ضوى العيون
New member
- إنضم
- 7 أغسطس 2006
- المشاركات
- 5,999
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 0
للكاتبة: صدى الدموع
الفصل الأول
(آه !! هاقد أتى شيخ القبيلة فاستفتوه ما شئتم) تعالت الضحكات الرجالية المتصابية على التعليق الذي أطلقه "جاسم" بصوت مرتفع ماجن؛ تابع حديثه متشجعا بعد ان تأكد انه في موقع مرحب به بالمجلس نتيجة لخفة دمه التي غالبا ما يستغلها لصالح أعماله الشريرة قائلا بعد ان لمح علامات الضيق تعلو وجه أخيه الذي اتخذ له مجلسا شبه ناءي بعد ان ألقى السلام (قلي "عباس"؛ ما رأيك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟؟) تبادل الحاظرون الهمسات واللفتات وقد فهموا مغزى السؤال المبني على مناقشة مثيرة سابقة قاطعها "عباس" بدخوله. رمقه بنظرة متفحصة ليستشف أسباب طرح هذا السؤال الغريب؛ والذي تزداد غرابته لكون ملقيه هو أخوه الأصغر "جاسم" الذي كان يصده بعنف كلما حاول نصحه وارشاده؛ على كل حال؛ مهما تكن دوافعه فهو لن يخسر شيئا اذا أبدى رأيه بصدق؛ وقال بصوت مليْ بالثقة والاعتزاز بالنفس (ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات المحتمة والمهمة لكل مؤمن وان كان أدائها لا يفرض بصورة عينية؛ فهو من الأخلاق الضرورية التي يجب ان يتصف بها كل فرد لتقوية دينه والمحافظة على...) قاطعه "جاسم" بشكل مفاجىْ وقد علت وجهه الأسمر ابتسامة خبيثة (نعم؛نعم؛ المحافظة على العادات والتقاليد؛ أليس كذلك؟!) حدجه "عباس" بنظرة حذرة وهو يضيف (والقوانين الشرعية أيظا) تمتم "جاسم" بعدم اكتراث (نعم؛نعم؛ هذا صحيح).. قاطعه "عباس"بنفاذ صبر؛ فهو ليس من النوع الذي يحب الدخول في دوائر مغلقة (هل لك أن تخبرني عن سبب سؤالك؟) ..(طبعا؛طبعا من حقك أن تعرف سبب سؤالي) وأطرق هنيئة ليتدبر بعض الكلمات المنمقة حتى لا يحرجه أخوه الأكبر كالعادة؛ وقال بعدها بحذر وتردد قصير (هناك فتاة ساقطة الكل يتحدث عنها؛ وأنا ورفاقي رأينا ان من واجبنا....) قاطعه قبل أن يكمل وشرار الغضب يتطاير من عينيه؛ وقال في حدة مستعتبا (أولا.. دعنا نناقش كلمة "ساقطة" والتي أدليت بها جزافا ودونما أدنى دليل سوى ثرثرات فارغة ثلاثة الأرباع منها كذب وافتراء على بنات الناس) احتج "جاسم" بلهجة محتدة لا يملك سواها للحفاظ على مكانته أمام الحظور (بل انها حقيقة مائة في المائة؛ والدليل موجود) تطلع "عباس" بامعان في عيني أخيه العسلية والتي تختلف كليا عن عينيه من جهة واحدة؛ وهي طبيعة النظرات التي تخرج منها. فكر "عباس": لما لا يصبح "جاسم" مثله رغم الشبه الكبير بينهما شكليا والذي يجعل حتى والدتهما تصاب ببعض الالتباس بعض الاحيان؟؟!! لماذا اتخذ له طريقا مغايرا لن يجلب له بالنهاية سوى الدمار؟؟ ألا يكفي كونهما توأمين لكي يفكرا بنفس الطريقة ويتطلعا الى الحياة من ذات الاتجاه؟؟ لا؛ يبدو له بوضوح في هذه اللحظات ان ذلك لا يكفي البتة!! قاطع "جاسم" أفكاره وقد اعتقد ان صمته المفاجىْ ما هو الا استسلام (أتعرف ان جميع من في القرية ليس لهم حديث سوى هذه الفتاة؟ انها تعلن غرامها لكل طيف تراه من بعيد وقد ارتدى بنطلون جينز وسترة مقلمة!!) انفجر رفاقه ضحكا على تعليقه؛ لدرجة ان دموع بعضهم قد سقطت من شدة التوتر؛ ما عدا "عباس"؛ فقد ظل واجما؛ وقام بجمع شتات نفسه ليقف بمقابلة أخيه المستهتر وقد نضخت عيناه العسلية بغضب قاتل؛ وبغمرة اندهاش الجميع؛ صفعه صفعة قوية احمر لها وجهه واكفهر؛ وغادر المجلس بعدها؛ وقد تبعته شتائم أخيه وتهديداته وقد تملكه الغضب بشدة (سترى؛ سأحطم وجهك؛ وسألوث سمعتك باشاعات ستقرر الانتحار على سماعها من شفاه الناس؛ أعدك!!(
