دموع الحقيقة

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
للكاتبة: صدى الدموع


الفصل الأول
(آه !! هاقد أتى شيخ القبيلة فاستفتوه ما شئتم) تعالت الضحكات الرجالية المتصابية على التعليق الذي أطلقه "جاسم" بصوت مرتفع ماجن؛ تابع حديثه متشجعا بعد ان تأكد انه في موقع مرحب به بالمجلس نتيجة لخفة دمه التي غالبا ما يستغلها لصالح أعماله الشريرة قائلا بعد ان لمح علامات الضيق تعلو وجه أخيه الذي اتخذ له مجلسا شبه ناءي بعد ان ألقى السلام (قلي "عباس"؛ ما رأيك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟؟) تبادل الحاظرون الهمسات واللفتات وقد فهموا مغزى السؤال المبني على مناقشة مثيرة سابقة قاطعها "عباس" بدخوله. رمقه بنظرة متفحصة ليستشف أسباب طرح هذا السؤال الغريب؛ والذي تزداد غرابته لكون ملقيه هو أخوه الأصغر "جاسم" الذي كان يصده بعنف كلما حاول نصحه وارشاده؛ على كل حال؛ مهما تكن دوافعه فهو لن يخسر شيئا اذا أبدى رأيه بصدق؛ وقال بصوت مليْ بالثقة والاعتزاز بالنفس (ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات المحتمة والمهمة لكل مؤمن وان كان أدائها لا يفرض بصورة عينية؛ فهو من الأخلاق الضرورية التي يجب ان يتصف بها كل فرد لتقوية دينه والمحافظة على...) قاطعه "جاسم" بشكل مفاجىْ وقد علت وجهه الأسمر ابتسامة خبيثة (نعم؛نعم؛ المحافظة على العادات والتقاليد؛ أليس كذلك؟!) حدجه "عباس" بنظرة حذرة وهو يضيف (والقوانين الشرعية أيظا) تمتم "جاسم" بعدم اكتراث (نعم؛نعم؛ هذا صحيح).. قاطعه "عباس"بنفاذ صبر؛ فهو ليس من النوع الذي يحب الدخول في دوائر مغلقة (هل لك أن تخبرني عن سبب سؤالك؟) ..(طبعا؛طبعا من حقك أن تعرف سبب سؤالي) وأطرق هنيئة ليتدبر بعض الكلمات المنمقة حتى لا يحرجه أخوه الأكبر كالعادة؛ وقال بعدها بحذر وتردد قصير (هناك فتاة ساقطة الكل يتحدث عنها؛ وأنا ورفاقي رأينا ان من واجبنا....) قاطعه قبل أن يكمل وشرار الغضب يتطاير من عينيه؛ وقال في حدة مستعتبا (أولا.. دعنا نناقش كلمة "ساقطة" والتي أدليت بها جزافا ودونما أدنى دليل سوى ثرثرات فارغة ثلاثة الأرباع منها كذب وافتراء على بنات الناس) احتج "جاسم" بلهجة محتدة لا يملك سواها للحفاظ على مكانته أمام الحظور (بل انها حقيقة مائة في المائة؛ والدليل موجود) تطلع "عباس" بامعان في عيني أخيه العسلية والتي تختلف كليا عن عينيه من جهة واحدة؛ وهي طبيعة النظرات التي تخرج منها. فكر "عباس": لما لا يصبح "جاسم" مثله رغم الشبه الكبير بينهما شكليا والذي يجعل حتى والدتهما تصاب ببعض الالتباس بعض الاحيان؟؟!! لماذا اتخذ له طريقا مغايرا لن يجلب له بالنهاية سوى الدمار؟؟ ألا يكفي كونهما توأمين لكي يفكرا بنفس الطريقة ويتطلعا الى الحياة من ذات الاتجاه؟؟ لا؛ يبدو له بوضوح في هذه اللحظات ان ذلك لا يكفي البتة!! قاطع "جاسم" أفكاره وقد اعتقد ان صمته المفاجىْ ما هو الا استسلام (أتعرف ان جميع من في القرية ليس لهم حديث سوى هذه الفتاة؟ انها تعلن غرامها لكل طيف تراه من بعيد وقد ارتدى بنطلون جينز وسترة مقلمة!!) انفجر رفاقه ضحكا على تعليقه؛ لدرجة ان دموع بعضهم قد سقطت من شدة التوتر؛ ما عدا "عباس"؛ فقد ظل واجما؛ وقام بجمع شتات نفسه ليقف بمقابلة أخيه المستهتر وقد نضخت عيناه العسلية بغضب قاتل؛ وبغمرة اندهاش الجميع؛ صفعه صفعة قوية احمر لها وجهه واكفهر؛ وغادر المجلس بعدها؛ وقد تبعته شتائم أخيه وتهديداته وقد تملكه الغضب بشدة (سترى؛ سأحطم وجهك؛ وسألوث سمعتك باشاعات ستقرر الانتحار على سماعها من شفاه الناس؛ أعدك!!(
اندفع "عباس" يطوي الارصفة طيا وقد قادته قدماه الى الامكان .حاول أن يسترخي ويريح أعصابه المشدودة ؛ فاندفعت كلمات أخيه الى مخيلته كشريط مسجل؛ وأكثر ما استرعى انتباهه هي كلمة "اشاعات". نعم؛ "جاسم ليس الا مروجا للأشاعات لا أكثر ولا أقل؛ ان لم يكن هو مطلقها؛ وأغلب الضن بان ما قاله عن تلك الفتاة ليس الا ثرثرات وجدت طريقها للتحريف والتضخيم؛ ولكن؟؟ هل تأتي النار بدون دخان؟؟ يا ترى ما الذي فعلته تلك الفتاة لتستحق هذه النعوت الظالمة والمتهمة لها بشرفها وأخلاقها؟! يال الفتاة المسكينة!! قادته رجلاه أخيرا الى احدى المطاعم الصغيرة المركونة على جانب من الطريق؛ والتي يتهافت عليها أفلااد القرية رجالا ونساء؛ رغم ما تتناقله الاخبار من عدم نظافة المكان. ابتسم "عباس" وأطلق كلمة ساخرة بقرارة نفسه وهو يتوقف عند المدخل (كلها اشاعات!!).. وألقى السلام على العامل الهندي الذي يسرع في أداء عمله بمهارة معتادة وألقى اليه ببعض الفكة المتبقية في جيبه وأخبره عن طلبه؛ وعندما لاحظ مقدم مجموعة من الفتيات؛ تنحى جانبا بمنتهى السرعة؛ وأطرق برأسه حياءا وخجلا. كان هناك موضوع مثير يناقشنه لدرجة ان اصواتهن كانت تصل اليه بشكل غير متعمد. حاول التجاهل؛ غير ان كلمة "ساقطة" قد جذبته بذهول باتجاه المتحدثة (كيف تسمحن لأنفسكن بقول مثل هذه الكلمات البذيئة الشائنة دون ادنى دليل؟! وهل يحتاج الأمر الى دليل حقا؟! ألم تكن "جنان" زميلتكن وصديقتكن أنتن أيظا؟! أتحتجن الى من يؤكد لكن انها طاهرة شريفة؟؟ ياللعجب!! هذه القرية وكأنها دائرة استخبارات؛ يراقبن الفتاة بكل خطوة عسى ان يمسكن عليها ثغرة ما...) تدافعت الأفكار برأس "عباس" بقوة؛ ولم يستطع التهام "سندويشاته" !! أيعقل ان من يتحدثون عنها هي نفسها التي تحدث عنها "جاسم" منذ قليل؟؟ ولما لا؟؟ فعادة أبناء القرية ان لا يتركوا موضوعا لأجل موضوع آخر؛ الا اذا صار الموضوع الأول قديما وبطي النسيان؛ وهو لا يعتقد ان موضوع الفتاة المدعوة "جنان" موضوع قديم؛ فعلى ما يبدو هو موضوع الساعة بالقرية قبل ان تظهر ضحية جديدة!! تنهد تنهيدة عميقة متألمة؛ ان وضع القرية خطير جدا؛ فأبنائها لم يعد لديهم شاغل سوى تبادل الاشاعات وتناقلها ؛ وأصبحت الأمور الدينية " موضة قديمة" بالنسبة اليهم!! ان هذا الوضع لا يسكت عليه.._ هكذا قال "عباس"_ وهو يدخل المنزل متجاهلا موقع مجلس الرجال بشكل متعمد. نعم؛ لن ييأس؛ وستكون قصة "جنان" المحطة التي سيعبر من خلالها الى أفئدة الناس وعقولهم.. أيقظته والدته "أم عباس" من أفكاره وهي تضع أطباق العشاء بمقابلته وتسأله بالحاح ("عباس" يا بني؛ اذهب واستدع أخاك من المجلس؛ لقد جهز العشاء) حاول كتم غيظه جيدا وهو يتمتم قائما بتثاقل (حاظر أمي (................

في صباح اليوم التالي؛ استيقظ "عباس" على صوت المنبه.. تطلع الى الساعة وهو يفرك عينيه حتى يرى بوضوح؛ ونهض على الفور عندما تأكد انها الثامنة والنصف. لقد تذكر أن عليه تتمة المقال الأسبوعي الذي يرسله لأحدى المجلات التي خصصت له بابا كل أربعاء عندما أدركت مواهبه المدفونة. لقد كانت الطريقة الوحيدة للتعبير عن آراءه؛ وكذلك التنفيس عن هوايته التي لم يكتب لها أن ترى النور لعدم متابعته لدراسته الجامعية بسبب ظروفه المادية. وأعاد قراءة المقال من البداية بهدف تنشيط ذاكرته؛ ولكنه بدلا من أن يمسك القلم ليكتب؛ أمسكه وألغى كل ما دونه بعلامة (اكس) كبيرة؛ وألقى بالأوراق بسلة القمامة المجاورة وهو يبتسم بتصميم.. نعم_هكذا فكر "عباس"_ قضية مهمة كغفلة الناس لا يمكن اهمالها لأجل مشاكل المواطن المادية؛ فالأخلاق وفقرها أهم بكثير!! واندفع يكتب بمنتهى الحماس عن قصة "جنان" ولكن بأسماء مختلفة؛ ولم يعي لمرور الوقت؛ الا حين تناهى الى مسمعه صوت أمه وطرقاتها على الباب.. تطلع الى الساعة بفزع؛ لقد تجاوزت الحادية عشر وهو لم يغادر متوجها الى الورشة!! ونهض بعجلة وهو يجيب على استفسارات والدته (بلى سأذهب يا أمي؛ ولكنني انشغلت قليلا) وصل اليه صوتها المتهكم قائلة بعتاب رقيق (لابد انك انشغلت بخط تلك المقالات؛ أليس كذلك؟ انك تتعب عينيك لأجل لا شي يا "عباس"؛ انها تظرك فقط؛ والدليل أمامك؛ فقد تأخرت عن عملك!!) حاول جاهدا بأن لا يسمح لكلمات أمه باخماد معنوياته؛ مقنعا نفسه بأن كلمة الحق جزاءها عند الاله الكريم الذي لا يبخل؛ وغادر بعدها ودعوات أمه المحبة تلاحقه قبل ان تذهب للمجلس بهدف ايقاظ أخاه التوأم؛ والذي غالبا ما ينام هناك بعد قضاء السهرة مع أصدقاءه الخاملين الكسالى.. وجد "عباس" ان الذهاب للورشة لن يفيده شيئا الأن؛ فقرر اعطاء نفسه اجازة لهذا اليوم _ يوم الجمعة_ والذي غالبا ما يكون اجازة لرفيقه الحميم "حسين"؛ والذي يعمل برفقته بالورشة التي خلفها له والده رحمه الله. آن له أن يتحرى بصورة مكثفة عن بطلته "جنان" كي يستطيع دعم قضيتها بأدلة واقعية ملموسة.. ولكن؟؟ كيف بمكنه الوصول اليها؟؟ هذه أمرها سهل؛ ف "حسين " لديه أخوات قد تعرف احداهن بعض المعلومات الهامة لهذه القضية التي اجتاحت كل منزل بالقرية الصغيرة.. وبعد ان لملم شتات نفسه؛ طرق على باب منزل صديقه ؛ فتفاجىْ بظهور احدى أخواته على استحياء؛ وسألت (من؟؟) سألها بأدب من وراء الباب (هل "حسين" موجود؟) ..(لا؛ لقد ذهب الى السو...) وقبل أن تتم عبارتها؛ كان صوت "أم حسين" المعروف لديه يصرخ فيها بعنف وقسوة مبالغ فيها (أنت يا "جهنم" !! من بالباب؟!) أجابت بلهجة يائسة وكأنها تعودت الأمر (انه رجل يسأل عن "حسين") صرخت فيها بقوة أكبر وهي تقول آمرة (اخبريه انه ليس هنا وتعالي؛ كفاك تباطؤا !!) أسرعت الفتاة في غلق الباب والرجوع الى الداخل بخوف غريب؛ بينما انصرف "عباس" وهو ذاهل لا يصدق ما يحدث له.. كلمة "جهنم" استحوذت على تفكيره؛ أليست هذه الكلمة هي مضاد كلمة "الجنة".. أو نعم؛ نعم.. انها مضاد كلمة "جنان" بالتحديد.. الفتاة التي بادلته ذلك الحديث القصير من وراء الباب ما هي الا بطلة قصته المتسلسلة "جنان" !! ياله من أمر غريب؛ فالأحداث تأتي تباعا وبسرعة لا تصدق؛ والأغرب من هذا كله انها أخت صديقه "حسين"!! ان أكثر ما يحيره هو الأدب الجم الذي لمسه من قبل الفتاة؛ وموقف أمها وتشددها هو الدليل الأكبر ان ما يقال لا يتعدى كونه اشاعة؛ فهو يعرف "أم حسين" جيدا؛ ولو انها ليست واثقة بابنتها لطردتها من البيت على الفور. هناك أمور كثيرة لا تزال تحت ظلال الغموض؛ ويتطلب الكشف عنها بعض الصبر والروية. هكذا أكد "عباس" لنفسه وهو يعود لمنزله الصغير المتواضع ليواصل الكتابة بقصة أضحت بالنسبة اليه ليست قصة عادية أو عابرة. ان أكثر ما أسعد "عباس" في المساء؛ هو زيارة "حسين" له. انتهز الفرصة ودعاه اتناول العشاء؛ وفعلا؛ ضمتهما غرفته الصغيرة؛ واحتل "حسين" طرف السرير؛ بينما جلس "عباس" على كرسيه الخشبي الذي أعده بنفسه. لم تسمح له شجاعته بالبداية بفتح الموضوع الذي يشغل تفكيره؛ فانتظر حتى انتهائهما من تناول عشاءهما؛ وتمتم وهو بتوجه لحمام الغرفة ليغسل يديه (لم تخبرني؛ ماذا أحظرت لي من السوق؟!) ... (وما أدراك انني ذهبت للسوق؟؟) ...(أعطيت نفسي اجازة ومررت لأراك؛ فأخبرتني أختك انك في السوق (تمتم "حسين" وقد تصبغ وجهه خجلا بشكل مفاجىْ ("جنان" الوحيدة التي أخبرتها بوجهتي (استغل "عباس" الفرصة؛ فقال كمن تذكر أمرا (نعم؛ نعم؛ أعتقد انني سمعت أمك وهي تناديها ب "جهنم" ؛ فخمنت انها تقصد مضاد الكلمة..) وقبل أن بتفوه "حسين" بأية كلمة؛ غادر "عباس" الحمام وشارك رفيقه الجلوس؛ وراح يربت على قدمه بمنتهى المحبة (انني أعلم بكل شي؛ كان يجب عليك اخباري) تسمر "حسين" لا يدري ما يقول؛ فتابع "عباس" بلهجة مليئة بالصدق والثقة (أنا أول من يصدقك ان قلت ان ما سمعته كذب) وعلى ما يبدو فقد تشجع "حسين" لكلمات رفيقه وارتاح لها؛ فعبر عن وجهة نظره بكل شجاعة (أؤكد لك يا "عباس" ان ما يقال عن أختي ليس الا كذب وافتراء؛ انني لا أعلم ما القصة بالضبط؛ انها متكتمة ولا تريد الافصاح عن ما حدث لتنتشر كل هذه الشائعات وبهذه السرعة) هون "عباس" عليه وهو يقول برقة (لا عليك؛ كل شي سيكون على ما يرام؛ أؤكد لك) ..
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
اتخذت قصة "جنان" بعد الحوار الأخير بينه وبين صديقه الحميم منحنا أكثر أهمية بالنسبة اليه؛ فهو الآن يحارب عن شرف أخت رفيقه الذي وقف بجانبه بأحلك لحظات حياته؛ وقدم له العون الذي يحتاجه بمختلف الظروف والمناسبات؛ وآن له الآن أن يرد الجميل ولو بالنزر اليسير.. اضطرمت الأفكار في مخيلته وهو يتناول وجبة غذاءه برفقة والدته وشقيقه الذي لا يراه الا بأوقات تناول الوجبات؛ وراح يحدد الكلمات التي سيستخدمها في مقاله الجديد؛ ويزن مدى تأثيرها ومدى وقعها على القراء؛ حتى قاطعته والدته بقلق ("عباس" ؛ ما بالك يا بني؟ لماذا ذهنك مشغول دائما بهذه الأيام؟؟) وقبل أن يفتح فاهه ليرد عليها؛ كان توأمه قد تبرع قائلا بسخريته المعتادة (ربما عاشق!! مع انني لا أضن بأن هناك فتاة سترضى به) لم يستطع "عباس" تجاهل تعليقه؛ وتعمد أن يرد عليه بحكمة لا بغضب واندفاع (قد لا أملك يا أخي جاها ولا مالا؛ ولكنني أملك ما لا تملكه؛ أملك الايمان الذي قد يؤهلني للزواج بامرأة متدينة راضية بقسمتها التي قسمها الله لها) لوى "جاسم" شفتيه باستهزاء وتابع تهجمه رغم دعوة أمه له بالسكوت واحترام أخاه الأكبر (الايمان؟؟ قد لا أملكه ولكنني ملاحق من معظم فتيات القرية) حدجه "عباس" بنظرة غاضبة وقد احتقن وجهه أسفا على أفكار أخيه المنحرفة وقال بحدة بهدف ايقاضه من غيبوبته التي طالت كثيرا (لابد ان هؤلاء الفتيات لسن الا مخدوعات بك؛ والا لما لاحقنك الا لاسداء النصح) سيطر الغضب على "جاسم" لسماعه مثل هذه الكلمات من أخيه ؛ فراح يسب ويلعن ويصفه بأقسى النعوت (لست الا متخلف معقد!! من تضن نفسك أيها المغرور؟ لست سوى حثالة!! أنت تغار مني؛ هيا اعترف يا شيخ الجامع انني أفضل منك ولهذا تكرهني !!!!) نهض "عباس" ليمسك بيد أخيه التي يلوح بها بشكل عشواءي مهدئا (أنك مخطىْ يا أخي؛ أنا لا أكرهك..) قاطعه دون أن يهتم لسماع البقية وهو يصرخ بهستيرية وقد أبعد يد أخيه (لا تقل أخي !! كلكم تكرهونني وتريدون التخلص مني ..) واستدار الى أمه وأكمل (حتى أنت؛ تفضلينه علي وكأنني لست بأبنك!!) وغادر المكان بعد ان صفع الباب بقوة كاد أن يتحطم معها؛ استدارت الأم لأبنها الأكبر في أسى؛ فوجدته وقد وضع يده اليمنى على جبهته بيأس ؛ وأخذ يردد كمن لا حول له ولا قوة (انا الى الله وانا اليه راجعون !( ...

كانت الأيام التالية لهذا اليوم بمثابة الكابوس بالنسبة ل "عباس" ؛ فقد استغل "جاسم" غضبه المزعوم وراح يكثر من سهراته خارج المنزل؛ فلا يعود الا قبيل أذان الفجر؛ مما زاد من تأزم العلاقة بينه وبين أخوه الأكبر الذي لم يستطع ردع نفسه عن اسداء النصح؛ والذي يعتبره "جاسم" تدخلا في أموره الشخصية. ومع كل ما عاناه "عباس" مع توأمه؛ انشغل بعض الشيْ عن موضوع "جنان"؛ وخاصة بعد اعتماده على ظهور نتيجة مقاله الأسبوعي بالمجلة. ولم يذكره شيْ بالموضوع الذي تناساه قليلا بسب همومه العائلية سوى حظور "أبو حسين" له بالورشة بعد نشر المقال بيومين؛ كانت تبدو ملامح الارتياح على سحنته وكأن حملا قد انزاح عن كاهله؛ بعد السلام؛ انحنى بتواضعه المعروف ليربت على كتفه بمودة حيث كان منشغلا باعداد خزانة للكتب (لقد قرأت مقالك يا بني؛ كان رائعا ومؤثرا بدرجة مذهلة؛ واصل؛ وفقك الله) غمرت كلماته "عباس" بالفرحة؛ وحمد الله كثيرا لهذا النجاح؛ وسأله الصحة التي يستطيع من خلالها تحقيق ولو جزء بسيط من أحلامه السامية. أما "حسين"؛ فقد احتضنه بقوة وانهمرت الدموع على وجنتيه دون أن يحس؛ وراح يردد بمنتهى الامتنان (لقد فاجئتني يا "عباس"؛ ولا أعرف كيف أشكرك) ربت "عباس" عندها على ظهره وقد غمره التحدي وشدة الاصرار ( هذا ليس كل شي(

