم سبحان الله... يأتيه الإلهام فيتذكر أن السؤال الأول قاله المحاضر يوما ما وأن جوابه كذا، والسؤال الثاني تطرق له المعيد وجوابه كذا، والمسألة الفلانية قام هو بحل مسألة مشابهة لها بالأمس، وهكذا حتى يخرج من الامتحان وهو رافع يديه جذلا ً كأنه جندل لتوه سبعة من التتر، ويمضي يدق صدره وهو يقول " على غيرنا يا حبيبي... على غيرنا... خلو العبقرية لأهلها يا ناااااااس"، نستخلص من هذا الهذر أن حمد لن يذاكر حرفا ً لا هذا الأسبوع ولا الأسبوع القادم.

دفعه الفراغ إذن إلى ارتياد مواقع عدة، كان قد فكر في البداية أن يكتب نتفا ً من الفصل الثالث لروايته ولكنه لم يجد في نفسه الرغبة ولا القدرة على الابتكار، علل نفسه بأن الناس مشغولة عنه الآن، فلمن يكتب؟

وجد السأم روحه أرضا ً بورا ً فاستوطنها، فجعل يتقلب بين مواضيع أحد المنتديات الشهيرة بخمول، عندما سمع الصوت المميز لدخول شخص المسينجر ورأى الشارة تنهض من بين ركام الأيقونات المكدسة في الطرف الأيمن السفلي، كان الاسم غريبا ً بيت شعر أو جملة ( ما بقى غير لحظة أسمعك فيها وانتهي)، من هذا؟ حرك المؤشر فظهر عنوان البريد، مجروحة !!!