اندفع "عباس" يطوي الارصفة طيا وقد قادته قدماه الى الامكان .حاول أن يسترخي ويريح أعصابه المشدودة ؛ فاندفعت كلمات أخيه الى مخيلته كشريط مسجل؛ وأكثر ما استرعى انتباهه هي كلمة "اشاعات". نعم؛ "جاسم ليس الا مروجا للأشاعات لا أكثر ولا أقل؛ ان لم يكن هو مطلقها؛ وأغلب الضن بان ما قاله عن تلك الفتاة ليس الا ثرثرات وجدت طريقها للتحريف والتضخيم؛ ولكن؟؟ هل تأتي النار بدون دخان؟؟ يا ترى ما الذي فعلته تلك الفتاة لتستحق هذه النعوت الظالمة والمتهمة لها بشرفها وأخلاقها؟! يال الفتاة المسكينة!! قادته رجلاه أخيرا الى احدى المطاعم الصغيرة المركونة على جانب من الطريق؛ والتي يتهافت عليها أفلااد القرية رجالا ونساء؛ رغم ما تتناقله الاخبار من عدم نظافة المكان. ابتسم "عباس" وأطلق كلمة ساخرة بقرارة نفسه وهو يتوقف عند المدخل (كلها اشاعات!!).. وألقى السلام على العامل الهندي الذي يسرع في أداء عمله بمهارة معتادة وألقى اليه ببعض الفكة المتبقية في جيبه وأخبره عن طلبه؛ وعندما لاحظ مقدم مجموعة من الفتيات؛ تنحى جانبا بمنتهى السرعة؛ وأطرق برأسه حياءا وخجلا. كان هناك موضوع مثير يناقشنه لدرجة ان اصواتهن كانت تصل اليه بشكل غير متعمد. حاول التجاهل؛ غير ان كلمة "ساقطة" قد جذبته بذهول باتجاه المتحدثة (كيف تسمحن لأنفسكن بقول مثل هذه الكلمات البذيئة الشائنة دون ادنى دليل؟! وهل يحتاج الأمر الى دليل حقا؟! ألم تكن "جنان" زميلتكن وصديقتكن أنتن أيظا؟! أتحتجن الى من يؤكد لكن انها طاهرة شريفة؟؟ ياللعجب!! هذه القرية وكأنها دائرة استخبارات؛ يراقبن الفتاة بكل خطوة عسى ان يمسكن عليها ثغرة ما...) تدافعت الأفكار برأس "عباس" بقوة؛ ولم يستطع التهام "سندويشاته" !! أيعقل ان من يتحدثون عنها هي نفسها التي تحدث عنها "جاسم" منذ قليل؟؟ ولما لا؟؟ فعادة أبناء القرية ان لا يتركوا موضوعا لأجل موضوع آخر؛ الا اذا صار الموضوع الأول قديما وبطي النسيان؛ وهو لا يعتقد ان موضوع الفتاة المدعوة "جنان" موضوع قديم؛ فعلى ما يبدو هو موضوع الساعة بالقرية قبل ان تظهر ضحية جديدة!! تنهد تنهيدة عميقة متألمة؛ ان وضع القرية خطير جدا؛ فأبنائها لم يعد لديهم شاغل سوى تبادل الاشاعات وتناقلها ؛ وأصبحت الأمور الدينية " موضة قديمة" بالنسبة اليهم!! ان هذا الوضع لا يسكت عليه.._ هكذا قال "عباس"_ وهو يدخل المنزل متجاهلا موقع مجلس الرجال بشكل متعمد. نعم؛ لن ييأس؛ وستكون قصة "جنان" المحطة التي سيعبر من خلالها الى أفئدة الناس وعقولهم.. أيقظته والدته "أم عباس" من أفكاره وهي تضع أطباق العشاء بمقابلته وتسأله بالحاح ("عباس" يا بني؛ اذهب واستدع أخاك من المجلس؛ لقد جهز العشاء) حاول كتم غيظه جيدا وهو يتمتم قائما بتثاقل (حاظر أمي (................