ومما زاد سعادة "عباس" أيظا بعد نشر المقال؛ هو قلة خروج شقيقه وسهراته خارج المنزل بشكل ملحوظ. في البداية تعجب الأمر؛ ولكنه سرعان ما أدرك الحقيقة؛ ففي احدى الأيام التي كان عائدا فيها من صلاة العشاء للجماعة بالمسجد؛ تفاجىْ بأن غرفته مفتوحة بشكل غريب؛ فأمه تذهب في هذا الوقت لزيارة جيرانها وغرفته لا تحتاج الى تنظيف!! مشى بحذر ناحية الغرفة لعل سارقا قد دخل على غفلة لخلو البيت من أصحابه؛ وعندما تطلع الى الداخل بوجل؛ تبين له ان السارق ما هو الا شقيقه "جاسم"؛ والذي كان يعبث بأوراقه بمنتهى التوتر؛ وكأنه يبحث عن شي ما!! جمد "عباس" بمكانه لهول الصدمة؛ ف "جاسم" لا يبحث عن النقود ليسرقها؛ ان هدفه هذه المرة في غاية الخطورة والسرية؛ فما حاجته لحفنة من الأوراق وهو الذي لم يطق العلم يوما وتذرع بأوهى الحجج كي لا يتم دراسته الاعدادية؟؟ هناك سر ما ... راقب "عباس" ما يجري بسكون ودون أن يثير أية ضجة؛ وبعد عدة دقائق من البحث المضني؛ شد "جاسم" اليه مجموعة من الأوراق وهتف بهمس وقد غمرته فرحة غريبة (وجدتها !!) وتابع (سحقا لك يا "عباس" ولمقالاتك التي تفسد علي حياتي) وعندها وعى "عباس" بأن مقاله الجديد في خطر؛ فدخل عليه على الفور؛ وقبل أن يستطيع الايتاء بأية حركة؛ كان قد اختطف الأوراق من يده بسهولة ورماها على السرير؛ وأمسك بعدها بسترة أخيه مهددا (أخبرني يا أخي العزيز ما الذي تسببه لك مقالاتي لتتجرأ على دخول غرفتي وتسرقها؛ تكلم على الفور!!) صعق "جاسم" وراح يهذي كالمحموم خوفا على نفسه (اتركني وسأخبرك بكل شي ((قل أولا !!) ومع اصرار "عباس"؛ لم يستطع "جاسم " الا الرضوخ والتفوه بالحقيقة (ان ما تكتبه يفسد علاقتي ب "جنان"؛ فبعد ان قرأته توقفت عن مراسلتي نهائيا خوفا منها أن يسبب لها ذلك المزيد من الاشاعات) صرخ "عباس" بذهول مقاطعا (كذّاب!! لا يمكن ل "جنان" أن تكوّن علاقة معك!!).. (انني لا أكذب؛ رسائلها التي بخط يدها لا تزال بحوزتي) تطلع "عباس" الى عينيه التي يطل منها الصدق لأول مرة ؛ وقاده الى المجلس حيث يحتفظ بحاجياته الخاصة؛ فتفاجىْ بصحة ما قال !!!!!!
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
كانت الأيام التالية لهذا اليوم من أتعس الأيام التي عاشها "عباس"؛ وتعجب كيف ان فرحته بنجاح المقال قد تحولت بدقائق الى حزن عميق لا يقوى على حمله. تهرب من "حسين" كثيرا ولم يدر ما الحل؟ فكلما مر بذاكرته وهو يؤكد ان ما يقال عن أخته كذبا؛ تزداد حيرته وشروده؛ فمن المؤكد انه لا يعلم بأمر الرسائل؛ وهذا ما يجعله مصمما على براءة أخته. أصر "عباس" على عدم اليأس؛ ووعد ربه وعدا صادقا بأنه سيجاهد حتى يكشف الستار عن كل الحقيقة مهما كلفه ذلك من عناء...
وفي صباح اليوم التالي؛ استيقظ "عباس" ؛ وقرر تأجيل مقاله الجديد؛ وشارك بعدها والدته طعام الافطار. سعدت "أم عباس" كثيرا وقربت له البيض والجبن وقالت مشجعة (نعم؛ هكذا يا بني؛ كل لتقوى عظامك؛ فلبدنك عليك حق!) أيدها ببسمة حانية (معك حق يا أمي!) وبعد تناوله لما قدمت والدته؛ سكب له كوب من الحليب وراح يرشفه بهدوء؛ لولا تذكره لأمر ما دفعه للتوقف؛ فراح يسأل أمه (أين "جاسم" ؟؟) تنهدت والدته وقالت بلهجة فاترة مستسلمة (لقد عاد للسهر مرة أخرى ولا يزال نائما) ربت على كتفها برفق (لا عليك يا أمي؛ سيعقل بيوم ما) وغادر بعد هذه الكلمات الى عمله وقد اعتزم التحدث مع "حسين" بما يشغله؛ وراح يطوي الأرصفة وقد شغل نفسه بالتسبيح الى ان وصل لورشته الصغيرة؛ حمد الله وتقدم لمصافحة صديقه الذي سبقه بالحظور؛ فتفاجىْ بلهجته الفاترة برد السلام؛ فبادر بسؤاله عن سبب تغيره بمنتهى الصراحة (مابك؟ هل من خطب ما ؟!) حدجه "حسين" بنظرة حزينة وقد أشار لكرسي خشبي بجواره داعيا اياه للجلوس؛ وابتدر حديثه بغيظ واضح لم يستطع السيطرة عليه (أخاك المصون هو سبب كل المشاكل التي تمر بنا يا "عباس") جمد "عباس" ذاهلا لهنيئة وهتف بداخل نفسه (اذن ؛ لقد عرف!!) أكمل "حسين" مرضحا حين وعى لعمق صدمته قائلا (لقد أوهم أختي "جنان" بأنه يحبها وسيتزوجها؛ ودون أن تخبرني صدقته لجهلها به؛ وأقامت معه علاقة عاطفية!) نطق كلمته الأخيرة بمنتهى السخرية وكأنها تعليق على حديث سابق خمن "عباس" انه حديثه مع اخته؛ وأكمل بعدها بأسى (لسذاجتها راحت تبادله الرسائل وبخط يدها؛ وبعدها اكتشفت الحقيقة؛ هو من أطلق عليها تلك الاشاعات المهينة!!؛ وقعت فريسة الحيرة؛ وخافت من اتهام من يملك بحوزته أخطر الادلة) قاطعه "عباس" عندها وهو يخرج حزمة من الاوراق من جيب بنطاله ويدسها بيد رفيقه قائلا بهمس وقد احمر وجهه خجلا لما سببه شقيقه من ازعاج كبير (لم يعد يمتلكها؛ بوسعك الآن التصرف معه بما شئت!!) تطلع اليه "حسين" بتعجب؛ غير مصدق ما يجري؛ وبعد فترة من الصمت؛ تبرع "عباس" بازاحة باقي الستار لتظهر الحقيقة كاملة (كنت سأخبرك ان "جاسم" أخبرني بأمر الرسائل بعد ان اصطدته متلبسا وقد أراد اتلاف مقالاتي؛ اعترف ان علاقته ب "جنان" قد انتهت بسببها) أتم عندها "حسين" الطرف الأخير من القصة متنهدا (هذا كان نوع من المراوغة من قبلها؛ فهي تعرف ان لم تعطه سببا وجيها لتركه؛ لما تركها وشأنها؛ ولراح يهددها بالرسائل التي "كانت" بحوزته) وشدد على كلمة "كانت" وهو يضم الرسائل الى صدره بفرحة غامرة؛ وبعدها راح يربت على كتف صديقه مؤكدا (لا تعتقد يا "عباس" ان ما فعله "جاسم" سيغير من شعوري نحوك؛ بالعكس؛ لقد تصرفت بشهامة عظيمة لتدافع عن سمعة "جنان"؛ ولا أنا ولا هي سننسى لك ذلك أبدا) شعر "عباس" عندها بارتياح لا مثيل له وكأن صخرة كانت جاثمة على صدره وانزاحت للتو؛ ونهض من موقعه ليحتظن رفيقه وقد راح يردد بحب غامر (لن أرتاح حتى أحل هذه المسئلة نهائيا؛ فلابد ل "جاسم" أن ينال عقابه).. (أنا وأنت نعلم جيدا ان "جاسم" بعيد عن التوبة كل البعد؛ ان كنت تريد أن تسدي لي معروفا بحق؛ واصل سلسلتك لتخبر الجميع بما حدث ل "حنان" (وهو الأسم المستعار ل "جنان") فيتعظوا ويكفوا عن رمي الناس بالتهم التي تقشعر لها الأبدان؛ ولا يرضى بها الله ورسوله (................
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الفصل الثاني
")عباس" !! جئتك من سبأ بنبأ يقين) تفحص "عباس" عيني رفيقه المتحمسة ؛ واستعجله حينها على أمل في تلقي الأخبار الطيبة بعد خيبة الأمل الأخيرة (ماذا هناك؟؟) عاجله "حسين" بالخبر ( لقد أفرجوا عن أسامة !! ) تلقاه بين ذراعيه القويتين بغبطة وسرور مرددا ( الحمد لله؛ الحمد لله!!).. لقد شكل اعتقال "أسامة" _ هكذا فكر "عباس" وهو يقود سيارته المعدمة التي اشتراها مؤخرا _ حادثا مروعا بالنسبة اليه والى أصدقاء دربه الجدد؛ فهو كان خطر عليه من جهة؛ وعلى تجمعهم الثوري من جهة أخرى؛ ولكن الحمد لله _ ردد "عباس" وهو يدخل منزله الموحش بعد وفاة والدته الطيبة ورحيل "جاسم" مع الخادمة الفلبينية التي جلبها هو عندما استفحل المرض بوالدته وتأكد من عدم قدرتها على تحمل أعباء المنزل الشاقة_ ها قد أفرج عنه؛ وسيكون كل شي على ما يرام ان شاء الله. تمدد على فراشه المتواضع ليتسنى له أخذ قسطا من الراحة بعد عناء المحاظرات وتزاحم الأحداث لهذا اليوم وراح يفكر في الخطوات القادمة التي سيتخذها هو ورفاقه المجاهدين الذين اختاروا اسم "جنود الله" ليدل على تجمعهم المبارك والذي كان أسمى هدف له هو المطالبة بتفعيل الدستور الذي ظل مجمدا لسنين طويلة. كان "عباس" في هذه الأثناء يقاوم رغبته بالذهاب لتهنئة "أسامة" بكل السبل بعد ان أوصل اليه "حسين" رغبة الأخير بالتظاهر برسمية العلاقة بينه وبينهم خوفا عليهم ؛ وسرعان ما سهّل عليه النوم هذه المهمة !!...
استيقظ بعدها على صوت ابنة خاله الصغيرة التي غالبا ما تأتي اليه لتدعوه لتناول وجبات الطعام برفقتهم .._ فكر "عباس" وهو يتوجه لحمام غرفته ليغسل وجهه بعد ان وعدها باللحاق بها _ ان مقدم خاله وعائلته الصغيرة الى البلاد بعد طول غياب كان بمثابة نعمة وهدية من الله؛ فلولا حظورهم وتوليهم لشؤونه وشؤون منزله لعانى الأمرين ؛خصوصا وهو الذي يرجع منهكا من الجامعة ولا يقوى على فتح عينيه؛ بالاضافة لاستبعاد فكرة الخادمة لسببين: الأول هو قلة المال؛ والثاني هو ما جرى من مشاكل وفضائح من أخيه الذي حارب والدته على آخر أيامها لأجل خادمة لا تعترف بمن خلقها.. آلمته الذكرى فتجاهلها بالتفكير بمستجدات حياته؛ فالحمد لله؛ انه الأن يمتلك عائلة جديدة تعامله بمنتهى الرقة والحب والحنان؛ بل هو _ ودون مبالغة _ كان السبب الرئيسي باستقرارها رغم الظروف الحالية للبلاد . ابتسم بخفة حين تذكر الدور الذي يجب عليه القيام به حال دخوله الى منزل خاله؛ كانت تلك نصيحة "حسين" وكانت بمحلها حقا؛ حيث أشار عليه بتقمص دور الشاب الأحمق الذي لا يفقه شيئا ولا يهتم بما يدور من حوله. في البداية كان مترددا؛ ولكن الشكوك التي حاصرته دفعته للرضوخ؛ واكتشف مع التجربة انه كان حلا سليما ومناسبا؛ ناهيك عن الراحة النفسية التي يشعر بها الشخص حين تكون لديه القدرة على اقناع من حوله بمدى ضرافته وخفة دمه!! وبالتالي؛ فقد ساعدته اشاعات الناس وتبادلهم للأسباب التي قادته لهذه الحالة؛ والتي أبرزها ما جرى لأقرب الناس لديه. حاول التسبب ببعض الازعاج حتى يتسنى لزوجة خاله وابنة خاله الكبرى فرصة التواري خلف الحجاب الاسلامي المنزلي؛ وفعلا؛ تناهى الى مسمعه صوت امرأة خاله من المطبخ القريب وهي تقول بترحيب صادق ( تعال يا "عباس" ؛ الطعام سيجهز حالا) استرخى على مقربة من ابنة خاله الصغيرة "زينب" محاولا التشاغل بمداعبتها حتى يأتي الطعام وقد علت وجهه مجددا تلك العلامة الحمقاء ("زينب" دعيني ألعب معك بهذه اللعبة!) صرخت "زينب" بشكل طفولي وعنيد أضحكه من الداخل (لا ! انها ليست لعبة للصبيان؛ انها عروسة ) استغل ما قالت على الفور حين أبصر دخول لبنة خاله الكبرى "منال" الى القاعة حاملة بعض الخضار قائلا بطفولية وسذاجة واضحة (يعني انها عروسة مثل "منال"؟؟) لم تستطع كتم ابتسامتها أمام هذا التعليق من ابن عمتها الأحمق؛ فجلست شبه ناءية وهي تهز رأسها يمينا وشمالا وقد شرعت بتقطيع الخيار؛ الا ان أمها المشغولة بنقل الأطباق سارعت بتأييده بطيبة وحنان كبيرين على ابن حماتها اليتيم (صدقت يا بني؛ لقد كبرت "منال" وأصبحت عروسا) هتف عندها "عباس" بحماقة وتصابي وكأنه لا يعي حقا لما يقول (اذن؛ فعرسنا قريب يا زوجة خالي؛ أليس كذلك؟؟) وقبل أن تستطيع الرد؛ كانت "منال" قد تبرعت قائلة باحتجاج واضح وقد ضمت حاجبيها استنكارا (ماذا تقول؟! صن لسانك يا "عباس" !!أنا لن أتزوجك؛ هل جننت ؟!) تلعثم "عباس" واصطبغ وجهه خجلا دونما شعور؛ وقد وقع كلامها موقع الرصاصة على قلبه؛ ورسمت الجدية على محياه لثواني؛ استدارت الأم خلالها لتوبيخ ابنتها بشدة قائلة (أنت من يجب عليه صون لسانه يا "منال" ! لا تتحدثي بهذه الطريقة مع ابن عمتك!!) وقبل أن ترد "منال" ؛ دخل والدها من الباب الرئيسي؛ وما ان وقعت عيناه على ابن أخته؛ حتى استرخت قسماته في لطف وألقى السلام؛ واستقر بعدها بقربه وراح يربت على قدمه دون أن ينبس ببنت شفة. حل الصمت احتراما للطعام؛ وراح "عباس" يأكل بشهية مفتوحة وبطريقة مضحكة؛ بينما في الجهة المقابلة راحت "منال" تتطلع اليه في دهشة وتقزز؛ ونظرات أمها تلاحقها كظلها. وبعد ان فرغ الجميع؛ استعدت "أم محمد" لنقل الأطباق المتسخة الى المطبخ وقد ألقت على ابنتها نظرة مهددة لاحظها زوجها فراح يستفسر باهتمام (هل من خطب؟) أسرعت الأم بالرد بخوف واضح ) أبدا؛ أبدا ) ولكنها تفاجئت بصوت "عباس" المستهتر يقول وهو يتطلع في "منال" بتوعد (لا ؛ لا ؛ هنالك شيْ يا خالي؛ لا تكذبي يا زوجة خالي فالكذب حرام؛ أنا سأخبرك يا خالي!!) تطلعت الأم الى ابن حماتها وقد تملكها الرعب لما ستناله "منال" من تقريع وتهذيب من والدها المحب لابن أخته؛ بينما تظاهرت هي بالشجاعة وتطلعت اليه بتحد كاذب. استعجله خاله (قل يا "عباس" واصدقني القول!) تمتم "عباس" كالمحموم عدة مرات (بالطبع فالكذب حرام ؛ أليس كذلك يا خالي؟ الكذب حرام! كل ما في الأمر _ وتطلع بتخويف الى "منال" وكأنها طفلة لا فتاة في العقد الثاني من عمرها قبل أن يتابع قائلا _ كل ما في الأمر ان... اووووه !! لقد نسيت انني وعدت" جوجو" بأن أرافقه الى الحديقة المجاورة بعد الغذاء_ وهو فتى في الحادية عشر اسمه "جلال" _ عن اذنك يا عجوزي الجميل!!) وقبّل خاله قبلة طفولية طائشة قبل ان يغادر المنزل؛ ولم ينسى طبعا الاستدارة لابنت خاله ليرى موقفها؛ فوجدها هائجة أكثر مما كانت؛ وأقسم انه لو ترك لها الخيار في هذه اللحظات؛ لقتلته خنقا !!..

كان يوما لا يمكن نسيانه أبدا ؛ ذلك اليوم الذي عانق فيه "أسامة" بمنتهى الشوق واللهفة بباحة الحرم الجامعي الذي طالما جمعهم بأيام جميلة (هو وشلته) وبلحظات لا يعيشها الا سعيد الحظ؛ ولمرة واحدة لا غير!! وسرعان ما استأنث العمل _ هو ورفاقه_ بعد أسابيع قليلة_ عبر نشر المخطوطات المتعلقة بالوضع السياسي بالدولة؛ والتي كانت توزع بسرية وحرص شديدين وبعدة طرق؛ منها الرمي فوق رؤوس المصلين أثناء السجود بصلاة الجماعة خوفا من الوشاية التي تبنتها كثير من النفوس المريضة مقابل حفنة رخيصة من المال. وما ان انتهت هذه المهمة؛ حتى سارع "جنود الله " برسم معالم الخطة التالية في منزل أحد الأفراد اسمه "عبد الله" ؛ وما ان انتهوا وحددوا الموعد؛ شيع "عبد الله" رفاقه بمنتهى الحذر الى خارج المنزل ؛ وتفرقوا بعدها بالحال؛ فمن صادف ورآهم؛ اعتقد انه لا يعرف الواحد منهم الآخر؛ ولو كسكان قرية واحدة !!

.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
وفي مساء اليوم التالي؛ وحين كان "عباس" جالسا في منزل خاله يتسامر مع "زينب" بعد أداء صلاة الجماعة بالمسجد ؛ دخل خاله الى المنزل وبيده بعض المشتريات التي أوصته زوجته باحظارها وقد تغيرت سحنته وبدى متظايقا الى أقصى حد. لم تتجرأ "أم محمد" على سؤاله ؛ فأشارت الى منقذها "عباس" بحركة خفية من يدها ؛ نهض "عباس" من على الأرض حيث كان يلعب مع "زينب" وجلس بجوار خاله الذي أسرع في ضمه بيد واحدة؛ فهتف عندها بحماسة (ما بك يا خالي؟؟ هل أزعجك أحد ما لأضربه وألقنه درسا؟؟ أخبرني!!) ابتسم خاله ابتسامة جانبية وكأنه يقلل من شأنه؛ ومن ثم هتف باشفاق وهو يوجه حديثه لزوجته مباشرة (الدوريات لا تتوقف هذه الليلة؛ ليستر الله !!) تطلعت الزوجة الى زوجها في قلق؛ وراحت تردد آية قرءانية كثيرا ما تذكرها (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فهم لا يبصرون ..) بينما استدارت "منال" المندمجة باحدى البرامج الدينية بمنتهى الاهتمام نحو والدها؛ وبعدها وجمت واستدارت ثانية الى التلفاز. لاحظ "عباس" تعبيراتها القلقة؛ انه يعرف "منال" جيدا؛ هناك ما يثيرها بشكل خاص بالنبأ الذي نقله والدها. وكان ضنه في محله؛ فقد لاحظ دخولها بشكل مفاجىْ الى غرفتها حيث أوصدت بابه باحكام!! هناك ما يجري مع "منال" منذ مدة ؛ ولكنه لا يستطيع تخمينه.. تجاهل الأمر بعد ان لاحظ حلول الساعة الثامنة والنصف_ وهي الموعد المحدد لمقابلة رفاق دربه_ (ولعل أهم الأسباب لاختيار هذا الوقت المبكر هو عدم توقع الدوريات لحدوث العمليات بهذا الوقت) نفذ "عباس" تخطيطه وتظاهر باللعب مع "زينب" في الحديقة الخلفية حيث الباب الجانبي؛ فتسلل الى الخارج ببساطة ويسر؛ وانضم الى رفاقه بالمكان المحدد وأخبرهم بما عرف للتو؛ فقرروا تأجيل العملية الى الساعة العاشرة مساءا لتكون الأجواء قد هدأت حينها ؛ فرجع بعدها لمنزله محاولا قضاء وقته بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم وقد وقع الخشوع في نفسه موقعا لا يستطيع معه أن يلتفت الى ما حوله؛ حتى لو كان كارثة !!!!.......................

أسرع في المغادرة حيث رفاقه متوكلا على عناية الله التي تحمي المؤمنين من كل شر؛ ومضى يقطع الأرصفة الواحد تلو الآخر حتى استقر به المسير بالمكان المتفق عليه . كان "يوسف" و " لؤي" و "عبدالله" و " حسين" قد سبقوه وبقا في انتظاره ؛ وما ان وصل ؛ حتى ذكروا اسم الله جميعا وتوكلوا على الله.. تولى "يوسف" و عبدالله" مهمة المراقبة؛ بينما تفرق كل من "لؤي" و "عباس" و "حسين" باتجاهات مختلفة. صار "عباس" يخط الشعار تلو الشعار في سرعة ومرونة؛ أحكم لثامه الذي في الحقيقة عبارة عن (غترة) فلسطينية؛ في الوقت الذي تناهى اليه صوت "عبدالله" على هيئة عواء قطة متفق عليه؛ فعلم بقدوم أحد ما . أسرع في الجري مبتعدا بأنفاس لا يكاد يلتقطها ؛ وتوقف عند أحد البيوت وقد اشتد لهاثه؛ وتصبب العرق على وجهه صبا؛ فتفاجىْ بما قد أذهله :فتيات يرتدين زيهن الاسلامي ويغطين وجوههن بخمار أسود قد وقفن بكل شجاعة يكتبن الشعارات!! ولم يدر ما العمل؟ وما الطريقة السليمة لابلاغهن بقرب الخطر؟ ولم يكلف نفسه جهدا بهذا الشأن؛ فقد تعالت صوت كحات نسائية انفضت النسوة على اثر سماعها بلمح البصر. ولكن؟؟ يبدوا ان احداهن لم تسمع شيئا؛ فقد استمرت في الكتابة باندفاع كمن في كوكب آخر!! ورغم صعوبة موقفه؛ لم يستطع ردع نفسه من انقاذها؛ خصوصا وقد اقتربت سيارات الجيب شيئا فشيئا.. اقترب منها عدوا وصاح فيها (اهربي؛ الدورية قادمة !!) ولقد توقع "عباس" كل شيْ في هذه اللحظات كردة فعل؛ الا صرخة مدوية للفتاة التي أيقضها صوت خشن من أحلامها كان _ أغلب الضن بالنسبة اليها _ صوت أحد الضباط أو أحد العملاء بحالة أقل سوءا!! كانت قد أسقطت رش الصبغ من يدها واستدارت للوراء برعب وهلع شديد ؛ اضطر معه "عباس" لتهدئتها قائلا (لا تخافي يا أختي واهربي بسر...) وقبل أن يتم عبارته؛ أدرك بأن الجيب قد اقترب ؛ وأصبح ابتعادهما أمرا مستحيلا؛ وأدركت هي ما يجول بخاطره؛ فتملكها الرعب حتى كاد يجزم بأنها ستسقط مغشيا عليها بين لحظة وأخرى ؛ ولكنها بعد ثواني؛ وبذكاء انثوي؛ تصرفت بسرعة وأخفت الرش الخاص به وبها في زاوية مظلمة بين القمامة وأطلقت صرخة مصطنعة حين اقترب أحد رجال الأمن منهما قائلة (يا الهي !! انه أخي؛ سيقتلني ان رآني معك بهذا المكان المظلم!!) فهم "عباس" فورا ما ترمي اليه؛ فراح يمسك بيدها _ التي تلبس القفاز الأسود_ بحركة ودية مزعومة مهدئا (لا تخافي ؛ انه رجل غريب؛ هل من خدمة؟؟) ابتسم الرجل بخبث وقد ضن انه قد فهم ما يدور بينهما وسبب تلثم الشاب وسأله بلطف يدل على تشجيعه لفعلتهما الشائنة حقيقة" (لو سمحت؛ هل صادفكما مرور جماعة من "الارهابين" بهذه الأنحاء؟؟) رد "عباس" في لطف مصطنع أجاد تمثيله (بالطبع لا ؛ فأنا وصديقتي كنا ..) قاطعه الرجل متفهما حين أنكس "عباس" رأسه بحياء ظاهر وقال وقد اتسعت ابتسامته الماكرة (نعم ؛ نعم؛ لا عليك؛ خذا راحتكما وآسف للأزعاج !!) وانصرف الرجل بعد ان غمزه وقال (اعتن بها جيدا يا رجل!!).. كان أصعب ما مر به أن يستدير بعدها للفتاة ؛ ليس قفط لما تفوه به للتو؛ بل لأنه _ وما ان تكلمت الفتاة وصرخت _ حتى أدرك بأن هذه الفتاة الذكية المناظلة ما هي الا ابنة خاله "منال"!! وبالطبع لم يستطع أن يكشف حقيقته أمامها وينزع اللثام؛ فذلك يعني افساد خطته السياسية من جذورها؛ ولذلك ظل حائرا ينتظر منها كلمة شكر أو وداع حتى ينصرف لشأنه . أنكست "منال" رأسها بخجل جم ؛ وهمست بعدها بلطف وحياء شديدين (آسفة يا أخي ؛ لقد تسببت لك بكثير من الازعاج بغبائي وشرودي ..) ولم تدر بما تكمل ؛ فتبرع بالقول بمنتهى الرقة والحنان ( أبدا ؛ كل انسان يمر بهذا المرقف؛ أنا نفسي مررت به؛ وان كان يدل على شيْ ؛ فهو يدل على صدق وطنيتك وحماسك الشديدين) لاحظ ابتسامتها من تحت الخمار _ والذي لم تكن تلبسه حقيقة في القرية مكتفية بالحجاب والعباءة _ فاكتفى بذلك وهم بالابتعاد؛ غير ان صوتها قد ناداه بتذكير (يا... ؛ الرش !!) كان واضحا من طريقتها انها راغبة بمعرفة اسمه على سبيل الفضول الذي يعرفها به ؛ ولأنه يعرفها؛ لم يتعب نفسه بمراوغتها بل أكد قائلا وهو يتناول رشه ( "عبدالله" ) حتى يكون جوابه صادقا وخاليا من الكذب؛ فهو عبد لله حقا !! شكرته وهي تسرع في اتجاه منزلها (شكرا لك يا "عبدالله" ؛ لن أنسى لك هذا يا أخي (
كان اليوم التالي لهذا اليوم مليئا بالاضطراب والقلق؛ فقد كثرت الدوريات في القرية ولزم كل امرىْ بيته خوفا على أسرته بما فيهم خاله الذي دخل الى المطبخ ليحادث زوجته المشغولة باعداد وجبة الغداء حديثا هامسا كي لا يسبب القلق للحاظرين؛ والتي "زينب" ذات السبعة ربيعا من بينهم. كان "عباس" يشعر بخوف شديد على ابنة خاله العنيدة "منال" ؛ فقد كانت بذلك الوقت يجب أن تكون في طريقها الى المنزل بعد انتهاء آخر محاظرة لديها بالجامعة حيث تدرس بكلية الآداب؛ وخصوصا بعد ما عرفه عن تحركاتها السياسية الغير متوقعة بالنسبة اليه؛ فهو لم يلحظ عليها كل هذه الوطنية سوى البارحة ؛ ولم يدرك الا للتو بأن الجنس الآخر _ وهن النساء _ سيفكرن باتخاذ مثل هذه الخطوات الشجاعة باتجاه هذه القضية الحساسة
قاطع دخول "منال" الى المنزل أفكاره ؛ كانت تحمل كتبها وشنطتها اليدوية الصغيرة وقد علت وجهها علامات التوتر بشكل ملحوظ.. دخلت لغرفتها دون أن تلقي السلام؛ وخرجت بعد ان أدت صلاتها وبدلت ملابسها وارتدت فوقها زيها الاسلامي الذي يلازمها بوجوده الذي لا يطول بسبب مشاغله السياسية ودراسته الجامعية ؛ بالاظافة لعمله عصرا بالورشة؛ حتى يتمكن من دفع رسوم الجامعة. تجمع الكل على المائدة ؛ وساد الصمت وخيم على المكان في رهبة . لم يستطع "عباس" منع نفسه من التفرس بابنة خاله الكبرى ؛ لقد كبرت كثيرا ؛ لم تعد تلك الفتاة الصغيرة التي تشبثت بسترته بكل قوتها رافضة الابتعاد عنه ؛ ومعلنة بكل طفولية انها لا تقوى على العيش من دونه.. لشد ما تغيرت!! لقد أضفت عليها السنون صبغة جديدة وتحد كبيرين . لازال يتذكر دهشتها واحتقان وجهها الحنطاوي حين قابلته وهو على الحال التي اختارها لنفسه ؛ أو اختارتها الظروف بشكل أصح . لقد لاحظ في ذلك اليوم الانكسار واضحا في عينيها العسلية ؛ وأخذه الغضب أخذا حتى كاد يفصح عن كل شيْ لولا اصرار "حسين" على أن لا يفعل؛ ووقوفه الى جانبه بتلك اللحظات الصعبة ... تنهد بضيق لهذه الذكرى المؤلمة؛ وأنزل رأسه الى طعامه؛ وتفاجىْ _ ما ان رفعه ثانية _ بنظرات "منال" المحدقة به. لم تنزل عينيها بعدم اكتراث بردة فعله؛ وواصلت حملقتها الغريبة متفرسة في وجهه. في البداية اعتقد "عباس" انها قرأت أفكاره؛ ولكنه سرعان ما اكتشف خطأه ؛ "منال" تحدق في عينيه بشكل خاص.. ياالهي !!! صرخ بداخله ! لابد انها لاحظت الشبه بينه وبين منقذها المجهول!! نعم؛ والا لما التحديق المفاجىْ والطويل بعينيه؟؟ انها عادة لا تنظر الى ظله حتى؛ انها لم تسلم عليه ولو كمجاملة عندما دخلت الى المنزل !! أنكس رأسه ثانية بشكل متعمد وراح يتشاغل في الأكل؛ وعندما رفعه ثانية ؛ كانت قد عادت الى طعامها وقد علت وجهها تكشيرة واضحة. شعر "عباس" بحزن تجاهل مصدره وانسحب على الفور من على المائدة واتجه الى حيث المغسلة بالمطبخ وغسل يديه المتسختين بالماء والصابون؛ وغادر المنزل بعد ان أحدث ضجة مصطنعة صاح فيها (سأغلبك اليوم يا "جوجو" !!)