في صباح اليوم التالي؛ استيقظ "عباس" على صوت المنبه.. تطلع الى الساعة وهو يفرك عينيه حتى يرى بوضوح؛ ونهض على الفور عندما تأكد انها الثامنة والنصف. لقد تذكر أن عليه تتمة المقال الأسبوعي الذي يرسله لأحدى المجلات التي خصصت له بابا كل أربعاء عندما أدركت مواهبه المدفونة. لقد كانت الطريقة الوحيدة للتعبير عن آراءه؛ وكذلك التنفيس عن هوايته التي لم يكتب لها أن ترى النور لعدم متابعته لدراسته الجامعية بسبب ظروفه المادية. وأعاد قراءة المقال من البداية بهدف تنشيط ذاكرته؛ ولكنه بدلا من أن يمسك القلم ليكتب؛ أمسكه وألغى كل ما دونه بعلامة (اكس) كبيرة؛ وألقى بالأوراق بسلة القمامة المجاورة وهو يبتسم بتصميم.. نعم_هكذا فكر "عباس"_ قضية مهمة كغفلة الناس لا يمكن اهمالها لأجل مشاكل المواطن المادية؛ فالأخلاق وفقرها أهم بكثير!! واندفع يكتب بمنتهى الحماس عن قصة "جنان" ولكن بأسماء مختلفة؛ ولم يعي لمرور الوقت؛ الا حين تناهى الى مسمعه صوت أمه وطرقاتها على الباب.. تطلع الى الساعة بفزع؛ لقد تجاوزت الحادية عشر وهو لم يغادر متوجها الى الورشة!! ونهض بعجلة وهو يجيب على استفسارات والدته (بلى سأذهب يا أمي؛ ولكنني انشغلت قليلا) وصل اليه صوتها المتهكم قائلة بعتاب رقيق (لابد انك انشغلت بخط تلك المقالات؛ أليس كذلك؟ انك تتعب عينيك لأجل لا شي يا "عباس"؛ انها تظرك فقط؛ والدليل أمامك؛ فقد تأخرت عن عملك!!) حاول جاهدا بأن لا يسمح لكلمات أمه باخماد معنوياته؛ مقنعا نفسه بأن كلمة الحق جزاءها عند الاله الكريم الذي لا يبخل؛ وغادر بعدها ودعوات أمه المحبة تلاحقه قبل ان تذهب للمجلس بهدف ايقاظ أخاه التوأم؛ والذي غالبا ما ينام هناك بعد قضاء السهرة مع أصدقاءه الخاملين الكسالى.. وجد "عباس" ان الذهاب للورشة لن يفيده شيئا الأن؛ فقرر اعطاء نفسه اجازة لهذا اليوم _ يوم الجمعة_ والذي غالبا ما يكون اجازة لرفيقه الحميم "حسين"؛ والذي يعمل برفقته بالورشة التي خلفها له والده رحمه الله. آن له أن يتحرى بصورة مكثفة عن بطلته "جنان" كي يستطيع دعم قضيتها بأدلة واقعية ملموسة.. ولكن؟؟ كيف بمكنه الوصول اليها؟؟ هذه أمرها سهل؛ ف "حسين " لديه أخوات قد تعرف احداهن بعض المعلومات الهامة لهذه القضية التي اجتاحت كل منزل بالقرية الصغيرة.. وبعد ان لملم شتات نفسه؛ طرق على باب منزل صديقه ؛ فتفاجىْ بظهور احدى أخواته على استحياء؛ وسألت (من؟؟) سألها بأدب من وراء الباب (هل "حسين" موجود؟) ..