صحى "عباس" في اليوم التالي مبكرا ليذهب الى كليته _ كلية الآداب _ وقد شعر بقليل من التحسن بنفسيته. تفائل خيرا وغادر منزله بعد ان نظف أسنانه ومشط شعره الأسود الناعم الى الوراء بترتيب. وبعد ان اصطحب "حسين" ؛ توجه الى جامعته ووصل اليها قبل المحاظرة بنصف ساعة التقى خلالها بباقي أصدقائه وزملائه بالقاعة؛ فوقف _ برفقة صديقه الحميم_ ليتبادل معهم أطراف الحديث .. كان الحوار دائرا حول تميز بعض الأساتذة في توضيح المواد. صاح "لؤي" محتجا على حديث ل "عبدالله" بمنتهى الحماس (دكتور "وليد" يشرح جيدا ؟ أرجوك !!) أصر "عبدالله" على موقفه بخفة دم معتادة منه قائلا (لا ؛ دكتور "لؤي" هو من كنت أقصد!) ضحك الجميع _ بما فيهم "عباس" _ بخفة على هذا التعليق الساخر؛ ولكن ضحكاتهم اللطيفة تحولت فجأة الى نظرات مندهشة حين وقفت فتاة فجأة بصحبة رفيقاتها على مقربة منهم وصرخت بذهول ودهشة لا توصف ("عباس" !! ما الذي أتى بك الى هنا؟؟ ) تسمر "عباس" في مكانه ولم يحرك ساكنا ؛ وأدرك متأخرا ان وقوفه بعيدا عن قاعته كان خطأ" فادحا". لم يلتفت لابنة خاله المصدومة من شدة الارتباك؛ الى ان أنقذه "حسين" باعجوبة قائلا ل "منال" بلهجة محترمة (عفوا يا أختي؛ صديقي ليس من تضنين؛ اسمه "جاسم" وليس "عباس" !! (استدار "عباس" الى "حسين" منصدما بكذبته المعلنة. أيده الرفاق وهم يشيرون الى أحدهم اشارات خلفية بعيدا عن نظرات "منال" في نبرات متفاوتة بين المرح والجد (حقيقة" انه "جاسم" !!) بدت "منال" أكثر اندهاشا وصاحت ثانية بغير وعيّ ("جاسم" ؟؟ ابن عمتي؟؟) تمالك "عباس" نفسه وقال بشيْ من الهدوء الزائف (ابن عمتك بعينه) ! تطلعت اليه باحتقار وبعتاب كبير على ما فعله بنظرها؛ وهو قد فهم ما ترمي اليه على الفور ؛ فقاطع نظراتها بقوله مبتعدا وقد جر "حسين" من يده وبشيْ من السخرية في لهجته لتشابه لهجة أخيه نوعا ما ( سلمي على خالي العزيز؛ لا تنسيّ !!!(
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
لم يستطع "عباس" التركيز أثناء محاظراته؛ نظرات "منال" المحتقرة له صارت تلاحقه كقدر لابد من مواجهته. شعر بأن الحزن أصبح ميزة من ميزات حياته مؤخرا ؛ فها هي همومه تزيد هما آخر ؛ ف "منال" _ بالاظافة لاستهزاءها واستخفافها بشخصيته _ فانها ستضيف الى كل ذلك عتابها واستياءها واحتقارها لأفعال "جاسم" التي غالبا ما يدفع هو ثمنها !! ....
ان أكثر ما يدهشه بكل هذا هو "حسين". انه مصر على الدفاع عن فكرته ودعم استمرارها بأي ثمن. ولو كان "عباس" لا يدرك بأن هذا الاصرار ما دافعه الا حبه و خوفه عليه ؛ لما جاراه في مراوغاته أمام "منال" لدقيقة واحدة !!

بعد انتهاء آخر محاظرة ؛ التقى "عباس" ب "حسين" بقرب القاعة ؛ وما ان رآه الأخير حتى قام يضحك بقوة ؛ وكلما سأله "عباس" عن سبب هذه الضحكات العالية لم يستطع التوقف لثانية !!! انتظر الى أن يفصح عن ما يضحكه بنفسه؛ وبينما كانا يستعدان للمغادرة ؛ قابلا صديقهما "أسامة" بقرب البوابة الخارجية للجامعة وهو يحتل المقعد وراء مقود سيارته وقد انخرط في ضحك لا ينتهي ما ان وقعت عيناه على "عباس" الذي استنفذ كل ما لديه من صبر واستدار لرفيقه بحنق صائحا (ماذا يجري؟؟) صرخ "حسين" بدوره وقد غلبه الضحك ثانية ؛ وبصورة غير معتادة (أضنني عرفت لتوي عنك ما لا يرضيني..) وقبل أن يستفسر "عباس" سبقه "حسين" بالقول (هل هربت مع فلبينية ؟؟!!(


الفصل الثالث
ما أطهر هذه القلوب؛ وما أنقى سريرتها !! هكذا ردد "عباس" وقد أيقظه دوي الشعارات من أحلامه الرمادية ؛ وأعاده الى الواقع المرير والجميل بذات الوقت .هذا هو اليوم الذي كان ينتظره منذ زمن بعيد؛ اليوم الذي توحد به كلمة أبناء قريته بكلمة واحدة هي "الحق" ؛ اليوم الذي تذوب به الأحقاد والآثام ذوبا.. نعم؛ هذا هو الطريق الصائب الهادف؛ وليس كمثله طريق!!

أسرع "عباس" في ارتداء ملابسه المرتبة التي لا يستخدمها الا خلال العمليات وأثناء وجوده بالجامعة ؛ وارتدى غترته ولثم وجهه قبل أن يغادر منزله بعجلة بهدف الانظمام للمسيرة السلمية التي أقامتها قريته الصغيرة _ رجالا ونساء" _ قبل أن تبتعد ويتعذر عليه اللحاق بها. وأخيرا؛ استطاع الانظمام اليها وراح يردد هتافاتها الحماسية بمنتهى التأثر. ولكن؛ ولسوء حظه؛ فقد أسرعت الدوريات بالقدوم _بسبب الوشاية_ وبدأت بتفريق المتظاهرين برمي الرصاصات الطائشة والغاز المسيل للدموع بمنتهى الوحشية والقذارة. تفرقت المسيرة؛ وعمت الضجة بالمكان؛ وبقي بعض الشباب المتلثمين يهيلون على سيارات الجيب الحجارة بمنتهى الشجاعة والاقدام؛ بما فيهم "عباس" الذي لم ينتشله شيْ من غمرة حماسه سوى صرخة مألوفة لديه ؛ استدار على أثرها ليجد يد من تلك الأيدي القذرة وهي تجر ابنة خاله الكبرى "منال" عنوة لداخل الجيب.. لم يفكر بشيْ؛ لم يفكر بعواقب ما قد يفعله؛ وعندما اندفع باتجاهها؛ لم يفكر حتى ان كان سينجو هذه المرة أيظا أم ان الله لن يقدر له النجاة. كل ما كان يفكر فيه هو "منال"؛ ابنة خاله الذي أطعمه ورباه وأحاطه بحبه وحنانه؛ "منال" التي صرخت بكل قوتها انها لا تستطيع العيش من دونه قبيل رحيلها. ولم يعي لنفسه الا وهو يصرخ باسمها بقوة؛ وكل ما يتذكره انه انهال على الجندي الأجنبي رميا بالحجارة حتى استطاع صرفه عن "منال" التي أخذت تركض باتجاهه كالمذعورة وقد انهمرت دموع عزيزة من عينيها؛ دموع أشبه بتلك الدموع الطفولية التي ذرفتها خوفا من ألم الفراق. وبدون ادراك؛ صرخ فيها غاضبا (لماذا لم تهربي مع الباقين ؟؟!!) ولم يتيح لها فرصة الرد ؛ فقد جرها من يدها بهدف الهرب من الجندي الذي بدأ بملاحقتهما ؛ أما هي فلم تستطع الا طاعته؛ فقد بدت في حالة نفسية سيئة للغاية؛ وما لبثت ان أجهشت بالبكاء !! واصلا الجري حتى استقر أمرهما عند حائط منعزل لأحدى البيوت القديمة.. استجمعت "منال" قواها وواصلت بكاءها المرير ؛ وصرخت على حين غرة (لقد قتل "ياسر" ؛ لقد قتله.. أتعرف الآن لم لم أهرب ؟؟) صرخ بدوره بانفعال من هول الصدمة ( "ياسر" !! ابن خالتك ؟؟ هل أنت متأكدة من انه مات؟!!) ودون أن تسأله أي سؤال أجابت وقد بدى كل شبر من جسدها يرتجف (نعم.. متأكدة.. لقد أتت الرصاصة في قلبه مباشرة ومات على الفور.. ما ان رأيته وعرفت من فعل به هذا حتى جن جنوني؛ ورحت أهيل ذلك الوغد ضربا وصفعا) وعادت للبكاء باندفاع وقوة واضعة يديها فوق وجهها المتألم؛ وبدى ل "عباس" انها الآن ولا شك تستعيد منظر "ياسر" وهو مخضبا بالدماء. انحدرت الدموع من عينيه دون أدنى مقاومة؛ وراح يضرب الحائط بكفه بحنق صائحا (الأوغاد؛ الأنذال ؛ قساة القلوب..) ولم تزد صرخاته "منال" الا بكاءا؛ هتفت في خضم نحيبها ( آه يا خالتي !!ما أعظم مصيبتك وما أفضع بلاءك !! صبرا يا "عبدالله " فان النصر قريب) وسادت هنيئة من السكون ؛ انتبه بعدها "عباس" لنفسه؛ فانكس رأسه في خجل وهم مبتعدا ؛ ولكن صوتها استوقفه ( عبدالله !! ) استدار اليها ولم ينبس ؛ فراحت تسأله بهدوء (أعلم ان الوقت غير ملائم لطرح الأسئلة؛ ولكننا قد لا نتقابل ثانية ؛ لقد ناديتني باسمي منذ قليل ؛ وشاركتني فجيعتي على ابن خالتي الشهيد؛ فمن أين لك أن تعرف من أكون والى من أنتمي ؟! ) تسمر "عباس" في مكانه ؛ لم يكن مستعدا للتصديق بأن فضول ابنة خاله أكبر من أي حادث أو مصيبة بالعالم !!! هتف بشيْ من الهدوء الزائف بمنتهى البساطة التي لم تكن تتوقعها (قريتنا صغيرة كما تعلمين !!) وعاد الى منزله والحزن يخيم فوق صدره كالكفن ..

أحدث استشهاد "ياسر" جرحا لا يندمل بقلب أهل القرية ؛ فمقتل صبي لا يتجاوز الثامنة عشر ربيعا جريمة شنعاء تقشعر لها الأبدان وتتمزق لأجلها نياط القلوب . كانت "أم محمد" _ وبرغم حالتها النفسية المتعبة _ لا تفارق أختها _ أم الشهيد _ دقيقة واحدة ؛ بينما كانت "منال" تتولى شؤون المنزل واعداد الطعام بأيام الحداد التي طالت كثيرا ؛ وفي احدى هذه الأيام الكئيبة ؛ وفي جو الروحانية والسكون ؛ تفاجىْ "عباس" بما قد أذهله ما ان عاد الى منزله _ بعد ان ختم القسم الرجالي القراءة على روح الشهيد_ فما ان دخل الى غرفته حتى وجد ورقة غريبة معلقة على خزانة ملابسه. انتشلها وقد ارتجفت أوصاله بشيْ من الحدس المفاجىْ ؛ وسارع في قراءة هذه الكلمات المكتوبة بخط مرتب برغم عدم خلوها من الركاكة والأخطاء الاملائية ,,, (بسم الله؛ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ وبعد : أخي الغالي "عباس" ؛ لقد أتيت لمنزلك ولم أجدك ؛ ولا أنكر انني شعرت بشيْ من الارتياح لهذا ؛ لأنني كنت متوترا للغاية وأنا أتخيل طريقة استقبالك لي بعد كل تلك الأعوام التي مرت دون أن نقابل بعضنا. لك أن تعرف يا "عباس" انني أعلم بمقدار غضبك مني ومن ما فعلته؛ ولكنني أعلم أيظا ان قلبك الكريم قادر على الصفح و المسامحة ..لن تصدق هذا ؛ ولكنني رأيت والدتنا بالمنام وقد أكدت لي انها لن تسامحني لا اذا أنت سامحتني أولا. وها أنذا أخط لك هذه الرسالة راجيا منك أن تنسى الماضي وتغفر لي نزواتي السابقة ؛ وان كنت لن تفعل هذا لأجلي؛ فافعله لأجل ابن أخيك وزوجته.. لا ؛ لا تفهم خطئا!! زوجته العربية المتدينة التي كان لها الفضل الأكبر بهدايته بعد الله.. لن أطيل عليك ؛ لأنني سأحظر مجددا _ ان كنت ترغب_ وها أنذا أترك اليك عنواني؛ فان سامحتني وغفرت لي ؛ ابعث في طلبي وسآتيك بسرعة البرق . أستودعك الله. ملاحظة : ذهبت لبيت خالي وسلمت عليهم جميعا _ "منال" كبرت كثيرا _ !! أخوك المخلص "جاسم") وكان عنوانه فعلا مدونا على ظهر الورقة !!!!

طرح "عباس" بجثته على السرير وقد هالته المفاجئة التي لم تكن بالحسبان ؛ لقد تزوج "جاسم" من مسلمة وله ولدا الآن؛ وهاهو ذا يطلب السماح والغفران على ما فعله بالماضي !! بدى "عباس" وكأنه بحلم لا يرغب بالاستيقاظ منه. أخيرا ؛ أخيرا تحققت أمنيته وأمنية والدته التي لم يكن من نصيبها أن تشهد هذه اللحظة الرائعة ولللأسف الشديد.. ابتسم "عباس" بخجل وهو يعيد قراءة الفقرة الأخيرة من الرسالة ؛ كل شيْ قد يتغير ب "جاسم" الا تلميحاته بعلاقتهما هو و"منال". اذن لقد رآها؛ وربما كلمها.. راودت "عباس" المخاوف والضنون التي انتشلته من سعادته بلا رحمة؛ ربما "منال" الآن عرفت كل شيْ ؛ عرفت ان "جاسم" ليس هو من قابلته في الجامعة وبالتالي لابد أن يكون هو من قابلت !!توجس توجسا شديدا ولم يستطع الانتظار حتى حلول وقت الغداء ؛ يجب أن يذهب اليها الآن ليرى ان كانت ضنونه في محله أو لا.... سارع الى منزل خاله الكئيب بهذه الأيام الصعبة ؛ ولكنه تفاجىْ بصوت "حسين" من خلفه ؛ وما لبث ان انظم اليه قائلا وقد علت وجهه ابتسامة عريضة ( الى أين ؟) حدجه "عباس" بنظرة لائمة لنظرته الخبيثة وصاح فيه بارتباك ( لابد ان "منال" عرفت كل شيْ الآن) تطلع "حسين" اليه بقلق شديد مدركا ما يعني بكلمة "كل شيْ " وسارع بالاستفسار ( ماذا جرى ؟؟ قل فقد وقع قلبي!!) نطق "عباس" بعد تنهيدة قوية ( لقد أوهمت "منال" بالجامعة انني "جاسم" ؛ ولم تضع بحسبانك ان "جاسم" قد يعود فيكشف الحقيقة ..) صرخ "حسين" بعدم تصديق (يعود؟؟ وهل عاد "جاسم" حقا؟؟) رد "عباس" بسعادة لا تخلو من بؤس ( نعم ؛ لقد أتى ولم يجدني ؛ وترك لي رسالة يطلب فيها العفو؛ والأدهى من كل ذلك ؛ انه قابل "منال" ) تمتم "حسين" وقد وقف بمقابلة رفيقه بعد ان وصلا لمنزل خاله قائلا كمن يهذي ( انه لأمر لا يصدق !! المهم ؛ تفائل خيرا ؛ ربما لم تسأله عن تلك المقابلة ) استعد "عباس" للدخول متمتما كمن يهوى تعذيب نفسه ( وربما سألته !!( ....
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
وما ان دخل حتى ركضت اليه "زينب" وعانقته بقوة صائحة بفرحة طفولية ( "عباس" ؛ "عباس" ؛ "منال" ها قد أتى "عباس" !!) أجابها صوت أختها الكبرى من المطبخ قائلة بلهجتها الساخرة المعتادة ( أهلا وسهلا !! يبدو انك جائع جدا لتأتي مبكرا هكذا ؟!) تنهد "عباس" مطمئنا وقاد "زينب" باتجاه المائدة صائحا بحمق ( جدااا جدااااااااااا ..فقد صنعت اليوم خزانة ملابس كبيرة ؛ كبيرة جدااا !!) هتفت "منال" بصوت شبه عال ليسمعها ( بحجم كذبتك الكبيرة؛ أليس كذلك؟؟) تسمر "عباس" بمقعده ؛ ووقعت كلماتها في قلبه بشكل مؤلم . اذن ؛ لقد عرفت الحقيقة وتحطمت شخصيته في نظرها تحطيما؛ لم يعد سوى كاذب مخادع في نظرها أحاطها بسياج من التلفيق والكذب والمراوغة ؛ ما أفضع هذا !! قاطعه صوتها من أفكاره البائسة قائلة وهي تضع صحن مليْ بالأرز والدجاج بمقابلته وهي تبتسم بشيْ من تأنيب الضمير (لا تغضب يا "عباس" ! أنت سريع التأثر !! ألم تقل بأنك صنعت خزانة ملابس خلال يوم واحد فقط؟ أيعقل هذا ؟؟!!) أدرك "عباس" بأن ضنونه قد ابتعدت به كثيرا واستدرك مجيبا اياها وقد رسم على وجهه ملامح الطفل حين تكذّبه أمه (لقد كنت أقصد انني أكملتها اليوم ؛ ثم ان "حسين" قد ساعدني في صناعتها) تطلعت اليه بنظرة غريبة وهي تقول مهدئة وقد كانت في طريقها لمناداة والدها الذي كان في اجازة احتراما لأيام الحداد (حسنا ؛ حسنا ؛ أنا جد آسفة ؛ لم أقصد بأنك كاذب!) وطرقت باب الغرفة الخاصة بوالديها منادية ( أبي.. لقد جهز الغداء و"عباس" قد حظر ) أسرع "أبامحمد" بالخروج الى الصالة ما ان سمع بتواجد ابن أخته الأكبر مرددا ( ها قد أتيت؛ ها قد أتيت) وما لبثو ان تجمعوا على المائدة وبدأوا بتناول الطعام . وما ان انتهوا حتى بادر خاله بالحديث بعد ان غسل يديه وضمه بجواره على الأريكة كالمعتاد (بنيّ ؛ لقد أتى أخاك "جاسم" بالأمس لزيارتنا ..) كشّر "عباس" في وجل فهمه خاله بطريقة مغايرة فأسرع في القول ( أعرف انك غاضب منه كثيرا ؛ ولكن لو تراه كيف تغير؛ لسامحته على الفور؛ لقد...) قاطعه "عباس" بلهجته الحمقاء ذاتها ( أعلم ؛ تزوج؛ وأنجب ابنا من عربية مسلمة ؛ لقد ترك لي رسالة على خزانة ملابسي وطلب مني مسامحته يا خالي ) سأله خاله بلطف لا يخلو من تعجب ( وما هو رأيك يا بنيّ ؟؟) أسرع "عباس" في الرد ببله ولكن بسعادة حقيقية وهو يضم خاله الى صدره (انني أسامحه بالطبع يا خالي!! أولا لأنه جعلني عما ؛ وثانيا أنك علمتني أن نسامح المخطئين عسى أن يسامحنا الله) ..
ربت خاله على ظهره في فخر وسعادة غامرة وقد انهمرت دموع نادرة من عينيه العسلية ( هذا هو "عباس" الذي أعرفه ؛ انني فخور بك حقا (صفقت "زينب" بيديها الصغيرتين تعبيرا عن فرحتها الكبيرة ؛ بينما تطلعت "منال" ل "عباس" بنظرة منكسرة دامعة لا تخلو من الغموض.

خرج "عباس" من منزل خاله متوجها الى الورشة مباشرة ؛ حيث التقى ب "حسين" مجددا هناك ؛ ودون أن يفتح الأخير فمه ؛ أجاب "عباس " على نظراته المتلهفة قائلا وقد احتل كرسيّ خشبيّ كان قد صنعه بنفسه (اطمئن ؛ لم تعلم بشيْ !) تنهد "حسين" في راحة ؛ بينما تنهد "عباس" في قلق وقال وهو يستعيد ذكرى نظراتها الغريبة ( ولكنها ستعلم بيوم من الأيام .. ) حاول "حسين" تهدئته بلهجة حنونة هادئة ( المهم أن لا تعلم بهذه الأيام بالذات؛ وبعدها ان فرجها الله وانتصرنا ؛ أخبرها أنت ؛ وبالطريقة التي تريد ) غيّر "عباس" الموضوع ؛ وأخذ يقص الأحداث التي جرت بينه وبين عمه ؛ ففقه "حسين" لمقصده ورام بالصمت احتراما لرغبته .
وما ان عاد من صلاة الجماعة بالمسجد ؛ حتى راح يخط رسالته لأخيه ؛ والتي يدعوه فيها لزيارته بأقرب وقت ؛ وأعلن فيها مسامحته له على ما فعله في الماضي ؛ وشوقه لرؤية أخيه وابنه وشكر زوجته على جهدها بتغيره ؛ وختم رسالته بقوله ( أيها المشاكس ؛ لن تتغير أبدا !!!) ووضعها بعد دقائق بصندوق البريد الخاص بالقرية ؛ وعاد أدراجه وقد شغل نفسه بحمد الله على نعمته الكبيرة هذه .

وفي مساء قريب ؛ قابل "عباس" أصدقاء دربه في مكانهم المعروف بعد استدعاءه بصورة عاجلة . وبدأ "عبدالله" في الكلام وقد قرب قدح الشاي منه مخاطبا اياهم بصورة جماعية ( قد تتفاجئون بما سأقوله لكم ؛ فأنا نفسي لم أصدق ما قيل لي !! المهم ؛ لن أطيل عليكم .. لقد عرض علينا عرض مغري بالمساعدة المادية والمعنوية مقابل الاتحاد معنا والمشاركة بوضع خططنا وتطوير تحركاتنا ؛ طبعا الرأي يعود اليكم ) وما ان صمت "عبدالله" حتى تعالت التعليقات والمشاورات ؛ واستفسر "يوسف" قائلا ( هل لنا أن نعرف من تكون هذه الجماعة ؟؟) ابتسم "عبدالله" ابتسامة جانبية غريبة قبل أن يقول متفرسا في الوجوه المقابلة له ( جماعة نسائية !!!) عمت الضجة بالمكان؛ وتعالت الأصوات ( نسائية ؟؟؟) هدأهم "عباس" ( هدوء من فضلكم !! أؤكد لكم انني أنا نفسي قد قابلت احدى هذه الجماعات. النساء لهن الحق مثلنا تماما بالجهاد ؛ هذا ليس بغريب ؛ المهم أن نتخذ قرارا سريعا بشأن هذا العرض) بدى الاحتجاج واضحا عبر نظراتهم المستنكرة ؛ فسارع "عبدالله" في شرح الموقف مبديا رأيه ( لا تتسرعوا لكونهن نساء ؛ لقد تعرفت على بعض خططهم الجهادية فتملكني الذهول لعمق الذكاء الذي لمسته فيهن) تابع "عباس" بتأييد وحماس قائلا ( أنا لا أتكلم عن نفسي ؛ ولكنكم تعرفون ان لكل منا مشاغله وموارده المحدودة؛ نحن بحاجة حقا الى مساعدة ؛ والزمن الجاهلي الذي توأد فيه البنت ما ان تولد قد ولى الآن ؛ والفضل يعود طبعا لديننا الاسلامي الحنيف الذي يساوي بين الذكر والأنثى ؛ ويحترم حقوق كل منهما ؛ ألستم معي؟؟) تعالت الأصوات هنا وهناك :
(بلى ) ... ( معك حق يا "عباس" ! )....( نحن موافقون !! ) وبعد قرارات واحتياطات كثيرة ؛ أجمع الكل على الاستعداد لخوض هذه التجربة الفريدة ؛ وتوكلو على الله ؛ وتحولت جلستهم بعد لحظات لجلسة ودية تبادلوا فيها أخبار القرية وتطورات الوضع الاجتماعي؛ وكذلك تطورات حياتهم الشخصية وأخبار الدراسة ؛ حتى قاطعهم فجأة صوت قرع الباب ؛ فتسمروا في مكانهم ؛ وتطلعوا ل "عبدالله" في وجل ونظرات تقول )أنقذنا !!!) هدأهم "عبدالله" بحركة من يده ؛ وأمرهم بالتزام الصمت ؛ ومن ثم أجاب الطارق بنبرة هادئة ( من بالباب؟) أجابه صوت نسائي قائلا بشيْ من الخبث ( أنا ؛ افتح لا تخف !!) تعجب الكل حين قام "عبدالله" بفتح الباب ما ان سمع صوت الزائرة وبهذه السهولة ؟؟ ألقت السلام؛ فرد الجميع بصوت خجل ؛ بعدها ناولت "عبدالله" صينية مليئة بأكواب من العصير هامسة في لطف (بمناسبة التوحد!!) وانصرفت ونظرات الاستفسار تشير ل "عبدالله" في الحاح.. أقفل الباب من ورائها وقد غالبه الضحك ؛ وناول كل رجل كوبه وقد هم بتعريف الزائرة اللطيفة (انها أختي "زهراء" ؛ قائدة زميلاتنا !! عذرا ؛ انها جريئة بعض الشيْ !!(
ضحكوا جميعا بقوة على ما فعلت؛ وعلق "حسين" وهو يحاول السيطرة على نفسه ( بعض الشيْ ؟؟؟ لقد كانت تتنصت علينا من وراء الباب!!) ازدادت ضحكاتهم قوة لتعليق "حسين" بما فيهم "عبدالله "؛ ومن ثم تابع "يوسف" مكملا التعليق على تصرفها (والأدهى والأمر انها جهّزت العصير مسبقا ؛ وكأنها واثقة بأن النتيجة ستكون في صالحها !!) صرخ "لؤي" وقد أتعبه الضحك ممسكا بموقع قلبه ( كفى ؛ كفى ؛ سأموت !!) أيده "عباس" (نعم أرجوكم ؛ سنهلك ضحكا !!!(........

وبعد دقائق ؛ انصرف كل الى شأنه ؛ وعاد "عباس" أدراجه وقد طارت به الأحلام بعيدا ..بعيدا جدا.. الى اليوم الذي يتحقق به النصر الكامل ؛ ويعود فيه جميع الأسارى والمبعدين ؛ وهتف "عباس" بأمل : ( ألا ان النصر لقريب !!(....
استيقظ في اليوم التالي بنشاط ليذهب الى جامعته ؛ استحم ونظف أسنانه كالمعتاد وأسرع في تصفيف شعره مغادرا حيث منزل صديق دربه "حسين" الذي أسرع بالخروج ما ان سمع بوق سيارته وقد امتلىْ فمه بالطعام ؛ فما كانت والدته لتتركه يخرج البتة الا اذا تناول ولو شيئا بسيطا. تذكر عندها والدته التي لم ينسها بلحظة من اللحظات وهي تقول اليه مشجعة بصوتها الحنون ( نعم؛ هكذا يا بنيّ ؛ كل لتقوى عظامك ) تنهد بعمق ؛ ولم ينتبه لصديقه الذي قبع بجواره بعد ان ألقى السلام ؛ فصاح فيه متعجبا ( هييييه !! نحن هنا !!!( تطلع اليه بنظرة جانبية وقد فهم انه يضن الآن انه كان يفكر ب "منال" ؛ فشغل المحرك وهو يقول ليدحض ضنونه ( تذكرت أمي !!) انطفأت الابتسامة من فم "حسين" عندما سمع ما قاله صديقه الحميم ؛ وأسرع في تغير الجو مازحا ومشجعا بذات الوقت (غدا تكون عندك من تعتبرها أمك وأختك وزوجتك) ابتسم "عباس" ساخرا (من؟ "منال" ؟؟ لا أشك لدقيقة بأنها ستكرهني كل الكره حين تعلم بكل شيْ ؛ وستصرخ في وجهي بكل قوتها انها لن تتزوج مراوغ كاذب مثلي !!) عارضه "حسين" بمنتهى الحماس (لا تقل هذا يا "عباس"!! أنت راوغتها لتحمي نفسك؛ لقد حاصرتك الشكوك أكثر من مرة وكدت تسجن والله يعلم الى متى ان وجدوا ما يدينونك به ؛ مع انهم لا يعترفون حتى بالأدلة !! كن عاقلا ؛ أؤكد لك ان "منال" ستكون متفهمة ؛ خاصة بعد ان تعلم بأن "عبدالله" الفتى الشجاع الذي أنقذها أكثر من مرة هو ذاته "عباس" صديق طفولتها .. سترى ؛ ستكون بقمة السعادة ..اووووه !!أترى ؟! أنا مضطر لاخبارك بالمفاجئة التي أعددتها لك حتى لا تكّشر هكذا في وجهي منذ الصباح!!) استعجله "عباس" بفضول ذكّره بفضول ابنة خاله ( ماذا هناك ؟! قل بسرعة !!) ضحك "حسين" بقوة وقال معلقا ( هل أصبت بعدوى الفضول ؟! حسنا.. "منال" أضحت احدى زميلاتنا بالمجموعة النسائية!!) أوقف "عباس" السيارة بشكل مفاجىْ صرخ "حسين" على أثره صرخة مندهشة وهو يرتطم بظهر مقعده؛ وصاح بعدها غاضبا وهو يغادر السيارة على الفور متوجها لكليته التي _ لحسن حظه _ كانا قريبين منها نوعا ما (لقد أثر الحب على عقلك يا رجل ! لن أركب معك ثانية أيها المجنون ! أفضل استقلال الحافلة!!) أسرع "عباس" في اللحاق به ؛ وشده من يده معتذرا وهو يحاول السيطرة على ضحكه القوي (آسف ؛ لقد فاجئتني) ابتسم "حسين" بسمة المنتصر ؛ فأدرك "عباس" ان غضبه لم يكن الا زائفا ؛ فراح يضربه مازحا لعدة مرات ( أيها المخادع ! سأوسعك ضربا !!(تدّخل صوت غريب فجأة في جوهما المازح قائلا بلهجة معاتبة (ليس بأكثر منك خداعا"!!) استدارا هما الاثنان للخلف في عجب ؛ فأبصرا صديقهما "أسامة" الذي ما لبث ان انظم اليهما متابعا حديثه الموجه ل "عباس" (لقد وعدتني بزيارتي يا رجل ؛ هل تذكر أم انك نسيت؟؟) أجابه "عباس" بلهجة لطيفة معتذرة تبين مكانته في قلبه وهو يضمه بذراع و "حسين" بالذراع الأخرى (أنا جد آسف يا "أسامة" ؛ تعرف مشاغل الحياة ؛ ولكنني بالطبع سأتفرغ عما قريب ؛ أعدك) ابتسم "أسامة" بسعادة قبل أن يقول بمنتهى الاصرار قاصدا كليهما ( ستعدني حتما بالقدوم أنت و"حسين" وباقي الشلة عما قريب ؛ فقد أعددت لكم وليمة لا بأس بها بمناسبة عودتي سالما اليكم) ضحكا "عباس" و "حسين" بقوة على كلمة "وليمة" ومن ثم قال "حسين" مؤكدا في لطف وحب كبير (بالطبع سنحظر؛ فأنت تعرف معزتك لدينا جيدا.. سأخبر الباقين وسنحدد موعدا مناسبا لكل منا ؛ وبعدها سننبأك بما يجد) شكرهم "أسامة" وهو يسرع مبتعدا باتجاه قاعته (شكرا لكما ؛ في أمان الله ) .. (في أمان الله (
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
ودخلا بعدها القاعة التي اكتضت بوجوه جديدة _ فتيات وصبية _ والتي ستكون القاعة المخصصة لمحاظرة الدكتور "ميثم" من اليوم وصاعدا. احتل "عباس" مقعده بجوار رفيقه منتظرا دخول الدكتور؛ والتي كانت هذه المحاظرة أولى محاظراته ؛ متفرسا في الوجوه الصبيانية المجاورة بعين متفحصة ؛ فمنهم من يحدق في احدى الفتيات ؛ ومنهم من يعدّل من هندامه الأنيق وقصته العصرية لألا يصيبها أدنى خلل يشوه مديلها ! ومنهم من جهّز كشكوله لاستقبال فيض من المعلومات المهمة دون أدنى اهتمام بمن حوله !!
أيقضه "حسين" من تأملاته صارخا فيه بصوت منخفض خشية أن يسمعه أحد وقد أمسك بيد رفيقه مثبتا اياه بمقعده خوفا من أن تصدر عنه أدنى حركة تؤدي الى احراجه ("عباس" ؛ انظر لجهة اليمين! أليست هذه "زهراء" أخت "عبدالله"؟؟) استدار "عباس" وتطلع ببرود الى الفتاة المعنية قبل أن يعود برأسه مؤكدا بعدم اكتراث ( بلى ؛ أضن ذلك ) أسرع "حسين" بالقول باصرار (بل انها هي حتما !!) نهره "عباس" بعنف ( كف عن التطلع الى الفتيات ! ما بك ؟؟ لست هكذا أبدا!!) أنزل "حسين" رأسه في خجل لتصرفه هذا؛ ولاذ بالصمت _ كما فعل جميع من بالقاعة _ بعد حظور الدكتور الذي كانت محاظرته مفيدة للغاية. وبعد خروجهما ؛ همس "حسين" ل "عباس" غامزا اياه بكتفه ليجذب انتباهه لما سيقول (انظر الفتاة القادمة للقاء "زهراء" !!( أنبه "عباس" بنفاد صبر وبنبرة مندهشة (ما بك ؟؟ ما لنا ومال "زهر..." ) ولم يكمل عندما لمحت عيناه الفتاة القادمة التي لم تكن سوى ابنة خاله "منال" !!!!!!!!!!!!!



الفصل الرابع
استفاق "عباس" في الصباح الباكر على صوت قرع الباب ؛ فعدّل من هندامه وغسّل وجهه على عجل قائلا ليمهل الزائر الذي يبدو متعجلا ( دقيقة واحدة !) وسارع بعدها بفتح الباب ؛ فتسمر في مكانه من هول الصدمة لرؤية الزائر الذي سارع في احتضانه بقوة صائحا ( لقد اشتقت لك كثيرا "عباس" !!) تمتم وقد هاله الموقف وانحدرت دموعه رغما عنه ( وأنا أيظا ؛ كيف حالك؟؟) تمتم "جاسم" بصوت يغالب البكاء ( بخير ؛ المهم أنت ؛ ما هي أخبارك وكيف تعيش؟؟) قاده "عباس" لأريكة جانبية ؛ وأجلسه الى جواره وقد ضمه بذراع دون ذراع قائلا بشيْ من الحزن ( الحمد لله ؛ أموري متيسرة ) وأضاف وقد نهض متوجها الى المطبخ القريب بهدف اعداد الشاي ( أذهب للجامعة نهارا ؛ وأرجع لتقمص دور الشاب الأحمق ؛ وبعدها أذهب للورشة مع "حسين" ؛ وأعود لدور الأحمق ليلا ؛ هذه طريقة عيشي بالتفصيل!! ) تبعه "جاسم" واقفا عند المدخل وقد علت وجهه علامات القلق الشديد (وهل ستبقى هكذا دائما ؟؟ لابد أن تتزوج ؛ "منال" لن ترضى بك وأنت على هذه الحال (ألجمه الألم لذكر "منال" لفترة قال بعدها وهو يعود مع أخيه الى الأريكة وقد حمل صينية الشاي ووضعها على الطاولة الصغيرة المقابلة لهما ( في كل الأحوال لا أضنها ستقبل بي؛ لن تراني الا كاذبا) ربت "جاسم" على رجله بحنان؛ وقال بعدها مشجعا (كن شجاعا يا "عباس" ؛ ولا تسمح لليأس بدخول فؤادك أبدا .. اخطبها ؛ قد تقبل !!(
تفاجىْ "عباس" بهذا الاقتراح الغريب وصاح مستنكرا ( أخطبها ؟؟ ماذا تقول يا "جاسم" ؟؟ لا أقدر على البوح بالحقيقة الآن !لا أقدر!!( عارضه "جاسم" بلهجة لا تخلو من الرقة و العطف وقد بدى ان السنون قد تركت بصمتها عليه بشكل واضح من خلال أسلوبه وطريقة كلامه ( من قال لك أخبرها ؟ قلت لك يا رجل "اخطبها"!!.. لاتهتم ؛ أنا سأتكفل بهذا) صاح "عباس" معترضا وقال برجاء ( لا ؛ أرجوك ؛ انه ليس بالوقت المناسب) أصر "جاسم" على موقفه مؤنبا توأمه ( ومتى هو الوقت المناسب ؟ لا تقل لي بعد ان تتحقق مطالبنا وتعطينا الحكومة البرلمان !! أنت لا تعلم متى يحدث ذلك تحديدا ؛ ستضل عازبا لمدة لا تعلمها ؟! ستتزوج "منال" خلالها على أغلب ضن!!) أدرك "جاسم" انه قد لامس الوتر الحساس لدى "عباس" ؛ فراح يستطرد حديثه بحماس ( ما تفعله بنفسك يدمرها لا يحميها لو أمعنت النظر؛ سأخطبها لك ولن أقبل بأية أعذار) وقاطع حينئذ صوت الجرس حديثهما ؛ فتطلع "عباس" في أخيه متعجبا؛ فما كان من "جاسم" الا أن يصيح وقد نهض من موقعه متوجها لفتح الباب ( ادخلي "عفاف ") دخلت امرأة متحجبة للمنزل على استحياء وقد حملت طفل صغير بين ذراعيها . ألقت السلام على "عباس" وقد بدت مندهشة للغاية ( كيف حالك يا "عباس" ؟! انكما متشابهان الى حد كبير !!) رد "عباس" تحيتها وقد أدرك انها ليست سوى زوجة أخيه التي كان متشوقا لرؤيتها هي والطفل (بخير؛ انك محقة يا زوجة أخي؛ تفضلي بالجلوس !) جلست بهدوء على مقربة من زوجها ؛ بينما احتل "عباس" الأريكة الصغيرة المقابلة لهما وقد ابتدر الحديث ) يالني من عم محظوظ! انه طفل جميل للغاية !!) ناوله "جاسم" اياه في حذر وسعادة غامرة وحب أبوي واضح دون أن ينبس بشيْ ؛ فراح "عباس" يقبله بمنتهى الحنان متمتما ( انه يشبهك كثيرا) !مازحه "جاسم" ( بل أضنني سميته بأسمك لأنه يشبهك أنت!!) تطلع "عباس" لتوأمه بعدم تصديق؛ وطفرت منه دموع السعادة الجمة وهو يستعلم بتعجب وامتنان كبير )سميته "عباس" ؟؟ يال طيب قلبك يا "جاسم" !!) شاكسه "جاسم" ( واذا رزقت ببنتا ان شاء الله سأسميها "منال" ؛ ما رأيك ؟!!) تورد خد "عباس" خجلا ؛ فأسرع "جاسم" بالقول (لا تخجل من "عفاف" ؛ فانني لا أخفي عنها شيئا ؛ وهي بمثابة أختك ..) أيدته "عفاف" بحماس وطيب واضح (بالطبع ! أرجو أن تدرك هذا يا "عباس" ؛ ولا تتردد بطلب ما تشاء مني ان احتجت الى شيْ ما ؛ ومن الآن وصاعدا يجب أن تزورنا بانتظام ؛ فأنت لا تعلم كم ان "جاسم" متشوقا لهذا) أيد "جاسم" حديثها وقد أشرق وجهه سرورا ( معك حق يا "عفاف" ؛ كم انني متشوق للم شملنا من جديد!) وافقه "عباس" (وأنا أيظا يا أخي (...
وغادر "جاسم" بعدها هو وعائلته ؛ بعد ان انتزعا منه وعدا بالحظور الى منزلهم بشكل مستمر ؛ وبعد ان أعطوه رقم هاتفهم. وما ان انصرفوا؛ حتى تعالى صوت الهاتف القابع بقرب الكنبة ؛ فانتشله "عباس" الذي تفاجىْ بصوت "حسين" على الطرف الآخر ("عباس"؛ لقد اتفقنا أنا و الرفاق على الذهاب الليلة "لأسامة" ؛ ما رأيك ؟ (حاول "عباس" جمع شتات أفكاره ؛ ومن ثم قال موافقا ( الليلة ؟ حسنا..( أكد "حسين" عليه ( لا تنسى أن تمر عليّ بطريقك !) مازحه "عباس" ( من قال لك انني نقل عام ؟؟) ضحك "حسين" بقوة وصاح بعدها وهو يحاول أن يهدأ بكل وسيلة ممكنة (ما هذه الظرافة المفاجئة ؟!) رد "عباس" بطريقة يهدف فيها الى اعلامه ( ربما أصابتني العدوى من "جاسم"!) استفسر "حسين" باهتمام بالغ ( هل زارك ؟؟) أجاب "عباس" بسعادة واضحة عبر نبرات صوته ( منذ قليل؛ أتى هو وزوجته وأبنه ) ردد "حسين" براحة ( الحمد لله ؛ أخيرا تحقق حلمك وتاب "جاسم" !) واستطرد وهو يستعد لاقفال الخط مؤكدا على رفيقه (الليلة في الثامنة ؛ لا تنس !) أكد "عباس" ( ان شاء الله ) وانصرف بعدها لأداء صلاة الظهر في المسجد القريب ؛ ومن ثم لمذاكرة دروسه . وبعد مرور بضع ساعات ؛ تناهى الى مسمعه فوضوية ابنة خاله الصغرى "زينب" وهي تدخل الى المنزل .. ابتسم بسعادة لقدومها ؛ وسرعان ما دخلت عليه صائحة دون أن تطرق الباب ("عباس" ؛ تقول لك أمي أسرع في المجيْ؛ فالكل في انتظارك) رمى "عباس" بالقلم جانبا ؛ وسارع في حملها بين ذراعيه بدلال قائلا بطفولية ليقلد صوتها (حسنا يا عروستي ؛ ها أنذا قادم!) نهرته الطفلة (لا تنادني بعروستك!!) استفسر "عباس" بلطف ليجاريها ( لماذا يا "زينب" ؟؟) صاحت فيه بطفولية وعناد ( لأنك أخبرتني ان "منال" هي عروستك؛ ألا تذكر ؟؟) ضحك "عباس" بقوة وأيدها بحنان كبير مربتا على شعرها البني الحريري ( بلى أذكر جيدا ؛ ولهذا سأناديك ب "حبيبتي" من الآن وصاعدا؛ ما رأيك ؟!) اندفعت لداخل منزلها وصاحت بصوت عالي غاضبة (حبيبتك "منال" ؛ أنت تخدعني ؛ فأمي أخبرتني ان العروسة هي الحبيبة !!) أحرج "عباس" وتوردا خديه خجلا لما قالته بصوت عال تناهى لمسمع الحظور الذين كانوا قد تجمعوا على المائدة بانتظار قدومهما. ضحك كل من خاله وزوجته على هذا التصريح؛ بينما تطلعت "منال" الى "عباس" في ذهول وقد ذابت حياءا بمقعدها!! حاولت نهر اختها الصغرى كعادتها عندما تتفوه بمثل هذه الأمور ؛ فصاحت فيها بنبرة خجلة لم تستطع السيطرة عليها (تأدبي يا "زينب" !! هذا الكلام لا يصح أن يقال ) وأكثر ما تعجب له "عباس" في تأنيبها هذا؛ هو أنها لم توجه له أي تقريع بدوره كما كانت طبيعتها دائما .. أسرع خاله في تحيته داعيا اياه ليجلس بجواره بحركة من يده ( أهلا "عباس" ! تعال واجلس بقربي هنا) أسرع في احتلال المقعد بجواره وهو يحاول صرف أفكاره الغريبة بتناول غذاءه .
ابتدر "عباس" الحديث بعد انتهاءهم من تناول الطعام قائلا لخاله ( خالي.. خالي.. لقد أتى "جاسم" اليوم لزيارتي؛ وبعدها أتت زوجته برفقة أبنه؛ ليتك تراه يا خالي ؛ انه بغاية الجمال !!) استفسر خاله باهتمام بالغ ( أحقا ؟! أكان يشبهه أم يشبه زوجته؟!) تحامق "عباس" (لا ؛ انه لا يشبهما أبدا!) كشّر خاله في عجب وحاول الاستفهام (هل يشبه أختي رحمها الله أو أحد الأشخاص بعائلة والدته؟؟) ضحك "عباس" عندها واستدار ل "منال" المشغولة بغسل الأطباق برفقة والدتها بالمطبخ المفتوح (بل انه يشبهني واسمه اسمي !) صاح خاله باهتمام شديد ( أحقا؟؟ هل أسماه "عباس" ؟؟ نعم الأسم !!) وفي غمرة التعليقات التي انهالت متواصلة على "عباس" ؛ نطقت "منال" مقاطعة لها بشكل مفاجىْ وقد تقدمت لتقف عند باب المطبخ ويدها اليسرى صارت بخصرها (هل لي بتعليق؟؟) التفت الكل اليها بانتظار ما ستقول _ بما فيهم "عباس"_ الذي تسارعت دقات قلبه توترا ؛ فهتفت وقد علت وجهها ابتسامة خبيثة مازحة ونظراتها تتفرس بكل الوجوه المنتظرة (أحسن "جاسم" صنعا !!!(...
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
وفي المساء؛ استعد للخروج وارتدى أفضل ما لديه من الثياب وتعطر بأفضل العطور تيمنا باستحسان الرسول (ص) لهذا العمل ؛ ومن ثم غادر منزله متوجها لمنزل "حسين" ؛ وكان الأخير قد وقف بانتظاره خارجا مثرثرا مع أحد المارة . دخل الى جوار رفيقه وحياه ؛ فرد التحية بأحسن منها ؛ فابتدر "حسين" الحديث بملامح منبسطة مسترخية ( أشعر اليوم بشيْ من التفاؤل ) أيده "عباس" ( وأنا أيظا) خمن "حسين" ( يبدو لي ان هناك أمرا ما سيحدث.. أمرا جميلا.. أتضن انه يوم النصر؟!) شجعه "عباس" ( ولما لا ؟؟) تنهد "حسين" بألم وتمني وصاح فجأة ( الله كريم لا يبخل !!) وبعد فترة ؛ استقرت سيارة "عباس" بقرب بيت "أسامة" ؛ وما لبثا ان اتخذا مجلسهما بجواره بعد ترحيب كبير من قبله هو وأسرته . وتجمع الرفاق تدريجيا ؛ وما ان اكتمل العدد حتى شرعوا في تناول وجبة العشاء وقد عم الصخب والمرح فيما بينهم ؛ وكان موضوع "الحرية" و "البرلمان" المرتقب هو من أكثر المواضيع تداولا ومناقشة .. وبعد الانتهاء من الطعام ؛ وانصراف الرفاق ؛ تهيآ _ كل من "عباس" و "حسين" _ للمغادرة بدورهما ؛ لولا أن استوقفهما "أسامة" في تردد وخجل قائلا (مهلا "حسين" .. هل تسمح لي ببضع دقائق اضافية من وقتك؟؟) أجاب "حسين" بعجب وبنبرة مازحة غامزا اياه بكتفه (ما هذه اللهجة الؤدبة المفاجئة ؟! أكيد تريد الاستدانة مني ! ليس لدي نقود !!) ضحك "عباس" بقوة بينما تورد خد "أسامة" حياءا.. تلعثم وقال أخيرا وهو يشير بيده داعيا اياهم للجلوس مجددا (أنا .. في الحقيقة...) وأغمض عينيه وصاح باندفاع ( أريد خطبة أختك "جنان" (!! وفتحهما بعدها بتخوف فأبصر وجوه منذهلة تنظر اليه في تساؤل وقد هالتها المفاجئة .وفر "حسين" عليه الاحراج بعد برهة قائلا في لطف وقد بانت ابتسامة رقيقة على شفتيه (لما كل هذا الخجل والتردد ؟؟ ألف مبروك مقدما !!) نهض "أسامة" بفرح جم وانقض على "حسين" محتضنا اياه ومقبلا له بقوة ؛ فأبعده الأخير مازحا ( أيها المجنون !! انتظر موافقتها أولا!!) علق "عباس" وهو يهم باحتضان "أسامة" فرحا ( ان شاء الله ستوافق ! أتجد أفضل من "أسامة" ؟! يكفيها انه متخرج من أفضل المباني الحكومية وحائز على الدكتوراه لأحسن سجين بالدولة !!) هلك كل من "أسامة" و"حسين" ضحكا؛ وانصرف "عباس" ورفيقه بعدها بعد ان حددا موعدا لزيارة "أسامة" ووالدته لأجل الخطبة. وفي طريق العودة ؛ همس "حسين" بشكل مفاجىْ ("عباس" ؛ هل كان من المفترض أن أخبره بما جرى سابقا بينها وبين "جاسم"؟!) تطلع "عباس" اليه مندهشا ؛ وصاح بحماس معبرا عن رأيه (بالطبع لا !! لو فعلت لقتلتك !! ربنا يأمر بالستر وأنت تفضح الفتاة التي هي أختك يا رجل ؟؟! لا تقل ان هذا خداع!! ما حدث كان تجربة لو قيلت لأنهت علاقة شريفة من يدري لأي درجة سيكون نجاحها مستقبلا .. "أسامة" يجب أن لا يعلم بهذا لا الآن ولا بعد الزواج؛ لأن ذلك سيفسد حياته ويحول سعادته لشك لا داعيّ له؛ فالرجل تزوج ؛ والفتاة ستتزوج ان شاء الله ؛ فلم نقتل سعادتهما قبل أن تولد ؟!!) أومأ "حسين" برأسه مؤيدا في خجل ؛ وانحدرت دمعة من مقلتيه على حين غرة؛ لمحها "عباس" وهو يوقف السيارة بجوار منزله ؛ فاستوقفه قبل أن يدخل واحتضنه بمنتهى الحب العميق وصاح فيه (ألف مبروك مقدما !! ولا تنس أن توصل تهانيّ الحارة لأختي "جنان" ؛ فهي ليست أختك فقط ؛ لا تكن أنانيا!!) ابتسم "حسين" (بل انها أختك حقا ؛ ولا تنعتك الا بأخيها ؛ شكرا لك يا "عباس" ؛ شكرا على كل شيْ !!) وخزه "عباس" فرحا (انه يوم النصر الأصغر !!!(.....................