(لا؛ لقد ذهب الى السو...) وقبل أن تتم عبارتها؛ كان صوت "أم حسين" المعروف لديه يصرخ فيها بعنف وقسوة مبالغ فيها (أنت يا "جهنم" !! من بالباب؟!) أجابت بلهجة يائسة وكأنها تعودت الأمر (انه رجل يسأل عن "حسين") صرخت فيها بقوة أكبر وهي تقول آمرة (اخبريه انه ليس هنا وتعالي؛ كفاك تباطؤا !!) أسرعت الفتاة في غلق الباب والرجوع الى الداخل بخوف غريب؛ بينما انصرف "عباس" وهو ذاهل لا يصدق ما يحدث له.. كلمة "جهنم" استحوذت على تفكيره؛ أليست هذه الكلمة هي مضاد كلمة "الجنة".. أو نعم؛ نعم.. انها مضاد كلمة "جنان" بالتحديد.. الفتاة التي بادلته ذلك الحديث القصير من وراء الباب ما هي الا بطلة قصته المتسلسلة "جنان" !! ياله من أمر غريب؛ فالأحداث تأتي تباعا وبسرعة لا تصدق؛ والأغرب من هذا كله انها أخت صديقه "حسين"!! ان أكثر ما يحيره هو الأدب الجم الذي لمسه من قبل الفتاة؛ وموقف أمها وتشددها هو الدليل الأكبر ان ما يقال لا يتعدى كونه اشاعة؛ فهو يعرف "أم حسين" جيدا؛ ولو انها ليست واثقة بابنتها لطردتها من البيت على الفور. هناك أمور كثيرة لا تزال تحت ظلال الغموض؛ ويتطلب الكشف عنها بعض الصبر والروية. هكذا أكد "عباس" لنفسه وهو يعود لمنزله الصغير المتواضع ليواصل الكتابة بقصة أضحت بالنسبة اليه ليست قصة عادية أو عابرة. ان أكثر ما أسعد "عباس" في المساء؛ هو زيارة "حسين" له. انتهز الفرصة ودعاه اتناول العشاء؛ وفعلا؛ ضمتهما غرفته الصغيرة؛ واحتل "حسين" طرف السرير؛ بينما جلس "عباس" على كرسيه الخشبي الذي أعده بنفسه. لم تسمح له شجاعته بالبداية بفتح الموضوع الذي يشغل تفكيره؛ فانتظر حتى انتهائهما من تناول عشاءهما؛ وتمتم وهو بتوجه لحمام الغرفة ليغسل يديه (لم تخبرني؛ ماذا أحظرت لي من السوق؟!) ... (وما أدراك انني ذهبت للسوق؟؟) ...(أعطيت نفسي اجازة ومررت لأراك؛ فأخبرتني أختك انك في السوق (تمتم "حسين" وقد تصبغ وجهه خجلا بشكل مفاجىْ ("جنان" الوحيدة التي أخبرتها بوجهتي (استغل "عباس" الفرصة؛ فقال كمن تذكر أمرا (نعم؛ نعم؛ أعتقد انني سمعت أمك وهي تناديها ب "جهنم" ؛ فخمنت انها تقصد مضاد الكلمة..) وقبل أن بتفوه "حسين" بأية كلمة؛ غادر "عباس" الحمام وشارك رفيقه الجلوس؛ وراح يربت على قدمه بمنتهى المحبة (انني أعلم بكل شي؛ كان يجب عليك اخباري) تسمر "حسين" لا يدري ما يقول؛ فتابع "عباس" بلهجة مليئة بالصدق والثقة (أنا أول من يصدقك ان قلت ان ما سمعته كذب) وعلى ما يبدو فقد تشجع "حسين" لكلمات رفيقه وارتاح لها؛ فعبر عن وجهة نظره بكل شجاعة (أؤكد لك يا "عباس" ان ما يقال عن أختي ليس الا كذب وافتراء؛ انني لا أعلم ما القصة بالضبط؛ انها متكتمة ولا تريد الافصاح عن ما حدث لتنتشر كل هذه الشائعات وبهذه السرعة) هون "عباس" عليه وهو يقول برقة (لا عليك؛ كل شي سيكون على ما يرام؛ أؤكد لك) ..