انصرف "عباس" صباح الأثنين الى جامعته منفردا ؛ فقد اضطر "حسين" للتغيب نتيجة لكثرة الأعمال المتعلقة بحفل أخته القريب.. وما ان انتهت محاضرته الأولى حتى انصرف برفقة "يوسف" للكفتيريا كي يتناول شيئا بسيطا من الطعام قبل بدء محاضرته الثانية. وما ان وقف يطلب العصير وسندويشات الجبن حتى وقفت فتاة على مسافة منه طالبة مشروبا غازيا. لم يكن ليهمه أمرها لولا انها كانت تحدق بوجهه بتفحص وروية؛ حتى ان "يوسف" لفت نظره الى ذلك ؛ فاستدار "عباس" باتجاهها ليدرك كارها انها ليست سوى "منال" !!
بادلها النظرات بارتباك كي يدرك موقفها ومن تضنه؛ فهاله انها ابتسمت بخفة واستدارت لصديقاتها تحادثهن .. صاح "يوسف" فيه (انها "منال" أليس كذلك ؟؟) أجابه توترا وهو يهم بالانصراف ساحبا اياه من يده لخارج الكفتيريا ( بلى .. يا الهي ! ما الذي أفعله ؟؟( استفسر رفيقه ( ألا زالت تضنك "جاسم" ؟) أمسك "عباس" بموضع قلبه وقال لاهثا وقد جلسا بجوار القاعة ( لا أعلم ! يبدو لي وكأنها عرفت كل شيْ ! ألا ترى نظراتها ؟! انها تنظر اليّ بمنتهى السخرية والاحتقار!!) هدأه "يوسف" بلهجة أخوية مربتا على ذراعه (أنت تتوهم ذلك فقط..) تمتم بدوره ( أتمنى ذلك) !!وغيّر الموضوع مباشرة متحدثا عن عرس "أسامة" ؛ فجاراه "يوسف" بنفس راضية بالتحدث بموضوع الساعة الذي يشغل مجموعتهما الثورية بهذه الحقبة من الزمان ؛ وما لبثا بعد مدة ؛ ان انضما لمحاضرة الدكتور "ميثم" متخذين مقاعد متجاورة. تشتت أفكار "عباس" رغما عنه في كل ما يدور من حوله من أحداث .. "منال" .. "حسين".."أسامة" و "جنان"... "جاسم" وعائلته الرائعة.. الأوضاع السياسية التي عادت للهدوء من جديد... كل هذا لا يدعوه الا لشكر الله والثناء عليه!!
عندما عاد بذهنه للمحاضرة كان الدكتور قد لملم كتبه وكشاكيله وهم بالانصراف !!! شعر بتأنيب الضميرلأنه أهدر وقته سدى ؛ وراح يستغفر الله بصوت خافت انتبه له "يوسف" فسأله بتعجب (هل من خطب ؟؟) أومأ برأسه نفيا دون أن يرفع عينيه العسلية ( لا شيْ ؛فقط سرحت قليلا؛ الأحداث تتزاحم في ذهني) ابتسم "يوسف" بخبث ؛ وقال بلهجة ذات مغزى ( لا عليك ؛ توكل على الله !) تمتم وهو يهم بالمغادرة (ونعم بال....) ولم يكمل عبارته حين تنبه لغمزات تدور من حوله. كانت فتاة برفقة "زهراء" تعلق بصوت شبه عالي وبشيْ من الامبالاة وبصيغة تفتقر للحياء (أين روميو الذي لم يحرك عينيه عنك بالمحاضرة السابقة ؟؟ يبدو انه متغيب اليوم !!(
نهرتها "زهراء" بصوت منخفض وفي شيْ من الحزم والغضب (هذا الكلام لا يصح أن يقال يا "أسماء" !! لا تفسري تصرفات الناس على هواك !! ان بعض الضن اثم ...) رمقتها المدعوة "أسماء" بعدم اكتراث وعلقت بسخرية قبل أن تنصرف عنها بتكبر شديد (ها ! لا تنطق كلمة الا وتعقبها بآية! وكأنها الشيخ في الأزهر !!( استقبلت "زهراء" ما قالت زميلتها بهدوء وروية ؛ ودعت لها بالهداية.
تأكد "عباس" بحدسه ان المعني بهذه المشادة ليس سوى رفيق دربه "حسين" ؛ فما من أحد سواه متغيب اليوم ؛ ثم انه كان يحدق فعلا ب "زهراء" في المحاضرة السابقة لدكتور "ميثم"؛ وعزم على اخطاره وتقريعه بعنف على ما تسبب به . وبعد هذا القرار ؛ تناول يد "يوسف" الذي لم يفقه لحسن الحظ لما يجري؛ وانصرف برفقته لخارج الكلية وقد أحس بشيْ من التوتر حينما لمح خيال ابنة خاله وهي قادمة من بعيد للقاء صديقتها كالمعتاد.
توقع "عباس" كل شيْ الا النبأ المفجع الذي تلقاه حال عودته من الجامعة... دارت رأسه كدوران الرحى ؛ وتجمعت الغيوم الضبابية حول عينيه الحزينتين ؛ وراحت الأفكار تضطرم في مخيلته المتعبة... يال هذه الأقدار الغريبة !! تهدم سعادة الانسان بليلة وضحاها وكأن شيئا لم يكن..نعم ؛ هذه هي الحقيقة التي استقبلها بنفس متأوهه متألمة تمزقها سياط الحسرة والحنين.. وليس هو فقط ؛ بل "أسامة" و "جنان" وعائلة "حسين" بأجمعها ؛ انها حقيقة فقد "حسين" !!!

تجاهل موعد الغداء بمنزل خاله على غير العادة ؛ ولم تكن "زينب" بأثره ؛ فقد أدركت عائلته على ما يبدو ما يواجهه الآن من لحظات عصيبة وتأثرات مأساوية.. التقى "عبدالله" في الطريق بينما هو يسير في الطرقات على غير هدى" وقد تجمعت مشاعره وخارت قواه؛ فأمسك الأخير بيده في بؤس وقاده الى منزله القريب حيث تجمع بقية الرفاق في مجلس يسوده الاكتئاب. وما ان دخل برفقة "عبدالله" ؛ حتى انصبت عليه نظراتهم في تأثر كبير؛ لعلمهم بمدى عمق العلاقة التي تربطه ب "حسين"؛ وبمدى الوقع المنتظر لمثل هذا الأمر على حاله.. وجلس "عباس" بانزواء باحدى الزوايا دون أن ينبس ببنت شفة ؛ فعم الصمت احتراما لموقفه ؛ حتى تكلم بعد مدة بما يشبه التمتمات وقد خنقته العبرة المكتومة بأعماقه (متى؟؟) أسرع "عبدالله" في الرد ( ظهر اليوم) تمتم ثانية (لماذا ؟؟؟( رد "أسامة" الذي كان في شبه انهيار وبكثير من الغضب الذي لم يكن شيء ليردعه بتلك اللحظات ( لأنهم أوغاد !! لا تنتظر مبررا لتصرفاتهم؛ فهم وحوش بشرية تأكل متى أحبت أن تفعل ذلك !!!) وتنهد وقد وضع رأسه بين ركبتيه ؛ وتابع في حزن مؤثر (ان أكثر ما ينغص عيشي حال تلك المسكينة التي أبو الا أن يسلبوها فرحتها المنتظرة؛ فتحولت من من عروس مبتهجة الى أخت ثاكلة لا تتوقف دقيقة عن البكاء .. لقد سلبونا صديقا وأخا ؛ سلبونا فرحتنا يا "عباس" !!! (أجهش "عباس" بالبكاء بصورة مفاجئة ؛ فتجمعوا من حوله في شبه دائرة وقد هالهم موقفه؛ فهذه هي المرة الأولى التي يبكي فيها أو يفقد أعصابه بهذه الصورة... ساد صمت ثقيل قطعه وهو ينهض متثاقلا الى الباب (أراكم باذن الله !!) وخرج من مجلس الرجال ليصدم برؤية "زهراء" وقد همت بالخروج مرتدية عباءتها وخمارها الأسود. ألقى عليها نظرة ذات مغزى عميق؛ وغادر متوجها لمنزل صديقه بنفس أنهكها الحزن والأسى؛ حيث استقبله"أبو حسين" في أسى لا يقل عن أساه قائلا وهو يفسح له الطريق ليدخل الى المجلس المجاور للباب الرئيسي ( تفضل؛ تفضل يا بنيّ !( جلس بجوار "أباحسين" متكئا على احدى المساند بجلسته العربية ؛ ودون أن ينبس؛ ابتدره الأخير بالقول بلهجة أبوية حانية ( لا تحزن يا "عباس" ؛ باذن الله سيفرج عنه؛ أنا من جهتي لن أصمت ؛ سأ قوّم الدنيا وأقعدها حتى يخرج سالما باذن الله) ..أيده "عباس" في غضب جم ( كلنا لن نسكت يا عمي ؛ سنملأ الدنيا احتجاجا حتى يفرج عنه وعن جميع المعتقلين الذين لم يكن لهم ذنب سوى كلمة حق تفوهوا بها أو خطوها على احدى المنازل) ونهض فجأة وقد تناهت لمسامعه صرخات "جنان" ووالدتها هاتفا بمنتهى الاصرار والتحدي مغادرا (أعدك يا عمي بأن دموع نساءنا وصرخات أطفالنا لن تمر كمر السحاب ؛ أعدك !!( .......
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
رجع "عباس" الى منزله بقلب محروق ودموع حارة تجري على خديه دون توقف. قبل دقائق كان فرحا بالهدوء السياسي المزعوم ؛ وهاهو ذا يدرك انه كان الهدوء الذي يسبق العاصفة . ويالها من عاصفة !! انها عاصفة هوجاء اقتلعت مشاعره من الأعماق ؛ وغدى كمن يهوي في منحدر سحيق ليس له قرار أو نهاية .. رمى بجسده المنهك على سريره المتواضع وراح يسترجع ذكرى الأيام الخوالي التي جمعته ب "حسين" ؛ فتذكره وهو يقول (الله كريم لا يبخل ) فصاح بحرقة واضعا يديه على وجهه الثاكل ( ياالهي ! من لي غيرك أرجوه فيسمعني؛ وأدعوه فلا يخذلني ؟! ) قاطع صوت رنين الجرس توسلاته ؛ تثاقل في النهوض ؛ لابد انه أحد رفاقه آت لمواساته؛ أو انه خاله آت للاطمئنان عليه بعد ان سمع الخبر. ولكن توقعاته تبخرت كالسراب حين قام بفتح الباب ليجد "منال" من خلفه برفقة أختها الصغيرة "زينب" !! انها المرة الأولى التي تحظر فيها الى منزله . هكذا فكر وهو يحدق فيها بذهول لم يستطع السيطرة عليه.
تمعنت في عينيه المحمرتين قبل أن تتمتم قائلة وهي تدفع اليه بصحن كبير مليْ بالطعام في ارتباك ظاهر ( خذ هذا يا "عباس"؛ لابد انك جائع ولم تتناول شيئا منذ الصباح ؛ أليس كذلك ؟!) تذكر السندويشات التي لم يذق منها لقمة واحدة بسببها ؛ وتناول منها الطبق في امتنان قائلا دون أن يعي لأسلوبه الجدي الذي اتبعه في الحديث ( شكرا "منال" ؛ لقد أتعبت نفسك دونما داع ..(
أطرقت بعينيها وكأنها تقاوم أمرا ما؛ ومن ثم رفعتهما في توتر وتمتمت (أبدا ! بالهناء والشفاء .. المهم أن لا تشغل نفسك كثيرا بقضية "حسين" ؛ سيفرج عنه بالقريب العاجل ان شاء الله) كانت نظراتها و أسلوبها يوحيان بأنها تعرف حقيقة من تكلم بشكل جيد؛ هذا ما أدركه "عباس" ؛ فاستسلم لذكاءها دون حاجة لاعلان استسلامه وقال برزانة ( ان شاء الله ! (
ودعته منصرفة وهي تلملم طرف عباءتها وتجر أختها الصغيرة من يدها ( في أمان الله ) رد باحترام وقد تسارعت دقات قلبه (يحفظك الله .(
عبّر الرفاق عن موقفهم بمظاهرة سلمية شملت جميع أفراد القرية رجالا ونساءا ؛ سرعان ما تشتت بفعل مسيّل الدموع والرصاص المطاطي الذي استخدمه رجال الأمن لتفريقها وتم اعتقال عدد لا بأس به من الشباب خلال ذلك ؛ فكانت ردة فعل همجية وغير متعقلة للرد على احتجاجات الشعب الثائر غضبا وظلما .
دخل "عباس" لمنزل خاله بقلب مكسور وارادة فولاذية لا تتزلزل مهما حدث ؛ لأنها تستمد قوتها من نبع الايمان الذي لا ينضب.
استقبله خاله بذراعين مفتوحتين وأجلسه بقربه على المائدة سائلا اياه وقد أشار لهندامه المشعث المغبر ( ما الذي حدث لك يا "عباس" ؟ هل أصابك مكروه ؟!) تظاهر بالبكاء كالأطفال ضاربا طاولة الطعام عدة مرات بكفه الخشنة باحتجاج ( انهم لا يريدون الافراج عن صديقي يا خالي! لقد أمطرونا رصاصا ومسيلا للدموع وكدت أختنق لولا أن أحدهم قد جذبني بسرعة وفر بي !!) هدأه خاله بحنان بالغ ( لا عليك يا بنيّ ؛ النصر قريب باذن الله ) استمرت زوجة خاله في مهمة بث الأمل في نفسه قائلة وهي تستعد لنقل أطباق الغذاء الى المائدة بمساعدة من "منال" ( خالك محق يا "عباس"؛ وان طال الظلم فلابد للحق أن يظهر آجلا أم عاجلا (
انتبه لنظرة "منال" الغريبة عندما تفوهت أمها بجملتها الأخيرة قبل أن تسرع لتناول وجبتها في المطبخ كعادتها في الأيام الأخيرة.
لقد غدت تصرفات "منال" غير طبيعية بالنسبة لأسرتها؛ نظراتها وأسلوبها يوحيان بأنها تحمل سرا دفينا لا يتجرأ أحدا بالمطالبة بمعرفته؛ وكان خائفا بينه وبين نفسه من أن لا تستطيع اخفاء هذا السر طويلا عمن حولها !!! سحبته زوجة خاله من أفكاره وتمنياته وهي تقدم له الشاي بعد الغداء. تناول الفنجان بيد مرتجفة ؛ فرمقته الأخيرة بنظرة اشفاق واستدارت لزوجها بنظرات قلقة فهمها على الفور؛ فاقترب من ابن أخته وراح يهاديه ويروّح عنه بكل ما أوتي من قوة وارادة .

كانت أيام "عباس" في هذه الحقبة كالوردة المصفرة من قلة الماء ؛ كان يقضي لياليه ساهرا على قراءة الآيات القرآنية والأدعية المأثورة لينهض صباحا متوجها لكليته بروح تفتقر الى الحماس . أما بفترة ما بعد الظهر ؛ فكان يتجنب أحيانا فتح الورشة حتى لا يتسبب ذلك في مضاعفة أحزانه بتذكر "حسين" وحضوره بجواره في هذا المكان . وفي المساء ؛ كان يقوم باستئناث عملياته الجهادية مع "جنود الله" معبرين عن موقفهم ومواصلتهم للدفاع عن حقوقهم برغم حملات التعسف والتعذيب التي تشنها الحكومة على شعبها المظلوم الصامد.

هكذا كانت تسير عجلة حياة "عباس" حتى أتى ذلك اليوم الذي كان ينتظره بفارغ الصبر ويتمنى طيّ الأيام لأجله ؛ انه اليوم الذي اتصل به المخفر بأسرة "حسين" لتبشرهم بالسماح لهم بزيارة ابنهم بصباح اليوم التالي على ألا يزيد عدد الزائرين على (8) أشخاص .
هتف "عباس" بسعادة (ثمانية أشخاص ؟؟ "أسامة" ؛ " لؤي" ؛ "يوسف" ؛ "عبدالله" ؛ فالتبشروا ؛ حان وقت اللقاء !!!( .......
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الفصل الخامس
")عباس" !!) صاح "حسين" بأسمه بقوة بعد ان عانق والديه وأخواته ؛ فتجمعت الدموع في عينيه شوقا وكأنه لم ير صديقه الحميم لسبع سنوات وليس لسبعة أيام ؛ واندفع اليه معانقا بمنتهى القوة التي كادت تحطم عظامه بينما وقف بقية الرفاق من خلفه منتظرين نصيبهم من العناق.. وأثناء ذلك ؛ جلست عائلة "حسين" الصغيرة على سجادة أحظروها بصحبتهم مع الكثير من الطعام المطبوخ والشراب والألبسة. فك "حسين" العناق بعد مدة طويلة ليتأمل وجه صديقه ؛ وتمتم وقد انهمرت الدموع غزيرة من عينيه البنية (آه ! ما أقسى الفراق يا "عباس"!!) أكد "عباس" مواسيا (لن يطول ان شاء الله ؛ ستخرج عما قريب.. على فكرة ؛ كتبت لك رسالة بموضوع هام أود مناقشتك به فالوضع لا يسمح كما ترى) وأشار بعينيه الى الجموع القادمة لزيارته ؛ فأومأ "حسين" متفهما (اعطها أمي أو احظرها معك ان أتيت لزيارتي. أعلم انك والرفاق مشغولون بالجامعة والامتحانات قريبة ؛ فلا تكلفوا أنفسكم بالحظور؛ هل تعدني بذلك يا "عباس" ؟! ) رد "عباس" مازحا وهو يبتعد ليفسح المجال لرفاقه (أنا لا.. ولكن اسأل الباقي!!) جلسوا جميعا على سجادة مقاربة بعد السلام عليه ؛ فأخذ يتحدث باسهاب عن رحلة المعاناة التي يمر بها السجناء بالمعتقل خلال سنوات من تعذيب ووحشية واهمال ؛ وما مر به شخصيا خلال الأسبوع الفائت قائلا وملامح الاجهاد واضحة من خلال ملابسه الرثة وجروحه العديدة على مختلف أنحاء جسده ( لقد علقوني على المروحة حتى كادت يداي أن تنفصلا عن جسدي ؛ خلعوا بعض أظافري وضربوني بوحشية ؛ وكل هذا لأعترف بجرم لم أرتكبه.. يدعّون انني ساهمت في حرق احدى المحال التجارية المتعاونة مع الحكومة!! متى فعلت ذلك وأنا لا أكاد ألتقط أنفاسي ؟؟)!! رمقه رفاقه بنظرات تكذيب وسخرية ؛ فابتسم بخفة من حيث لا تلحظه أسرته ومن ثم تابع حديثه بروح معنوية متحسنة (ان الرجال هنا يقضون أوقاتهم بالدروس الدينية المفيدة وصناعة المجسمات ؛ ويستخدمون هذه الطريقة في تهريب الرسائل أحيانا الى ذويهم!!) أضاف جملته الأخيرة مبتسما بخبث؛ فابتسم الحظور بدورهم حبا فيه ؛ ومن ثم راح كل منهم يقص له الأحداث العامة للناس والأوضاع السياسية المتأزمة مؤخرا .. وبعد مدة ؛ قام حارس الأمن بطرد العائلات بوقاحة ؛ فاستعدوا للمغادرة وودعو "حسين" سائلين اياه ان كان يحتاج لشيئا ما قبل رحيلهم ؛ فأوصى والديه وأخته باحظار بعض الحاجيات؛ وأكد عليهم أن لا يتحدثوا عن الوضع السياسي برسائلهم لأنها ستكون مراقبة ؛ كما انه انتزع وعدا من رفاقه بأن ينتبهوا لدراستهم ولا يشغلوا أنفسهم بأمره كثيرا وبخاصة بأيام الامتحانات.. وبعد كل هذه التوصيات ؛ انصرف "عباس" ورفاقه الى منازلهم وقد تملكتهم السعادة لرؤية صديقهم من جانب؛ والتعاسة لما قاساه من جانب آخر !! ,,,,,

انشغل _"جنود الله"_ بالمذاكرة للامتحانات التي باتت على الأبواب ؛ وكان كلما مر يوم على "عباس" ؛ شعر بالأسى البالغ لحال "حسين" أكثر وأكثر.. فها هو الوقت يمر وهو لم يخرج بعد ؛ ومستقبله بات في خطر أكيد ... وبرغم كل الحنق الذي يشعر به ؛ الا انه كان يجد نفسه مضطرا للتركيز في المذاكرة ؛ حتى لا يفوته (الكورس) هو الآخر !!
كانت "زينب" الصغيرة قد تعودت على احظار الطعام له في المنزل بهذه الأثناء بعد أن أقنعهم _ بالذات خاله_ بأن لديه (أعمالا هامة) تتوجب منه اتمامها على وجه السرعة؛ ولذا فقد استتب له الأمر بملازمة كتابه ليلا ونهارا .. وبرغم انطلاء هذا العذر على خاله وزوجته ؛ الا ان "عباس" كان متأكدا بحدسه ان "منال" هي الوحيدة التي لم ينطلي عليها الأمر ؛ وانها تدرك جيدا أسباب هذا الغياب المؤقت !!

وفي أول يوم للأمتحان ؛ كان "عباس" قد تهيأ "فكريا" لاستقبال ما سينهال عليه من الأسئلة ؛ ولكن فؤاده كان متعلقا بالسجن الذي يقبع "حسين" خلف قضبان احدى زنزاناته . لا شيْ ولا أحد أصبح قادرا على ملىْ الفراغ الذي خلّفه هذا الصديق الغالي والمقرب الى نفسه ؛ رغم محاولات كثيرة من قبل رفاقه بائت بالفشل بالنهاية ...
حاول "عباس" ابعاد هذه الخواطر عن نفسه مؤقتا وهو يستقبل صديقه الحنون "عبدالله" بابتسامة لطيفة بعد ان انتهى الامتحان وأبلى فيه بلاءا حسنا ( ها ؟ ما أخبار الامتحان يا بطل؟؟) بادله "عبدالله" المزاح ( لقد صرعت معظم الأسئلة وألقيت بها أرضا دون أدنى مقاومة؛ ولكن سيفي قد كسر وانتهى الوقت قبل أن أستعير سيفا آخر) !!ضحك "عباس" بقوة وضربه على كتفه بود ( ظريف جدااا !!) أكد "عبد الله" ( من عاشر قوما ..) أكمل "عباس" ( صار منهم ؛ ولكن من تقصد ؟؟( وبتلقائية أجاب "عبدالله" ( أختي "زهراء" من غيرها ؟؟) وجم "عباس" لا شعوريا ؛ بينما تابع "عبدالله" دون أن يلاحظ ما اعتراه وقد رافقه الى السيارة حتى يقله الى منزله ( "زهراء" هي شمعة بيتنا يا "عباس"؛ انها تذهلني وتعجبني بكل تصرفاتها وبحثها الدائم عن الحقيقة بصفحات الكتب التي لا تمل منها .. تروح وتجيء دون انقطاع وكأنها مقبلة على حرب اسلامية لن تنتهي ! تعقد الجلسات والندوات بمنزلنا لتلقي الدروس الدينية وتلاوة القرآن بالمساء ؛ بينما تحظر الى الجامعة صباحا وتتمم رحلتها بين الكتب عصرا ؛ ورغم كل هذا الانشغال؛ الا انها لا تنسى واجباتها اتجاهنا كأفراد أسرة ؛ تغدقنا بحبها وروحها الطاهرة التي صارت جزء له أهميته وثقله بالمنزل ؛ وبالنسبة لي بالذات,,,, اوووه !! لقد أخذني الحديث عن شيْ لا يعنيك ؛ أنا آسف !!(تابع "عباس" القيادة ( لا أبدا ! يسعدني أن تكون راضيا وسعيدا بأختك ؛ في الحقيقة لم أسمع عنها الا الخير..) غمرت "عبدالله" السعادة لهذا الاطراء وكأنه موجه اليه وهتف في "عباس " ( "عباس" ؛ لما لا تتزوج "زهراء" ؟؟) ألجمته المفاجئة عن الكلام ؛ فبهت لونه وتغيرت قسماته وبان الارتباك على محياه . كانا قد وصلا لمنزل "عبدالله" الذي سارع في الاستفسار عن صمت رفيقه المفاجىْ ( ما بك ؟ هل فاجئتك ؟!) أكد "عباس" بتوتر وقلق شديدين )في الحقيقة نعم ! أنت تعلم يا "عبدالله" انني مطارد ورجل ذو وجهين؛ فأنا بنظر الجميع _ما عداكم_ مجرد شاب أحمق
لا يفقه شيئا . ثم انني ...) قاطعه رفيقه بود ( أعرف ما ستقول ؛ المال ؛ أليس كذلك ؟؟) فكر "عباس" لهنيئة ؛ كيف بوسعه مصارحته بعلاقته العاطفية مع ابنة خاله ؟؟ ماذا سيقول له ؟؟ انني لا أريد أختك وأفضل ابنة خالي "منال" ؟؟ حتما سيتعرض للاحراج ؛ وسأسقط من عينيه؛ وسيعتبرني أختلق الحجج لوجود عيب ب"زهراء" حاشا لله !! واستجمع شتات نفسه سريعا وهو يقول بنبرة هادئة حتى لا يخالج "عبدالله" الشك ( نعم !) استرسل رفيقه بالحديث بلهجة حماسية واثقة (من ناحية المال أختي "زهراء" لا تحب الرفاهية والاحتفالات التي لا طائل من وراءها ؛ ثم انها ستقدر ضروفك .أما عن الدور الذي تلعبه ؛ فبعد الزواج يمكنك الكف عن تقمصه والظهور بمظهر الرجل الذي أثابه الزواج الى رشده ؛ ولن تكون في خطر طالما أظهرت بكل قواك انك لا تهتم بالسياسة ولا يشغل تفكيرك سوى زوجتك وأولادك ..) تأمل "عباس" مأزقه وقال ( هذا بعد الزواج ؛ أما قبله فكيف سترضى برجل أحمق ؟؟) راح "عبد الله" يؤكد له باصرار وبجهل لدوافع صديقه للرفض ( لن ترفضك لهذا السبب ؛ لأنني سأقنعها بالقبول ؛ وهي ستذعن لي بالتأكيد ؛ لأنها واثقة من حبي لها وحسن اختياري) سدت الطرق على "عباس" حتى أصبح في موقف لا يحسد عليه ؛ ولم يدر بما يجيبه ؟؟؟
خفف عنه "عبدالله" وطأة الكلام وهو ينهض مغادرا السيارة قائلا بلهجته الحانية ( فكر يا "عباس" ! أعرف انك مشوش؛ أستودعك الله !!!) وعاد "عباس" أدراجه و الحيرة تثقل قلبه الذي زاد هما على هم ... ما هذا المأزق الذي وضع فيه دون أن يحسب له أي حساب؟؟ وما العمل وهو يحب "منال" ولا يمكنه التخلي عنها وعن رغبته بالزواج منها ؟؟؟ وماذا يقول ل"حسين" برسالته التي كان قد كتبها ليحثه على الاعتراف باعجابه ب"زهراء" وبتصرفه الخاطىْ في المحاضرة ؟؟؟ هل يرسلها؟ أم يبدلها برسالة أخرى يشرح فيها ما حدث معه للتو ؟؟ وهل سيحزن "حسين" عندما يعلم بأن "عبدالله" يريده زوجا ل "زهراء" ؟؟ نعم ؛ هو سيحزن .. انه يحبها حتى وان حاول اخفاء ذلك !! تردده في المقابلة الأخيرة كان يوحي بمدى صعوبة البوح والاعتراف.. "حسين" تغير فجأة وأصبح في حالة مرعبة من الاضطراب والكتمان...
وقرر "عباس" : ( فاليتكلم هو أولا (ومزق الرسالة !!!.....................

استعد "عباس" _بعد تناول وجبة غذاءه _ لغسل الثياب المتراكمة بعد ان أدرك ان "زينب" ذات الجسد النحيل لن تقدر على حملها الى أمها التي لم يحب زيادة أعباءها الكثيرة في الأيام التي انشغلت بها "منال" بالامتحانات عن أداء الواجبات المنزلية برفقة والدتها. وما ان جمّعها في سلة طويلة حتى يبدأ بغسلها؛ حتى تناهى الى مسمعه صوت رنين الجرس بالصالة...
أسرع في غسل يديه المليئة بالصابون وعدّل من هندامه الذي اتسخ بدوره اثر وضعه للصابون بالغسالة بطريقة خاطئة ؛ وخطا نحو الباب الرئيسي ليفتحه ويتفاجىْ بوجه "منال" من خلفه !!
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
هتفت به بدهشة متأملة منظره المضحك ( ما هذا ؟ ما الذي قلب منظرك هكذا؟!) تأمل ثيابه المتسخة باحراج كبير ؛ وحاول النطق ببعض الكلمات ( لقد كنت.. كنت أغسل الثياب !(تبسمت ضاحكة وحاولت التماسك وصاحت بلهجة أقرب الى السخرية واللوم وكأنها تدرك دوافعه لفعل ذلك (لا .. اذهب أنت لانجاز "أعمالك المهمة" ؛ وأنا سأتكفل بهذه المهمة !!(قاطعها وقد اتخذ منه الارتباك موضعا لا يقوى معه على رفع عينيه اليها ( ولكن .. أنت لديك امتحانات وزوجة خالي..( قاطعته بدورها بمنتهى الاصرار؛ وقالت بلهجة ذات مغزى ( لست الوحيدة التي عليها امتحانات ! أقصد ان كل البنات لديهن امتحانات ويساعدن أمهاتهن.. هيا لا تضيّع الوقت واحظر سلة الثياب !!) ولم يجد بدا من الرضوخ لاصرارها؛ وقفل راجعا الى الداخل وأحظر السلة وناولها اياها في حرج بالغ بددته بقولها ( أرجو أن لا تتجرأ وتفعل ذلك ثانية يا "عباس" ! أمي ستغضب منك كثيرا وأنت تعرف جيدا انها شديدة الحساسية بهذه الأمور وتعتبرك كابنها الذي لم ترزق به) توسل اليها (لا تخبريها !) أكدت له ( لن أفعل !) وغادرت بعد وداع قصير ؛ فدخل الى منزله حائر القؤاد ؛ مشتت الفكر.. في الوقت الذي باتت فيه تصرفات "منال" تأخذ طابعا مريحا ؛ يأتي "عبدالله" ليحول راحته الى قلق مرير. تلا بعض الآيات وبعض الأدعية قبل أن يتفرغ لمذاكرته بنهم متجاهلا الأحداث الصاخبة التي تعصف حياته مؤخرا ..

وهكذا ؛ قضى "عباس" أيام امتحاناته بسلام ؛ ولم يخض مع "عبدالله" بموضوع "زهراء" ثانية متصنعا التفكير ؛ وأول ما قام به بعد ان غادرته هذه الأيام المشحونة بالتوتر والقلق ؛ هو زيارة أخاه "جاسم" بيوم الجمعة الذي كان اجازة له من عمله كرجل أمن باحدى المستشفيات .
واستقبله توأمه بمنتهى الفرح والسرور قائلا وهو يفسح له الطريق للدخول الى شقته المتواضعة بينما تتوارى زوجته تحت حجابها المنزلي (أهلا بالمفكر العظيم ! ها .. ما أخبار الامتحانات ؟!) ابتسم "عباس" بسعادة جالسا بجوار أخيه بالصالة (كل شيْ على ما يرام بأذن الله.. على فكرة أين صديقي ؟ لا تضن انني أتيت لزيارتك أنت !!) ضحك "جاسم" بقوة بينما دخلت زوجته برفقة الصغير ؛ وبعد السلام ؛ ناولته اياه بود (ها هو صديقك المشاكس ! لقد بعثك الله لتخلصني منه حتى أتم اعداد الغداء ؛ فأخاك العزيز يتهرب من المسؤولية ) تبسم "جاسم" ضاحكا وبرر موقفه (انه لا يدعني أنام طيلة الليل يا "عباس" ! دائما يبكي حتى عدمت الحيلة لاسكاته !!( وخزه "عباس" مازحا ( الآن تريد النوم ها ؟! في الماضي كنت ورفاقك لا تكفون عن السهر طوال الليل ولا تدعونا نخلد للراحة!!) قهقه "جاسم" وسايره في المزاح مذكرا اياه (وكانت أمي المسكينة تبذل جهدا جبارا لا يقاضي كل يوم حتى أتناول وجبة "الغداء" برفقتكم !!) غيّر "عباس" الموضوع متحدثا عن الامتحانات وحياته المملة من دون صديقه "حسين" حتى لا تنقلب الجلسة الى "مناحة" كعادة "جاسم" كلما تذكر والدته. وتحت اصرار زوجة أخيه ؛ تناول الغداء برفقتهم بعد ان اتصل هاتفيا بزوجة خاله ليخبرها بالأمر..
أعلن "جاسم" بعد ان غسّل يديه بمطبخه الصغير ( الليلة سأذهب برفقتك الى بيت خالي ؛ ما رأيك ؟) شجعه "عباس" (خير ما تفعل بالطبع ؛ صلة الرحم تطيل العمر يا "جاسم" . والان ؛ أستودعكم الله ؛ سأذهب لتنظيف المنزل فقد انشغلت عن ذلك بأيام الامتحانات ) وغادر بعد ان أكد ل "عفاف" انه لا داعي لتكبد عناء التنظيف بدلا منه ؛ فما عندها من أعمال يكفيها ويزيد؛ اظافة لتعوده على فعل ذلك منذ أمد طويل..

ان أكثر ما أذهله حال رجوعه الى المنزل هو تلقيه لرسالة "حسين" التي سلمها اياه والده الذي كاد اليأس أن يتسلل الى نفسه من كثرة الضغط على جرس الباب دون جواب من أحد. دخل الى منزله والفرح يغمره من أخمص قدميه حتى قمة رأسه !!
ألقى بجسده على الكرسي القابع خلف طاولته المنزلية وراح يمزق الأوراق الكثيرة التي كانت تحيط بالرسالة من باب الحيطة والحذر ؛ وبدأ في قراءة الكلمات التالية
(بسم الله .. صديقي الغالي "عباس" ؛ السلام عليك ورحمة الله وبركاته وبعد :
أكتب اليك هذه الرسالة وأنا على أحر من الجمر شوقا اليك ؛ والى رؤية وجهك الغالي والمحبب الى نفسي ؛ وتائقا لأعرف أخبارك مع الامتحانات .. أتمنى أن تكون قد نفذت وعدك بعدم التفكير بأمري والتفرغ للمذاكرة . انه حكم الله يا "عباس" ! "وعسى أن تكرهو شيئا وهو خير لكم .." أليس كذلك ؟؟ ... "عباس" ؛ انني دائم التفكير بك وبأيامنا الجميلة التي قضيناها سوية ؛ ولست بحاجة لذكر مدى حبي لك ومدى قربك من نفسي ؛ فأنت تعلم بذلك أشد العلم. لقد تعرفت على شبان طيبون بكثرة ؛ ولكن واحد منهم لم يسد الفراغ الذي تركته في نفسي ؛ برغم استفادتي الدينية الجمة حين أستمع لمحاظراتهم وحواراتهم الشيقة .. ربما لاحظت ترددي بآخر مرة زرتني فيها منفردا فبل الامتحانات بأيام .. لقد كنت أريد أن أستودعك سرا في نفسي ؛ ولكن الحرج قد شل لساني برغم من انني لا أتردد باخبارك عما يجتاحني من هموم. لقد ترددت هذه المرة ؛ كما ترددت أنت حين شرعت باخباري بقصتك مع "منال" بعد ان عادوا الى الوطن بأيام قليلة.. أتذكر ؟؟ لا بد انك تذكر جيدا هذا الموقف الصعب الذي أحببت أن أخلص نفسي منه بالكتابة !! انني معجب ب "زهراء" أخت "عبدالله" وأنوي جديا الزواج منها ؛ ولكن ظروفي صعبة كظروفك ؛ وربما هي أكثر صعوبة من ظروفك بكثير.. لا أعلم ان كان هذا الأمر مفاجئة لك؛ ولكن على كل حال هذه هي الحقيقة التي تأكدت منها بأول يوم لي بالسجن !! السجن يا أخي الغالي يعّري المشاعر؛ ويحطم الكبرياء والمغالاة التي ننسجها حول قلوبنا؛ ويعلمنا أن نتخلص منها ونتعلم الطاعة والخشوع لالهنا الكريم الذي لا يبخل.. وقد تتساءل عن عمر هذه المشاعر ؛ فأؤكد لك انني لا أعلم !! كل ما أنا متأكد منه انني ما أحببتها الا بعد أن سمعت عنها كل الخير من أختي "جنان" ؛ وتأكدت من ذلك بطريقتي من بعض المعارف ومن "عبدالله" بالذات.. أتمنى _على الأقل_ أن أخرج قبل بدء الكورس القادم لأستأنف الدراسة من جديد وأبني لحياتي المتعطلة حتى أستطيع مفاتحة "عبدالله" بالموضوع ؛ وها أنا ذا أدعو ربي ليلا ونهارا حتى تتحقق لي هذه الأمنية الغالية ؛ فادعوا لي أنت أيظا يا "عباس" .... أخوك "حسين" .
طوى "عباس" الرسالة براحة ؛ ودون أن يحس ؛ نزلت من عينيه دمعتان كبيرتان !! ما أشد حبي لك يا "حسين" ؛ وما أروع القرار الذي سأتخذه من دون أذن منك!!.. نعم؛ لقد اتخذت قراري الأخير الذي لا رجوع فيه ؛ وسيكون "عبدالله" أول من يعرف به .. نعم ؛ لا بد من التصرف بجرأة والا ضاعت "زهراء" من يديك يا "حسين" ! يجب أن تسامحني ؛ هذا كل ما أطلبه منك !! ...
وسارع باتجاه مسكن "عبدالله" قبل أن يتراجع أو يتزلزل اصراره. سمع صوت "زهراء" عند المدخل ؛ فابتسم برقة متذكرا عبارات "حسين" التي تمتدحها ؛ وضغط على جرس الباب بثقة؛ فقدمت اليه من وراءه سائلة بهدوء ( من بالباب ؟) أجابها "عباس" بسرعة (هل "عبدالله" موجود؟) ..( نعم ؛ ادخل اليه ؛ انه في المجلس ) وترك لها فرصة التواري باحدى الحجرات ودخل مكررا اسم الله الى مجلس الرجال حيث وجد "عبدالله" جالس بمفرده يتناول وجبة غداءه. وما ان انتبه الأخير لمقدمه حتى نهض بوجه منطلق وحياه بحرارة داعيا اياه للجلوس بجواره (أهلا بك يا "عباس" ؛ ما هذه المفاجئة المذهلة ؟! على العموم لقد أتيت بوقتك لتتناول معي وجبة الغداء ) اتخذ مجلسه بجواره وأكد له بامتنان ( بالهناء والشفاء ؛ لقد تناولت غداءي بمنزل أخي؛ فقط أتيت لأحدثك...) قاطعه "عبدالله" (عن "زهراء" ؛ أليس كذلك ؟!) تلعثم "عباس" وحاول مباشرة حديثه ؛ لولا ان "عبدالله" قاطعه مرة أخرى قائلا ( "عباس" ؛ انني عاتب عليك ) تطلع اليه بتساؤل وصاح ( لماذا ؟؟) ضحك "عبدالله" على حين غرة ؛ وهتف به باستنكار مازحا ( أهكذا أنا آخر من يعلم ؟؟ لقد اكتشفت انك داهية !!) ....( ماذا تقصد ؟؟( أجابه على الفور بذات اللهجة المازحة ( أقصد "منال" ابنة خالك بالطبع !! أليس هذا ما أردت اخباري به للتو ؟؟( وتابع "عبدالله" حين أدرك عمق صدمته وذهوله ( لقد أخبرني "يوسف" ؛ طبعا أنت لم تعترف له ولكنه شديد الملاحظة. أتذكر حين لمح دوريات الشغب بآخر عملية على بعد "50" كيلو متر !!(تفاجىْ "عباس" من اسلوب "عبدالله" المازح وأخذه للموضوع بكل هذه البساطة (يالني من أحمق !!) هكذا هتف "عباس" لنفسه ! لماذا اعتقدت بأن "عبدالله" سيجرح ويهان عندما أبوح له بالحقيقة ؟ لماذا خجلت من مشاعري البريئة وكتمتها بأعماقي وكأنها جرم لا يغتفر؟؟ والأهم من ذلك ؛ لماذا تسرعت وقررت مفاتحة "عبدالله" برغم علمي ان "حسين" قد لا يحبذ هذا التصرف؟؟ هل لأحافظ على "زهراء" ل "حسين" كما زعمت ؛ أم ان هناك دوافع أنانية سكنتني كوساوس الشيطان ولم أفكر الا بتخليص نفسي من هذا المأزق ؟؟ يالني من أناني ! يالني من مجرم !!
وعى لصوت "عبدالله" يقتلعه بقوة من تأنيب الضمير قائلا بحيرة ( ما بك ؟ هل ضايقك اني عرفت ؟!( سارع "عباس" في النهوض حتى يفسح لرفيقه المجال كي يتم طعامه ( لا أبدا .. ولكنني لم أتوقع أن تأخذ الأمر بكل هذه البساطة) ! ابتسم "عبدالله" بثقة (أنت لم ترفض "زهراء" لعيب في أخلاقها لا سمح الله ؛ والحياة الزوجية أهم ما فيها المودة والرحمة ؛ أليس كذلك ؟! ) شعر "عباس" بالراحة لهذا التفهم ؛ وغادر بعد وداع قصير متوجها الى ورشته التي طال اغلاقها.. انه يشعر اليوم بسعادة جمة وطمأنينة كبيرة ؛ وكأن رسالة " حسين" وحديث "عبدالله" قد بثا القوة بشتى أنحاء جسده ؛ فصار يملك من العزيمة ما يعادل قوة وعزيمة مائة رجل !!
نعم ؛ ها قد طوى السنين طيا وصارت الجامعة وامتحاناتها شيْ من الماضي يضعه خلف ظهره ولا يفكر به طرفة عين ؛ أما مشكلة "زهراء" فقد حلت تقريبا وليس ناقص سوى خروج "حسين" بالسلامة ان شاء الله . والأهم من كل ذلك ؛ ان "منال" صارت تعامله بطريقة ودية أنسته عجرفتها وعنادها في الماضي .
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
توجه "عباس" برفقة "جاسم" الى منزل خاله بعد أداء فريضة المغرب بالمسجد . وفي الطريق ؛ قهقه "جاسم" فجأة وصاح بتوأمه ( أتعرف ماذا كان يقول لي الشيخ بالمسجد؟ يقول ان الحياة قلبت رأسا على عقب ؛ فالمجانين في محافظة تامة على الصلاة بالمسجد؛ أما العقلاء فمعتكفين في منازلهم كالنساء!!) شاركه "عباس" الضحك بنفس راضية ( سيفرح كثيرا اذن عندما يكتشف انني أحد "العقلاء" الذين يلقي عليهم الملامة والعتب !!) تحولت لهجة "جاسم" الى لهجة جدية قلقة وهو يقول (أنا من يجب أن يلقي عليك الملامة ! لقد أجدت تمثيل دور الأحمق .. أعترف بذلك ؛ فقد أدهشتني بالمسجد حتى شككت بأمرك!! ولكن الى متى؟؟ الى متى يا "عباس" ؟؟ (لاذ "عباس" بالصمت مطرقا ؛ انها ليست المرة الأولى التي يواجهه فيها بهذا الكلام الذي لا يخلو من الواقعية ؛ ولكنه في حيرة من أمره لا يعرف ما الصواب وما الخطأ ؟! ... واصل "جاسم" محاولات الاقناع التي لم يتخلص منها الا بدخولهما الى المنزل المقصود ؛ فدخلا متلازمين بعد ان توارت "أم محمد" و "منال" خلف الحجاب المنزلي ؛ وكان خالهم في استقبالهم ؛ حيث تقدم لضمهما كل بذراع؛ وأجلسهما بجواره متمتما بعد تنهيدة قوية ( لقد تركتي رجالا يا شقيقتي العزيزة) سأله "جاسم" بلهفة (هل تضن انها سامحتني يا خالي ؟؟) ربت "ابا محمد" على ظهره بمودة عميقة وقال بلهجة حنونة أبوية (مادمت قد تبت يا ولدي توبة نصوحا؛ فأن الله لن يتخلى عنك؛ وسيسامحك على ما اقترفت ؛ وأمك يا ولدي لا تتمنى ولا ترجو غير ذلك لك ولأخيك.. الأم لا تكره ابنها وعلى استعداد دائم لمسامحته مهما فعل يا "جاسم" ) بدى
"جاسم" أكثر ارتياحا لسماع هذا الكلام من خاله؛ فتبددت ملامح القلق والتوتر عن محياه شيئا وشيئا ؛ وسكنت ثائرته لهنيئة دخلت خلالها زوجة خاله الى الصالة وحيتهما بحرارة؛ ودار الحوار فيما بينهم حتى توقفوا عند محطة "منال" وانتهاءها من الدراسة الجامعية وخططها المستقبلية؛ فأسهبت "أم محمد" قائلة ( "منال" فتاة عنيدة والدراسة أفسدتها ..انها تصر على خوض تجربة العمل) عارضها زوجها بشيْ من الحزم (انها حرة يا امرأة !! دعيها تفعل ما تراه مناسبا ..) احتجت ( ولكن ...) قاطعها بحدة ( الفتاة اليوم غير فتاة الأمس ؛ والعمل ليس عيبا بل فيه فوائد كثيرة ) أصرت على موقفها محاولة اقناعه ( ولكنه لا يريدها أن تعمل !!( قاطعها ( فاليذهب الى الجحيم اذن ! هذه شروطنا فان قبلها أهلا وسهلا ؛ وان لم يقبلها فاليبحث عن أخرى ..(
تدخل "جاسم" وقد تملكه الرعب ( عمن تتحدثان ؟؟) أجابته زوجة خاله بحماس وسعادة كبيرة ( عن الشاب المتقدم لخطبة "منال" !!! ) استدار "جاسم" الى أخيه وكأنه يخشى أن يسقط أرضا ؛ فأبصر ملامحه المكتنفة لكل معاني الدهشة والذهول والألم ؛ فبادر بالقول باحتجاج عنيف ( ولكن يا زوجة خالي...) قاطعه "عباس"
بغتة وقد وعى من صدمته مدركا ما اعتزم "جاسم" النطق به وهو يجره الى الباب الرئيسي بحركة طفولية بلهاء مسيطرا على دموعه التي بدأت بالتجمع على مقلتيه ( "جاسم" !! لقد وعدتني باصطحابي الى الحديقة حيث الألعاب المسلية ؛ هل نسيت وعدك؟؟) تطلع اليه "جاسم" بحنق شديد وتخلص من قبضته بالقوة وصاح فيه (اتركني يا "عباس" !! ) رماه توأمه بنظرة توسل وضراعة؛ فخفف من حدة نظراته الشرسة ورافقه الى الخارج بهدف التفاهم معه. ولما استقر بهما المسير بقرب البقالة المتواضعة القريبة من منزله ؛ صاح فيه بغضب رهيب ( هيا .. هيا اقنعني بدوافعك الغير منطقية !!) هتف "عباس" بلهجة منكسرة ( الغير منطقي أن تخبرهم بالحقيقة !!) فاجئه "جاسم" بمنتهى الضيق والازدراء ( أنت جبان وأناني !! نعم ... لا تنظر اليّ بهاتين العينين التين لا تعرفان الا البكاء !! تصرف كرجل لأول مرة وتذكر السنين المضنية التي قضيتها وحيدا تنتظر رجوعها اليك,, هذه المرة ستفقدها للأبد يا "عباس" ولن تفيدك بلاهتك في شيء؛ بل ستكون فيما بعد كالناقوس المدوي الذي يقرع ليذكرك بحسرة وخيبة لن تسامح نفسك عليها ما حييت !!!!)
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الفصل السادس
دوت كلمات "جاسم" بذهن "عباس" دويّ النحل في خليته؛ وأصبح الهدوء والنوم والراحة مرادفات لا يكاد يفهم معناها !!
هل هو حقا من الجبن والأنانية بحيث يضحي بأمل كبير بحياته كأمل الارتباط ب "منال" ؟! ولأجل ماذا ؟! لأجل راحته وبعده عن الشبهات ؟! ( قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا) نعم ! القدر لا مفر منه ؛ وهذا الأسلوب _ الدبلماسي_ للبعد عن دائرة الشكوك ليس الا أسلوبا شاذا تافها يضره أكثر مما ينفعه!! ماذا لو كل الناس اتبعوا اسلوبه هذه ؟ هل تتحول القرية الى مستشفى للأمراض العصبية ؟؟ ومن سيقول عندها كلمة الحق بكل وضوح وتعقل ؟؟ هل نسيّ مدى تأثير كلماته المضيئة بنور الحق والعدالة في الماضي ؟! لقد أجبره هذا الدور على التخلي عن ممارسة هوايته التي يحبها ومساعدة الناس بأقل وسيلة ممكنة ؛ وحوله الى مهرج تتقاذفه ألسنة الناس وأقاويلهم .. _ اضافة الى كل ذلك_ فهو لابد أن يعيش حياته الطبيعية يوما ؛ فيحب ويتزوج وينجب أطفالا يملؤن وحدته المريرة _ فها هو "جاسم" الأصغر سنا _ قد تزوج من قبله وأنجب أبنا في غاية الجمال.. ثم ماذا عن شهادته الجامعية التي تكبد العناء والمشاق والآلام للحصول عليها كل تلك السنوات الموحشة ؟؟ هل يمزقها ؟! أم يحتفظ بها بدرج مكتبته مع مقالاته القديمة وصوره الفوتوغرافية ؟؟ لابد له أن يعمل... نعم ؛ لابد له أن يبحث عن عمل باحدى الصحف ليحقق حلمه القديم؛ ولترتاح أمه في تربتها عندما تدرك المصير السعيد الذي انتظر ولديها الحبيبين..