الفصل الأول
(آه !! هاقد أتى شيخ القبيلة فاستفتوه ما شئتم) تعالت الضحكات الرجالية المتصابية على التعليق الذي أطلقه "جاسم" بصوت مرتفع ماجن؛ تابع حديثه متشجعا بعد ان تأكد انه في موقع مرحب به بالمجلس نتيجة لخفة دمه التي غالبا ما يستغلها لصالح أعماله الشريرة قائلا بعد ان لمح علامات الضيق تعلو وجه أخيه الذي اتخذ له مجلسا شبه ناءي بعد ان ألقى السلام (قلي "عباس"؛ ما رأيك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟؟) تبادل الحاظرون الهمسات واللفتات وقد فهموا مغزى السؤال المبني على مناقشة مثيرة سابقة قاطعها "عباس" بدخوله. رمقه بنظرة متفحصة ليستشف أسباب طرح هذا السؤال الغريب؛ والذي تزداد غرابته لكون ملقيه هو أخوه الأصغر "جاسم" الذي كان يصده بعنف كلما حاول نصحه وارشاده؛ على كل حال؛ مهما تكن دوافعه فهو لن يخسر شيئا اذا أبدى رأيه بصدق؛ وقال بصوت مليْ بالثقة والاعتزاز بالنفس (ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات المحتمة والمهمة لكل مؤمن وان كان أدائها لا يفرض بصورة عينية؛ فهو من الأخلاق الضرورية التي يجب ان يتصف بها كل فرد لتقوية دينه والمحافظة على...) قاطعه "جاسم" بشكل مفاجىْ وقد علت وجهه الأسمر ابتسامة خبيثة (نعم؛نعم؛ المحافظة على العادات والتقاليد؛ أليس كذلك؟!) حدجه "عباس" بنظرة حذرة وهو يضيف (والقوانين الشرعية أيظا) تمتم "جاسم" بعدم اكتراث (نعم؛نعم؛ هذا صحيح).. قاطعه "عباس"بنفاذ صبر؛ فهو ليس من النوع الذي يحب الدخول في دوائر مغلقة (هل لك أن تخبرني عن سبب سؤالك؟) ..(طبعا؛طبعا من حقك أن تعرف سبب سؤالي) وأطرق هنيئة ليتدبر بعض الكلمات المنمقة حتى لا يحرجه أخوه الأكبر كالعادة؛ وقال بعدها بحذر وتردد قصير (هناك فتاة ساقطة الكل يتحدث عنها؛ وأنا ورفاقي رأينا ان من واجبنا....) قاطعه قبل أن يكمل وشرار الغضب يتطاير من عينيه؛ وقال في حدة مستعتبا (أولا.. دعنا نناقش كلمة "ساقطة" والتي أدليت بها جزافا ودونما أدنى دليل سوى ثرثرات فارغة ثلاثة الأرباع منها كذب وافتراء على بنات الناس) احتج "جاسم" بلهجة محتدة لا يملك سواها للحفاظ على مكانته أمام الحظور (بل انها حقيقة مائة في المائة؛ والدليل موجود) تطلع "عباس" بامعان في عيني أخيه العسلية والتي تختلف كليا عن عينيه من جهة واحدة؛ وهي طبيعة النظرات التي تخرج منها. فكر "عباس": لما لا يصبح "جاسم" مثله رغم الشبه الكبير بينهما شكليا والذي يجعل حتى والدتهما تصاب ببعض الالتباس بعض الاحيان؟؟!! لماذا اتخذ له طريقا مغايرا لن يجلب له بالنهاية سوى الدمار؟؟ ألا يكفي كونهما توأمين لكي يفكرا بنفس الطريقة ويتطلعا الى الحياة من ذات الاتجاه؟؟ لا؛ يبدو له بوضوح في هذه اللحظات ان ذلك لا يكفي البتة!! قاطع "جاسم" أفكاره وقد اعتقد ان صمته المفاجىْ ما هو الا استسلام (أتعرف ان جميع من في القرية ليس لهم حديث سوى هذه الفتاة؟ انها تعلن غرامها لكل طيف تراه من بعيد وقد ارتدى بنطلون جينز وسترة مقلمة!!) انفجر رفاقه ضحكا على تعليقه؛ لدرجة ان دموع بعضهم قد سقطت من شدة التوتر؛ ما عدا "عباس"؛ فقد ظل واجما؛ وقام بجمع شتات نفسه ليقف بمقابلة أخيه المستهتر وقد نضخت عيناه العسلية بغضب قاتل؛ وبغمرة اندهاش الجميع؛ صفعه صفعة قوية احمر لها وجهه واكفهر؛ وغادر المجلس بعدها؛ وقد تبعته شتائم أخيه وتهديداته وقد تملكه الغضب بشدة (سترى؛ سأحطم وجهك؛ وسألوث سمعتك باشاعات ستقرر الانتحار على سماعها من شفاه الناس؛ أعدك!!(
اندفع "عباس" يطوي الارصفة طيا وقد قادته قدماه الى الامكان .حاول أن يسترخي ويريح أعصابه المشدودة ؛ فاندفعت كلمات أخيه الى مخيلته كشريط مسجل؛ وأكثر ما استرعى انتباهه هي كلمة "اشاعات". نعم؛ "جاسم ليس الا مروجا للأشاعات لا أكثر ولا أقل؛ ان لم يكن هو مطلقها؛ وأغلب الضن بان ما قاله عن تلك الفتاة ليس الا ثرثرات وجدت طريقها للتحريف والتضخيم؛ ولكن؟؟ هل تأتي النار بدون دخان؟؟ يا ترى ما الذي فعلته تلك الفتاة لتستحق هذه النعوت الظالمة والمتهمة لها بشرفها وأخلاقها؟! يال الفتاة المسكينة!! قادته رجلاه أخيرا الى احدى المطاعم الصغيرة المركونة على جانب من الطريق؛ والتي يتهافت عليها أفلااد القرية رجالا ونساء؛ رغم ما تتناقله الاخبار من عدم نظافة المكان. ابتسم "عباس" وأطلق كلمة ساخرة بقرارة نفسه وهو يتوقف عند المدخل (كلها اشاعات!!).. وألقى السلام على العامل الهندي الذي يسرع في أداء عمله بمهارة معتادة وألقى اليه ببعض الفكة المتبقية في جيبه وأخبره عن طلبه؛ وعندما لاحظ مقدم مجموعة من الفتيات؛ تنحى جانبا بمنتهى السرعة؛ وأطرق برأسه حياءا وخجلا. كان هناك موضوع مثير يناقشنه لدرجة ان اصواتهن كانت تصل اليه بشكل غير متعمد. حاول التجاهل؛ غير ان كلمة "ساقطة" قد جذبته بذهول باتجاه المتحدثة (كيف تسمحن لأنفسكن بقول مثل هذه الكلمات البذيئة الشائنة دون ادنى دليل؟! وهل يحتاج الأمر الى دليل حقا؟! ألم تكن "جنان" زميلتكن وصديقتكن أنتن أيظا؟! أتحتجن الى من يؤكد لكن انها طاهرة شريفة؟؟ ياللعجب!! هذه القرية وكأنها دائرة استخبارات؛ يراقبن الفتاة بكل خطوة عسى ان يمسكن عليها ثغرة ما...) تدافعت الأفكار برأس "عباس" بقوة؛ ولم يستطع التهام "سندويشاته" !! أيعقل ان من يتحدثون عنها هي نفسها التي تحدث عنها "جاسم" منذ قليل؟؟ ولما لا؟؟ فعادة أبناء القرية ان لا يتركوا موضوعا لأجل موضوع آخر؛ الا اذا صار الموضوع الأول قديما وبطي النسيان؛ وهو لا يعتقد ان موضوع الفتاة المدعوة "جنان" موضوع قديم؛ فعلى ما يبدو هو موضوع الساعة بالقرية قبل ان تظهر ضحية جديدة!! تنهد تنهيدة عميقة متألمة؛ ان وضع القرية خطير جدا؛ فأبنائها لم يعد لديهم شاغل سوى تبادل الاشاعات وتناقلها ؛ وأصبحت الأمور الدينية " موضة قديمة" بالنسبة اليهم!! ان هذا الوضع لا يسكت عليه.._ هكذا قال "عباس"_ وهو يدخل المنزل متجاهلا موقع مجلس الرجال بشكل متعمد. نعم؛ لن ييأس؛ وستكون قصة "جنان" المحطة التي سيعبر من خلالها الى أفئدة الناس وعقولهم.. أيقظته والدته "أم عباس" من أفكاره وهي تضع أطباق العشاء بمقابلته وتسأله بالحاح ("عباس" يا بني؛ اذهب واستدع أخاك من المجلس؛ لقد جهز العشاء) حاول كتم غيظه جيدا وهو يتمتم قائما بتثاقل (حاظر أمي (................