هكذا فكر "عباس" ؛ وأدار الأمر في رأسه على كل الوجوه ؛ وراجع وقارن وحلل ؛ حتى وصل لقراره النهائي الذي لا رجوع فيه .. نعم ؛ انه ذاهب الآن لاعلان حقيقته على الملأ وليكن ما يكون !! السعادة فيما هو قادم على فعله ؛ والهروب لن يجدي نفعا ؛ و"منال" لن تنتظر كل عمرها لتحصل على حبه واعترافه ؛ وستتركه بيوم ما بعد أن يتملكها الضجر وتفكر في نفسها وسنينها التي تهرب من بين أصابعها كالماء الجاري !!!

وخرج "عباس" من وحدته المريرة منشرح الفؤاد ؛ منطلق الوجه ؛ ومشى متوجها لبيت خاله في حبور وسعادة ؛ فتفاجىْ بحركة غير طبيعية تدور من حوله.. الفتيات يمشين ضمن جماعات من بيت الى بيت تعلو ملامحن سعادة غريبة يحاولن السيطرة عليها ؛ والهمسات الغامضة تنتشر هنا وهناك دون أن توضح شيئا بذهن "عباس" ؛ والشيخ الجليل الذي يؤم المصلين يغالب ابتسامة جانبية ندت عنه من غير قصد ويهتف في خوف ووجل منصرفا عن تلامذته ( أستغفر الله ؛ أستغفر الله !!) خطا نحو الجماعة بفضول وسارع بالاستفهام (ماذا جرى ؟؟) وضع أحدهم يده على فمه وصاح الباقين (أش !!لا تعلي صوتك وتفضحنا يا ابن الحلال !!) نزلت يد الرجل عن فمه فقال مخفضا صوته عندما وعى لخطورة الأمر (اخبروني أرجوكم !) همس أحدهم ( لقد مات الأمير !!!(

دارت الدنيا ب "عباس" وكاد أن يغمى عليه من هول الصدمة !! ما هذا الأمر الغير متوقع ؟! غيّر "عباس" وجهته وانطل مسرعا بفرحة لم يستطع مقاومتها الى منزل "عبدالله" حيث تجمع رفاق دربه السياسي والجامعي على شكل حلقة منتظرين حظوره وقد شغلهم النقاش الحاد.. وجلس بجوار "لؤي" بعد أن ألقى السلام وأنصت لتعليقاتهم ؛ حيث كان "لؤي" يقول بحماسة ( الشماتة لن تفيد شيئا الآن؛ والأعمار بيد الله يا أخواني ؛ المهم أن نفكر بالمستقبل بتفاؤل ) أيده "عبدالله" قائلا بشيْ من الراحة ( ربما آن لزمن العذاب أن ينتهي...) علق "عباس" (أرجو من كل قلبي أن نحظى بالأمان والديمقراطية على يد الأمير الأبن ؛ فلقد عانينا الكثير ...(

وسرعان ما تمخضت الأيام عن مفاجئات لم تكن بالحسبان؛ وتضاربت الآراء ووجهات النظر حول نوايا الأمير الجديد الذي سارع بتقديم "مكرماته" الواحدة تلو الأخرى.. وكانت المكرمة التالية هي أكثر المكرمات تأثيرا بوجدان الشعب المعذب المحروم؛ حيث أمر الأمير باطلاق سراح كل المعتقلين السياسين من دون استثناء !!!
وشعر "عباس" بأن قلبه يكاد يتمزق من الفرحة ؛ وان الدنيا تكاد لا تسعه .. أخيرا !! أخيرا سيخرج "حسين" وسينعم بوجوده الى جواره من جديد ؛ وسينسى _ أو يتناسى_ تلك اللحظات المريرة الصعبة التي عاشها من دونه . والأهم من كل ذلك ؛ انه سيستأنف دراسته من جديد وسيتقدم ل "زهراء" بثقة ؛ وسيتم عقد قران "جنان" و "أسامة" الذين طال انتظارهما ...

ان مجرد التفكير بذلك يقوده الى دنيا من السعادة والابتهاج والفرح ؛ فماذا لو حدث فعلا ؟؟؟

تنهد "عباس" بخيبة أمل حين لم يعثر على اسم صديقه بين الأسماء في اللائحة بالجريدة اليومية التي تغطي ثلاثة أرباعها أسماء المعزم الافراج عنهم ؛ فربت خاله على كتفه حينها في ود وأمل كبير وقد تجمعوا على المائدة ( هون عليك يا بنيّ ؛ في اللائحة المقبلة ان شاء الله ) أعقبت زوجة خاله بحنان مقربة اليه صحن الأرز ( لقد ولى زمان الظلم يا ولدي ؛ وآن للحق أن يظهر؛ وخروج "حسين" بات مؤكدا بمشيئة الله ) هز "عباس" رأسه في تقبل ؛ وانكب على الطعام دون حماس ؛ مختلسا النظر ناحية المطبخ حيث "منال" تتناول وجبة غداءها . لقد شغلته الأحداث الأخيرة عن مصارحتها بحقيقته ورغبته بالزواج منها..

ولكن لا ! لسوف ينتظر خروج "حسين" حتى يكون على بينة من الأمر _ فهو في النهاية _ صاحب الفكرة والمصر على تنفيذها ومتابعتها . سأل زوجة خاله بشيْ من البلاهة و الطفولية ( هل سألتم عن العريس المتقدم ل "منال" ؟!) أجابت بحماس شديد؛ وكأن هذا الموضوع هو الموضوع الوحيد الذي تسعد بمناقشة تفاصيله ( انه غنيّ عن التعريف يا ولدي؛ فهو محام "قد الدنيا" وموكلينه بالملايين.. شاب وطموح ومجتهد وفي خدمة الشعب !) تطلع اليها زوجها بشيْ من السخرية والاستنكار لهذه المبالغات التي لا داعيّ لها ؛ بينما هتفت "زينب" باحتجاج ( أختي "منال" لن تتزوج غير "عباس" ؛ فهي عروسته!!) بان الاحراج واضحا على قسماته رغما عنه ؛ ولحسن حظه ؛ فقد تكلمت زوجة خاله مؤنبة ابنتها بعنف (قلت لك ألف مرة لا تكرري هذه العبارات السخيفة ! يا الله !! ستفضحنا هذه البنت !! ماذا لو قالت ذلك أمام "عادل" ؟؟ ماذا سيضن عنا؟؟!) تمتم خاله متطلعا الى زوجة خاله بحدة وحنق مراعيا مشاعر ابن أخته الرقيقة (كل الخير !!) غيرت دفة الحديث خوفا من زوجها؛ بعد ان ندمت على لمس الوتر الحساس لديه ؛ وقالت متوجهة لغسل يديها ( يقال ان الأمير أصدر مكرمة أخرى مضمونها اعطاء مبلغ بسيط لمدة 6 أشهر لكل مواطن باحث عن عمل حتى تتكفل وزارة العمل بتدبير العمل المناسب له؛ ما رأيك يا "عباس" لو تقدم للطلب بدلا من عملك المضني بالورشة ؟؟) أحس "عباس" باهانة تمزق أحشاءه؛ فزوجة خاله تريد القول بطريقة غير مباشرة انه دون مستوى "عادل" المتقدم ل "منال" الفتاة الجامعية ؛ وان عمله بالورشة لا يساوي شيئا فهو كالعاطل المحتاج الى معونة !! لا بأس ؛ ليسامحها الله ؛ فهي مبهورة بمركز هذا الشاب وعمله الذي يدر عليه أرباحا طائلة ؛ حتى انها لم تفكر بسعادة ابنتها أو أحلامها المستقبلية ببناء شخصيتها رافضة سيطرة هذا الرجل الذي يفرض عليها ملازمة المنزل لاعداد الطعام وتدليك قدميه عند عودته من مكتبه "الشهير" كما تفعل النساء في الخمسينيات !! ويدّعي انه محام متطور !! أين التطور ؟؟ أهي عبارات جوفاء تفقد لهيبها حين تطفو على سطح الواقع أم ماذا ؟؟؟؟
قطع عليه خاله أفكاره مربتا على كتفه بمنتهى الحنان ( قم يا ولدي لغسل يديك بالمطبخ ؛ ولا تنس أن تطرق الباب مسبقا (
تثاقل في النهوض وكأنه يحمل فوق رأسه أثقال الدنيا وهمومها . طرق باب المطبخ بشيْ من التوتر ؛ فأبصر "منال" وهي تقوم بغسل الأطباق بعد ان ارتدت زيها الاسلامي الذي لا يكشف الا عن وجهها وكفيها.. تأملها دون أن تلاحظ ؛ هذه المخلوقة الحبيبة قد لا تكون من نصيبه؛ وهذا ما يخيفه ويقلق مضجعه ؛ فمجرد موافقتها على الارتباط ستحسم الموضوع نهائيا؛ وستلغي كل أمل لديه وتدوسه برجليها . ابتعدت عن المغسلة لتتيح له الحرية بغسل يديه دون أن تلقي عليه نظرة واحدة ؛ فتعمد التباطؤ وقلبه يدق بعنف؛ وكلمات تجول على شفتيه وتأبى أن تنطق على لسانه ,, قال أخيرا متصنعا الشهامة البلهاء ( لو تريدين أن أسأل عن "عادل" فأنا مستعد لذلك ؛ لدي معارف وأصدقاء كثيرون بالعاصمة !!(أجابته بسخرية فاجئته ( لا شكرا ؛ أبي سيتكفل بهذه المهمة !!) ابتلع ريقه في ضيق ؛ هل يعني كلامها انها ستوافق ما ان تكتشف انه انسان جيد ؟! لم لا ؟؟ لا تكن أنانيا يا "عباس" وافعل ما يجب عليك فعله فقط ؛ وما يحدث بعدها لن يكون الا قدر الله الذي لا مفر منه الا اليه ... أقنع نفسه بهذه الحقيقة الربانية ؛ فاطمئن قلبه وتقبل بخشوع كل ما سيقدره الله؛ وغادر متوجها الى الصالة وجلس بقرب "زينب" يداعبها ... هذه الطفلة الجميلة البريئة هي المتحدث الوحيد والمدافع عن حقوقه بهذا البيت! انها تطلق كلماتها بحماس وصدق شديدين دون مكترثة سوى بقول الحقيقة التي تعتقدها ..................
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
توجه "عباس" عصرا الى ورشته ؛ الحياة مستمرة ؛ والمكرمات المتدفقة تنهال على المواطنين بين الحين والحين معلنة ان عهد الفقر والظلم وهضم الحقوق قد ولى الآن ؛ وان دولة الديمقراطية والعدالة ستفرض نفسها من جديد بكل ثقة....

استمر "عباس" في ترقب مرير ؛ ان أكثر ما يشغله هو خروج "حسين" ومعرفة "منال" بالحقيقة ؛ فالأيام المحددة للسؤال عن العريس تكاد أن تنفذ ؛ وصبره أيظا لولا عناية الله ورحمته.

وأخيرا جاء اليوم الذي كان "عباس" فيه جالس في الورشة يمارس عمله بهمة وأمانة ؛ متجاهلا همومه الشخصية ؛ حين قدم له "أبا حسين" بوجه غامض جالسا بجواره بعد أن ألقى السلام وقال بمودة ( كيف حالك يا "عباس" ؟!) رد "عباس" بمنتهى الاحترام ( الحمد لله يا عمي ؛ ما أخباركم أنتم وما أخبار "أم حسين" ؟ سمعت ان صحتها متدهورة ؟؟( أكد له "أبا حسين" في راحة جمة ( انها تتماثل للشفاء ؛ يجب عليها ذلك !) تعجب "عباس" من جملته الأخيرة وسأله (يجب ؟؟) ضحك الشيخ الكبير وربت على كتفه بسعادة ( ألف مبروك !!) ضن "عباس" في البداية انه يعني خطبة ابنة خاله ؛ فوجم لهنيئة استفهم بعدها (على ماذا ؟؟) نهض "أبا حسين" فجأة وقد أدرك انه حقق بغيته بحرق أعصابه بما فيه الكفاية ؛ فأجاب باحتضانه وقد تدفقت الدموع من عينيه ؛ ففهم "عباس" ما يجري على الفور وصرخ بفرحة لا توصف (لا تقل لي ان "حسين" قد أفرج عنه ؟؟!!) هتف به الآخر ( بل لن أقول غير ذلك !!!) فكان العناق بعد فترة في محاولة للسيطرة على هذه السعادة التي تكاد تمزق جنبات قلبيهما ؛ ومسح "أبا حسين" دموعه مستأذنا با لانصراف (سأذهب لاحظاره من المخفر ؛ هل تأتي معي ؟؟) فكر "عباس" قليلا وقال بعدها وقد تملكه نوع غريب من المشاعر ( بل سأنتظره مع الباقين؛ وأعد له أجمل ترحيب يليق به ؛ ويظهر مدى سعادتي!) ربت الوالد باعجاب قبل أن يغادر لاستكمال اجراءات خروج ولده البكر ( خير ما تفعل !!(,,,,,,

امتلئت الطرقات والأروقة بالزينة والمصابيح الملونة ؛ وتجمع الرجال محتشدين في مسيرة تزف "عريس الحرية " الى داره؛ بينما نثرت النسوة النبات العطر وماء الورد بكل مكان وفرق رأسه احتفاءا به ؛ بينما يقبع "عباس" بجواره ضاحكا مستبشرا؛ والرفاق يحيطونهم من كل جانب مهللين ومكبرين ورافعين شعارات النصر بصوتهم الرنان,,
وصل الموكب الى الدار ؛ فدخل البعض الى المجلس لتبادل أطراف الحديث معه _ وبينهم "عباس" ورفاقه _ وانصرف البعض الآخر بعد ان جددوا تهانيهم لأمه وأخته الوحيدة "جنان" التي كانت في سعادة لا توصف للافراج عن أخيها من جانب؛ ولوعده اياها _ حال ما خرج _ باقامة عرسها هي و"أسامة" بنفس الأسبوع بعد أن يحدد مع "شيخ القرية" الليلة المباركة لمثل هذه المناسبة السعيدة من جانب آخر ..