في صباح اليوم التالي؛ استيقظ "عباس" على صوت المنبه.. تطلع الى الساعة وهو يفرك عينيه حتى يرى بوضوح؛ ونهض على الفور عندما تأكد انها الثامنة والنصف. لقد تذكر أن عليه تتمة المقال الأسبوعي الذي يرسله لأحدى المجلات التي خصصت له بابا كل أربعاء عندما أدركت مواهبه المدفونة. لقد كانت الطريقة الوحيدة للتعبير عن آراءه؛ وكذلك التنفيس عن هوايته التي لم يكتب لها أن ترى النور لعدم متابعته لدراسته الجامعية بسبب ظروفه المادية. وأعاد قراءة المقال من البداية بهدف تنشيط ذاكرته؛ ولكنه بدلا من أن يمسك القلم ليكتب؛ أمسكه وألغى كل ما دونه بعلامة (اكس) كبيرة؛ وألقى بالأوراق بسلة القمامة المجاورة وهو يبتسم بتصميم.. نعم_هكذا فكر "عباس"_ قضية مهمة كغفلة الناس لا يمكن اهمالها لأجل مشاكل المواطن المادية؛ فالأخلاق وفقرها أهم بكثير!! واندفع يكتب بمنتهى الحماس عن قصة "جنان" ولكن بأسماء مختلفة؛ ولم يعي لمرور الوقت؛ الا حين تناهى الى مسمعه صوت أمه وطرقاتها على الباب.. تطلع الى الساعة بفزع؛ لقد تجاوزت الحادية عشر وهو لم يغادر متوجها الى الورشة!! ونهض بعجلة وهو يجيب على استفسارات والدته (بلى سأذهب يا أمي؛ ولكنني انشغلت قليلا) وصل اليه صوتها المتهكم قائلة بعتاب رقيق (لابد انك انشغلت بخط تلك المقالات؛ أليس كذلك؟ انك تتعب عينيك لأجل لا شي يا "عباس"؛ انها تظرك فقط؛ والدليل أمامك؛ فقد تأخرت عن عملك!!) حاول جاهدا بأن لا يسمح لكلمات أمه باخماد معنوياته؛ مقنعا نفسه بأن كلمة الحق جزاءها عند الاله الكريم الذي لا يبخل؛ وغادر بعدها ودعوات أمه المحبة تلاحقه قبل ان تذهب للمجلس بهدف ايقاظ أخاه التوأم؛ والذي غالبا ما ينام هناك بعد قضاء السهرة مع أصدقاءه الخاملين الكسالى.. وجد "عباس" ان الذهاب للورشة لن يفيده شيئا الأن؛ فقرر اعطاء نفسه اجازة لهذا اليوم _ يوم الجمعة_ والذي غالبا ما يكون اجازة لرفيقه الحميم "حسين"؛ والذي يعمل برفقته بالورشة التي خلفها له والده رحمه الله. آن له أن يتحرى بصورة مكثفة عن بطلته "جنان" كي يستطيع دعم قضيتها بأدلة واقعية ملموسة.. ولكن؟؟ كيف بمكنه الوصول اليها؟؟ هذه أمرها سهل؛ ف "حسين " لديه أخوات قد تعرف احداهن بعض المعلومات الهامة لهذه القضية التي اجتاحت كل منزل بالقرية الصغيرة.. وبعد ان لملم شتات نفسه؛ طرق على باب منزل صديقه ؛ فتفاجىْ بظهور احدى أخواته على استحياء؛ وسألت (من؟؟) سألها بأدب من وراء الباب (هل "حسين" موجود؟) ..(لا؛ لقد ذهب الى السو...) وقبل أن تتم عبارتها؛ كان صوت "أم حسين" المعروف لديه يصرخ فيها بعنف وقسوة مبالغ فيها (أنت يا "جهنم" !! من بالباب؟!) أجابت بلهجة يائسة وكأنها تعودت الأمر (انه رجل يسأل عن "حسين") صرخت فيها بقوة أكبر وهي تقول آمرة (اخبريه انه ليس هنا وتعالي؛ كفاك تباطؤا !!) أسرعت الفتاة في غلق الباب والرجوع الى الداخل بخوف غريب؛ بينما انصرف "عباس" وهو ذاهل لا يصدق ما يحدث له.. كلمة "جهنم" استحوذت على تفكيره؛ أليست هذه الكلمة هي مضاد كلمة "الجنة".. أو نعم؛ نعم.. انها مضاد كلمة "جنان" بالتحديد.. الفتاة التي بادلته ذلك الحديث القصير من وراء الباب ما هي الا بطلة قصته المتسلسلة "جنان" !! ياله من أمر غريب؛ فالأحداث تأتي تباعا وبسرعة لا تصدق؛ والأغرب من هذا كله انها أخت صديقه "حسين"!! ان أكثر ما يحيره هو الأدب الجم الذي لمسه من قبل الفتاة؛ وموقف أمها وتشددها هو الدليل الأكبر ان ما يقال لا يتعدى كونه اشاعة؛ فهو يعرف "أم حسين" جيدا؛ ولو انها ليست واثقة بابنتها لطردتها من البيت على الفور. هناك أمور كثيرة لا تزال تحت ظلال الغموض؛ ويتطلب الكشف عنها بعض الصبر والروية. هكذا أكد "عباس" لنفسه وهو يعود لمنزله الصغير المتواضع ليواصل الكتابة بقصة أضحت بالنسبة اليه ليست قصة عادية أو عابرة. ان أكثر ما أسعد "عباس" في المساء؛ هو زيارة "حسين" له. انتهز الفرصة ودعاه اتناول العشاء؛ وفعلا؛ ضمتهما غرفته الصغيرة؛ واحتل "حسين" طرف السرير؛ بينما جلس "عباس" على كرسيه الخشبي الذي أعده بنفسه. لم تسمح له شجاعته بالبداية بفتح الموضوع الذي يشغل تفكيره؛ فانتظر حتى انتهائهما من تناول عشاءهما؛ وتمتم وهو بتوجه لحمام الغرفة ليغسل يديه (لم تخبرني؛ ماذا أحظرت لي من السوق؟!) ... (وما أدراك انني ذهبت للسوق؟؟) ...(أعطيت نفسي اجازة ومررت لأراك؛ فأخبرتني أختك انك في السوق (تمتم "حسين" وقد تصبغ وجهه خجلا بشكل مفاجىْ ("جنان" الوحيدة التي أخبرتها بوجهتي (استغل "عباس" الفرصة؛ فقال كمن تذكر أمرا (نعم؛ نعم؛ أعتقد انني سمعت أمك وهي تناديها ب "جهنم" ؛ فخمنت انها تقصد مضاد الكلمة..) وقبل أن بتفوه "حسين" بأية كلمة؛ غادر "عباس" الحمام وشارك رفيقه الجلوس؛ وراح يربت على قدمه بمنتهى المحبة (انني أعلم بكل شي؛ كان يجب عليك اخباري) تسمر "حسين" لا يدري ما يقول؛ فتابع "عباس" بلهجة مليئة بالصدق والثقة (أنا أول من يصدقك ان قلت ان ما سمعته كذب) وعلى ما يبدو فقد تشجع "حسين" لكلمات رفيقه وارتاح لها؛ فعبر عن وجهة نظره بكل شجاعة (أؤكد لك يا "عباس" ان ما يقال عن أختي ليس الا كذب وافتراء؛ انني لا أعلم ما القصة بالضبط؛ انها متكتمة ولا تريد الافصاح عن ما حدث لتنتشر كل هذه الشائعات وبهذه السرعة) هون "عباس" عليه وهو يقول برقة (لا عليك؛ كل شي سيكون على ما يرام؛ أؤكد لك) ..