وبعد اقامة صلاة المغرب بالمسجد ؛ عاد "عباس" مسرعا الى صديقه الغالي لينفرد به ويتزود من قربه بعد هذا الفراق؛ وليلملما حياتهما سوية كما كانا على الدوام ؛ فالتقى به في مجلس الرجال حيث انتشرت رائحة البخور ؛ وتناثرت مائدات المقبلات بكل مكان بعد انصراف الناس ؛ فجلس بجواره متنهدا براحة ؛ وسأله للمرة الألف ( ما أخبارك الآن ؟؟( ابتسم "حسين" برقة وهدوء علمته اياه أيام السجن الصعبة ؛ وقال بابتهاج كبير ( كل الخير والحمد لله ؛ أخبرني ؛ كيف وجدت "زهراء" ؟؟) ضحك "عباس" بقوة ومازحه (في غاية السعادة ؛ هل تشك في ذلك ؟!) أنبه "حسين" بمودة عميقة (لا تسخر مني واخبرني عن آخر أخبارها وبسرعة !!) أقطب حاجبيه محاولا التذكر وقال بجدية ( رأيتها ضمن حشود النسوة بالموكب؛ كانت تنثر الورد المحمدي فوق رأسك دون أن تنتبه اليها !) عض "حسين" على شفته السفلى بندم شديد وخمّن ( لابد انها الآن تعتقد انني مغرور ومتكبر ولا أبالي بمن حولي من المهنئين!!) ربت "عباس" على رجله بسخرية (لا تخف يا عزيزي ؛ "خيرها في غيرها " ؛ فما دامت قد تبرعت لرمي الورد على جمجمتك الفارغة ؛ قد تتنازل وتقبل بوضع الخاتم الفضي في اصبعك بعد أن تقضي عمرك متوسلا اياها ومستثيرا لشفقتها!!) ضحك "حسين" بقوة على هذا التعليق حتى أمسك بمعدته التي صارت تؤلمه من كثرة الضحك ؛ وهتف فيه ( أرجوك !! أنا "جديد" لتوي ولا أتحمل نكاتك الثقيلة ؛ خذني رويدا رويدا !!) أيده "عباس" بروح متحمسة ( معك حق ؛ قلي ؛ ما هي مشاريعك ؟) أسرع "حسين" في الرد ؛ وقال بتصميم وثقة ( أول ما سأفعله هو التقديم للكورس الصيفي بالاظافة لعملي بالورشة ؛ وخلال ذلك قد أجد وضيفة مؤقتة تضمن لي راتبا ثابتا الى أن أتخرج من الجامعة وألتحق بالعمل؛ وسأتقدم ل "زهراء" بأسرع وقت ممكن؛ فقد سمعت ان منزلهم لا يتوقف عن خروج ودخول " الخطّاب" !!) ضحك "عباس" غامزا اياه بكتفه ( عدنا للمزاح ؟) شاركه "حسين" ضحكاته وهو يحتضنه في قوة أنسته الفراق وأيامه الموحشة وسأله بعدها (وأنت ؟ ما أخبار "منال" ؟؟( شعر "عباس" بالخيبة والألم يعصر فؤاده ( أخباري لا تسر ..(خمّن "حسين" برعب ( اذن فقد خطبت ؟!!) ابتسم "عباس" بمرارة ( تقريبا ؛ تقدم لخطبتها محام مشهور اسمه "عادل زهير الحداد " وهم في طور السؤال عنه ..(قاطعه "حسين" بدهشة صائحا فيه ( ماذا تقول ؟؟ هذا الآثم ؟! لقد سمعت عنه الكثير في المعتقل .. انه محام مرتشي عديم الضمير والمباءىْ؛ يوهم العائلات المسكينة انه سيدافع عن معتقلهم؛ فيسرق نقودهم بالدهاء والحيلة دون أن يفيدهم بشيء !!!(صدم "عباس" وبان الذهول واضحا على محياه وصاح برفيقه وقد تجدد الأمل بقلبه (هل أنت متأكد من ذلك ؟؟) أصر "حسين" ( كل التأكيد !! ثم قلي؛ هل كنت تنتظر حتى يقول لك أحد ما يشينه فتسارع بالمبادرة بخطبتها لنفسك يا رجل ؟؟!!) أحرجته كلمات "حسين" وبرر له ( كنت أنتظر خروجك حتى أستأذنك وأبادر باخبارها بالحقيقة ..) أنبه صديقه ناصحا ( لست بحاجة للاستئذان مني يا "عباس" ! أنت انسان راشد تعرف الصواب والخطأ ؛ وما دمت قد وقعت في مأزق يتحتم فيه قول الحقيقة؛ فيجب أن تقولها دون تردد لدقيقة واحدة ؛ فهذه الدقيقة قد تفرق الكثير وتقضي على سعادتك . ثم ان الوضع مختلف الآن، ولنا الحرية في التظاهر والتعبير عن رأينا دون أن يمسنا سوء ؛ فنظام "أمن الدولة" قد جمد؛ وهذه معلومة مؤكدة !!(
ارتاح "عباس" لهذا الكلام وتنهد براحة كبيرة حامدا الله على هذا المن العظيم ؛ فوكزه "حسين" مشجعا اياه ومستحثا له (ماذا تنتظر يا رجل ؟؟ هيا قم واعلن حقيقتك على الملأ ؛ ولا تنس أن تكون "منال" أول من تخبر!!!(.........
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
نهض "عباس" وغادر منزل صديقه بمنتهى الحماس قاصدا بيت خاله حيث استقبلته "زينب" صارخة وضارعة اليه بطفولية وببراءة محببة ("عباس" ؛ تعال لتخبرهم ان "منال" ليست عروسة "عادل" هذا .. تعال معي !!) جرته بيدها الصغيرة الى داخل الصالة حيث يجلس خاله وزوجته و"منال" بكامل حجابها ؛ وعلى الجهة المقابلة يقبع شاب أنيق ذو بدلة سوداء وربطة عنق وقد سرح شعره الكث الأسود الى الوراء بعناية وأطلت منه نظرة ازدراء وتعجرف حالما وقع بصره على "عباس" المتواضع بكل شيْ ؛ وفي ملبسه بالذات ..
رحب به خاله بشكل مبالغ فيه ( أهلا "عباس" ! تعال يا حبيبي واجلس الى جواري !) نفذ "عباس" مطلب خاله ؛ فأسرعت الزوجة في قولها بفرحة واضحة على قسماتها بينما تحاول "زينب" الصعود الى حجره ؛ فيرفعها اليه في حنان كبير (لقد حددنا موعد الزفاف يا "عباس" ؛ بارك لابنة خالك!!!) نهض "عباس" كمن مسه تيار كهربائي وسط دهشة الجميع وصاح بجدية نازعا دور الحماقة والبله الذي أثقل كاهله سنينا طوال قاسى خلالها ما يأمل أن يثاب عليه ( "منال" لن تتزوج هذا المخلوق الشاذ !!!) عقدت ألسنة الجميع من فرط الذهول وعدم التوقع لمثل هذه الكلمات المرتبة التي خرجت من فم هذا الرجل "الأحمق" _بما فيهم "عادل"_ حتى نهض الأخير بثورة عارمة وصاح بمنتهى التحدي والغضب ( احفظ لسانك يا هذا والا أذقتك من العذاب ما لا تتحمله!!) قهقه "عباس" ساخرا وتحداه بثقة ( بل أنا من سيذيقك العذاب ويفضحك على الملأ ان لم تغادر على الفور!! انني أعرف عنك أكثر مما تتصور!!) نضخت وجنتا "عادل" بالاحمرار احراجا؛ وحاول اللجوء الى "أبا محمد" ليداري خجله مخافة افتضاح أمره (عمي.. انني أهان في منزلك !! هذا "المجنون" قد فقد ما تبقى لديه من عقل !!) تدخل خاله مقتربا منه في حذر وكأنه لم يعد "عباس" الذي عرفه واعتاد عليه ؛ وصدق للحظة ما قال "عادل" عن عقله ؛ فراح يهدئه قائلا (اهدأ يا بنيّ ؛ الغضب من الشيطان) !!قاطعه "عباس" مبعدا ساعده عن قبضة خاله بحركة متمردة سريعة وصاح موضحا بمنتهى الانفعال ( انني لست مجنونا !! لا تعاملني على هذا الأساس !!!خالي... لقد اصطنعت ذلك لأحمي نفسي فقط ؛ صدقني!!) نهض الجميع والتفوا من حوله وعلامات الذهول والفضول ترتسم على محياهم بما فيهم "منال" التي لم تتوقع منه الاقدام على هذا الأمر .. وصاحت زوجة خاله ( ماذا ؟؟؟؟( أكد لها مقرا ببقية الحقيقة (هذه هي الحقيقة يا زوجة خالي !! لقد كنت محاصرا بالشكوك لقيامي بعدة أعمال سياسية...(
أكملت "منال" بشكل مفاجىْ أذهل الجميع بنبرة هادئة مخاطبة أمها ( انه متخرج من الجامعة يا أمي ؛ لقد كان يدرس معي بكلية الآداب !!) ثغرت الأم فاهها ولم تستطع التعليق ؛ بينما ضرب "أبا محمد" كف بكف ( انا لله وانا اليه راجعون !!حتى هذه "الشيطانة" تعلم وأنا في واد آخر !!!) ووضع يده على رأسه وبدى الألم واضحا على قسماته ؛ فسارع "عباس" اليه وأجلسه في تخوف كبير صائحا ( خالي !! ماذا جرى لك ؟؟) أكد له خاله مطمئنا ( صداع بسيط ؛ فاليغادر الجميع الآن وليبقى "عباس" !!) استجاب الجميع الى أوامره في اذعان ؛ ما عدا "عادل" ؛ فقد وقف في كبرياء وتعجرف وسأل (وأنا يا عمي ؟؟) رفع "أبا محمد" عينين منهكتين ؛ وقال بشيْ من السخرية والحزم ( يبدو انني قد تسرعت قليلا بالسؤال والموافقة تحت ضغط من زوجتي ؛ أمهلنا حتى نسأل عنك أكثر يا "عادل" !) احتج "عادل" ( ولكن...) أصر الوالد (لا تتعجل؛ الزواج قسمة ونصيب ؛ وان كانت "منال" من نصيبك لسوف تأخذها !) تطلع "عادل" اليه بنظرات مشككة وجلة؛ وغادر دون وداع؛ وكأنه قد أدرك انه لا رجوع الى هذا المنزل الغريب؛ بينما استدار "أبا محمد" لأبن أخته وتطلع اليه بعينين غير مصدقتين لفترة ؛ سأله بعدها بهدوء ( والآن ؛ حدثني قليلا لأستوعب ما يجري منك يا "عباس" !!(شعر"عباس" بتأنيب الضمير لما سببه من ارباك وأنكس رأسه في خجل ( أنا آسف يا خالي.. لقد سببت لكم المتاعب..( قاطعه خاله بحزم (دعك من هذا الآن !) أجابه "عباس" على سؤاله ( عندما توفت أمي يرحمها الله ؛ وهرب "جاسم" ؛ انتابني اليأس ؛ وانطويت على نفسي حتى كدت أجن فعلا ؛ ولكن "حسين" وقف الى جانبي وواساني ؛ وأقنعني بارتياد الجامعة التي كانت حلمي الكبير بعد أن توافر لدي مبلغ من المال من عملي بالورشة .. وفعلا ؛ سجلت بالجامعة بنفس الفترة التي عدتم فيها وبادرت "منال" لاتمام دراستها . ومع هذا كله ؛ اشتعلت الأحداث السياسية من جديد ورأيت ان من واجبي التفاعل مع هموم بلدي؛ فأقدمت على كتابة مقالات كدت أسجن بسببها ؛ لولا تقمصي لدور الأحمق ؛ والذي اقترحه عليّ "حسين" بعد تفكير عميق وجدي. وهكذا أصبحت ذلك الأحمق الأبله ؛ وساعدتني اشاعات الناس وأقاويلهم التي أكدت ان ما حدث لأمي وأخي هو السبب الأساس بفقداني عقلي !! وهكذا أتممت دراستي بعيدا عن الأنظار مدعيا انني أقوم بتوصيل "حسين" الى الكلية لا غير (صمت "عباس" مستجمعا أفكاره ؛ فسأله خاله باهتمام شديد ( ولماذا أخبرت "منال" بالذات وأخفيت الأمر عنا جميعا ؟؟) أجابه "عباس" بسرعة مؤكدا بمنتهى الصدق ( لم أخبر "منال" ؛ ولحد الآن لا أعلم من الذي أخبرها ! لقد حاولت ايهامها انني "جاسم" عندما رأتني بالكلية!!) ضحك خاله بعفوية ("جاسم" ؟! لقد أكد لها "جاسم" بنفسه انه يعمل باحدى المستشفيات كحارس أمن وانه لم يكمل دراسته الاعدادية عندما زارنا لأول مرة بعد زواجه !!!(
أدرك "عباس" حينها ما يجري من حوله ؛ وعرف ان مخاوفه بذلك اليوم كانت حقيقة.. "منال" علمت كل شيْ من "جاسم" عندما تحدث عن حياته بحسن نية؛ وكانت طوال تلك الفترة تعامله على انه "عباس" بعد ان أدركت انه شاب جامعي عاقل !!
ولكن ؛ أتراها أدركت أسبابه بنفس الفترة ؟؟؟
قاطع خاله حبل أفكاره مربتا على قدمه في خجل لادراكه بأنه لم يعد ذلك "الطفل" الأحمق الذي كان بنظرهم بالأمس ؛ ففهم "عباس" ما يجول في خاطره ؛ واحتضنه بقوة وصاح فيه (خالي.. انني لا زلت طفلك المدلل ؛ ومهما كبرت ؛ ستظل بالنسبة لي بمثابة والدي رحمه الله ) تمتم خاله في حب عميق وسعادة كبيرة ( بارك الله فيك يا بنيّ !) وعند هذه العبارة دخلت زوجة خاله برفقة "منال" بعد ان تملكهما الفضول والقلق على مجريات الأحداث ؛ فأبصرا تعانقهما المؤثر ودموعهما الفيّاضة ؛ فتأكدتا ان كل شيْ على ما يرام ؛ وان الأب لازال راض ومحب لأبنه ؛ وان "عباس" عاقل بحق ؛ وذلك الدور الذي أجاده ليس الا دور فرضته الظروف الصعبة كما قال ؛ وشعرتا بالسعادة !!!!!............
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الفصل السابع
قدمت اليه على استحياء ؛ كانت عيناها تشع سعادة لم تعهد الى اخفاء آثارها ؛ وجلست على مسافة شبه ناءية مبتدرة حديثها ("عباس" ؛ انني أشكرك على كشف حقيقة "عادل" قبل فوات الأوان ) أطرق رأسه بخجل عندما لمح زوجة خاله وهي ترميهما بنظرة خبيثة ذات مغزى من داخل المطبخ ؛ وتمتم برقة ( هذا واجبي نحوك يا "منال" ...) وسكت ؛ فقالت لألا يقطع حبل الحديث قبل أن تتمكن من قول ما تريد قوله (لقد قمت يا ابن عمتي بما هو أكثر من الواجب؛ ولأنني اكتشفت انك تخاف عليّ كأخت لك ؛ فانني أود اسعادك بالخبر الذي تلقيته للتو ) تجاهل "عباس" كلمة "أخت" التي غصت في حلقه بمرارة وقال بقلب مفتوح ( اخبريني اذن لأشاركك السعادة !) ابتسمت فرحة وتمتمت وقد اتخذ منها الارتباك مأخذا كبيرا (لقد قبلتني مجلة "العهد" للعمل لديها بشكل دائم مقابل أجر لا بأس به) ..صدم "عباس" ؛ وتصبب العرق على جبينه ؛ واختنقت الحروف في حنجرته ولم يعد يستطع النطق ؛ ولكنه قال بعد فترة قصيرة بشيْ من الحماس المصطنع ( ألف مبروك ! لقد تحقق حلمك أخيرا !(تمتمت مؤكدة ( نعم..) سألها ( متى تبدأين العمل؟) أجابت ( غدا ان شاء الله ) اتسعت حدقتا عينيه بعدم توقع ( بهذه السرعة ؟؟ (تيمنت بمثل معروف (خير البر عاجله !) استسلم متنهدا ( معك حق ؛ أتمنى لك التوفيق !) ابتسمت بسعادة تملىْ وجدانها ( شكرا لك يا "عباس" ! ( واستطردت بعد برهة من التردد ( أردت أن أسألك عن أمر ما يا "عباس" ؛ لقد صادف ان تعرفت على شاب أثناء كتابتي للشعارات بأيام الأحداث؛ حيث حذرني من قدوم الدوريات بذات ليلة... انه يشبهك ؟؟) تورد خدا "عباس" خجلا .. "منال" لا يمكنها التغير !! .. "منال" هي "منال" ؛ الفتاة الفضولية الذكية التي لا تحب أن تستغفل بأي حال من الأحوال؛ وتمتم ( انه أنا !!(تابعت استجوابها مستغلة الظرف الذي سمح لها بمحادثته تحت مراقبة من والدتها ( اذن فأنت كنت "عبدالله" الذي فر بي بالمسيرة وبكى معي وواساني لاستشهاد "ياسر" ؟؟) أومأ برأسه ايجابا ؛ فراحت تستعيد ذكرياتها الغير قديمة معه؛ وقالت بعدها بلهجة غريبة ( لقد أجدت التمثيل يا "عباس" !!) أنكر قولها بسرعة ( ولكنك كشفت أمري سريعا وقبل الجميع!!) عارضته ( كان ذلك بمحض الصدفة !) عدّل قولها ( بل بمشيئة الله !) تطلعت اليه بشيْ من الاعجاب مكبرة ايمانه وحرصه على هذا الايمان حتى بطبيعة اختيار الألفاظ ؛ ونهضت متثاقلة قائلة باستئذان (اعذرني يا ابن عمتي ؛ أنا على موعد مع "جنان" الآن ) سألها باهتمام (ما أخبارها مع "أسامة" ؟؟) أكدت له ( بأحسن حال ! على فكرة ؛ يعود لك الفضل بهذا بعد الله !!) تعجب واستفسر ( أنا ؟؟؟) أصرت ( نعم ؛ فقد أخبرتني بما حدث لها وكل شيْ ؛ حتى انها أطلعتني على قصة "حنان" التي ما تزال محتفضة بصفحاتها) صدم "عباس" وأنبها ( عليك أن تقنعيها بنسيان هذا الموضوع يا "منال" ؛ ولتتخلص من هذه المجلات !!!) حدقت فيه غير مصدقة ( ولما ؟؟) أجابها موضحا ( لأن الماضي ماضي ؛ والحاضر الجميل أمامها مع خطيبها؛ فيجب أن لا تبيع الحاظر بالماضي ؛ أليس كذلك ؟؟) تملكها الذهول لعمق ذكاءه وحكمته ؛ وبان الاضطراب واضحا على محياها وهي تتمتم مغادرة ( بلى ! انك على حق !!(
تقدمت منه زوجة خاله بعد انصرافها ؛ وسألته محاولة تعويضه عن تصرفاتها الجارحة بحقه مؤخرا قائلة بمنتهى الحنان والرقة ( أخبرني يا بنيّ ؛ هل وفقت أنت أيظا بايجاد العمل المناسب ؟!) أجابها على استحياء وقد أدرك مقصدها من هذا السؤال الرتيب الذي تسأله "العمة" عادة لزوج ابنتها ( بلى يا زوجة خالي ؛ لقد عينتني مجلة "الحرية" موضفا لديها براتب لا بأس به ) أشرق وجهها وبدت في غاية السعادة ؛ وسارعت بالاستفسار ( الحمد لله !! ومتى تبدأ العمل ؟؟ (أجابها ( غدا ان شاء الله!) فاجئته "بزغرودة" ندت عنها دون شعور ( عسى الله أن يوفقك ويسدد خطاك يا "عباس" يا ابني !!!) قاطعها صوت خشن من خلفها مؤنبا )كان بامكانك ان تدعي له دون اطلاق الزغاريد !!!) انكمشت الزوجة لرؤية زوجها وسماع تعليقه ؛ بينما تقدم الأخير للجلوس بجوار ابن أخته وعلى شفتيه ابتسامة عريضة ( ألف مبروك يا "عباس" ؛ "عقبال" فرحة الزواج ان شاء الله !!) ابتلع "عباس" ريقه في ألم ( يبدو ان هذه الفرحة لن تتم يا خالي!( ربت خاله على قدمه في حنان وواساه قائلا ( "منال" فتاة عنيدة ؛ فالتفتش عن امرأة أخرى تجد معها السعادة التي تبحث عنها !!(فاجئه اقتراح خاله ؛ كيف يطلب منه هذا الطلب ؟؟؟ كيف ينصحه بالابتعاد عن "منال" والزواج بغيرها وهو الأمر الذي لا يقدر على مجرد تخيله ؛ فما بال لو كان حقيقة واقعة ؟؟؟ لابد أن خاله لا يشعر بمدى تأثير هذه الكلمات على قلب كقلبه ؛ وعلى أحلام راسخة كأحلامه!!! ورد عليه بمنتهى الصدق ( لا أقدر يا خالي ! لا يمكنني التصور ان امرأة سواها ممكن أن تشاركني حياتي !!) تنهد خاله بحزن ( ماذا عساي أن أقول يا بنيّ ؟؟ أنت أعلم بموقفها من هذا الموضوع !!) علق "عباس" بابتسامة حزينة منكسرة ( لا عليك يا خالي ؛ فقط ادعي لي بالتوفيق ..) رفع "أبا محمد" يديه عاليا ودعى بحرارة وتوسل بمن خلقه ( أنالك الله ما تريد يا "عباس"يا ابني !!!(...........................

غادر "عباس" منزل خاله بقلب مكسور متألم أثقلته الهموم ؛ ولم يجد أدنى رغبة في الرجوع الى بيته ؛ فتوجه الى الطريق السالكة به الى دار أخيه في محاولة أخيرة للنسيان. للأسف ف "حسين" مشغول تماما بهذه الأيام ؛ وعمله وخطوبته العاجلة قد سرقاه من "عباس" كما سرقه اياه السجن قبلا؛ وبالكاد أصبح يراه في يوم الجمعة حيث يتم تناول وجبة الغداء بحظور رفاقه جميعا بمنزل "عبدالله"؛ أي بمنزل خطيبته !!

يال الزمن الصعب !! لقد فقد "حسين" ثانية؛ ورفاقه كل أصبح لديه المشاغل التي تكفيه وتزيد ؛ وها هي "منال" تتخلى عنه أيظا معلنة انها غير راغبة بالارتباط به بكل مكابرة وتحدي!! ترى لما فعلت ذلك؟؟ لماذا آثرت جرحه في الصميم وهي الأعلم بمدى عمق المشاعر البريئة التي يكن لها مذ كانا أطفالا في حيّ واحد ؟! هل تراها نست ما كان بينهما ؟؟ لا مستحيل !
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
"منال" لم تنس !! ولكن ؛ ما القصة ؟؟ وما السبب؟؟ ان شكرها له منذ قليل على جهوده بكشف "عادل" قد أثبتا له انها غير ساعية للمال بقدر ما تسعى للأخلاق؛ فهل قصّر أو تهاون في دينه ؟! وهل صدر عنه ما يثير الشك بنزاهة أخلاقه ؟؟
الله أعلم !!! توقفت أفكاره عند النقطة التي تعودت أن تتوقف عندها مذ جرى ما جرى ؛ فسارع الى ابعاد هذه الوساوس بالتعوذ من الشيطان الرجيم ودلف الى داخل شقة أخيه بعد الاستئذان ؛ فاستقبله "جاسم" الذي بات دوامه بأول الليل في حب وأخوة صادقة ؛ محتلا المقعد المجاور له ( ما أخبارك يا أخي ؟ صحيح ما أخبرتني به عبر الهاتف ؟؟) أكد له "عباس" متظاهرا بالسعادة الجمة ( نعم ؛ وسأبدأ منذ الغد !) احتضنه في قوة وحنان ( ألف مبروك ؛ ألف مبروك !) تأثر "عباس" (شكرا لك يا أخي ) تابع "جاسم" مازحا بعد ان فكا عناقهما القصير ( ها قد آتت تلك المقالات ثمارها أخيرا بعد ان صدّعت رأسنا بها أنا وأمك يرحمها الله!) ضحك "عباس" في شجن ؛ وسرعان ما أجهش في البكاء ؛ فانكب عليه "جاسم" مستفهما بقلق شديد ( ما بك يا "عباس" ؟؟ لا أضنها دموع السعادة !!) تمتم من بين دموعه الغزيرة ( بل انها هيّ !(
أنبه توأمه بعنف ( لأول مرة تكذب يا "عباس" ؛ حتى انك لا تجيد ذلك !! هل هي "منال" ؟؟) اعتصم "عباس" بالصمت؛ فتابع "جاسم" بلهجة متأثرة (انها لم توضح سبب رفضك حتى ! انها مزاجية غريبة الأطوار ؛ هذا لم يكن رأيي ب "منال" سابقا بالطبع ؛ لقد تغيرت كثيرا) ولما لم يجب تابع أيظا (المهم في الأمر اننا لا نقدر على ارغامها في شيْ ؛ فهيّ فتاة راشدة الآن؛ كل ما أطلبه منك الآن ألا تعذب نفسك ؛ حاول نسيانها وتزوج !) ما بال "جاسم" وخاله ؟! هل اتفقا عليه ؟! هل تظاهرا على اقناعه ؟؟ أم ان هذه وجهة نظر طبيعية لا يختلف عليها اثنان ؟؟ نعم ؛ كلامهما واقعي ّ _هكذا قال لنفسه وقد قفل راجعا الى منزله _ ولكن تطبيقه محال !! كيف تطاوعه نفسه على هجر "منال" ؟؟ فالتهجره هي أولا ؛ فالتتزوج من غيره وعندها لن يتجرأ حتى على التفكير بها !! نعم ؛ هذا هو الحل الوحيد من وجهة نظره !!!

ألقى بجسده على سريره الخشبيّ وراح يفكر بعمق في كل ما يتعلق بحياته ... الورشة وتأجيرها ؛ "حسين" وخطوبته ؛ مشكلة البطالة التي لم تحل رغم محاولات الحكومة الظاهرية؛ عناد "منال" ؛ اعلانات ظهور " ميثاق العمل الوطني "الذي تطالب جميع فئات الشعب بتأييده ترغيبا وترهيبا برغم قصوره الدستوري ؛ غموض الموقف وتراكم الأحداث ؛ وأخيرا عمل "منال" بالمجلة المعادية لمجلته !!!!!!!

ان أكثر ما أسعد "عباس" في اليوم التالي هو قرار رئيس التحرير بتعينه بالصفحة السياسية؛ ولكن ما فاجئه حقا وأذهله حالما دخل الغرفة المتواجد فيها مكتبه ؛ هو انه سيتشارك العمل فيها مع ثلاث سيدات دون رجل غيره ؛ مما أوقعه في حيرة وخجل حاولت احداهن تبديده وهي تبتسم بمنتهى اللطف مادة يدها لمصافحته (أهلا بك يا أستاذ ؛ اسمي "فاتن" !) ابتسم بأدب دون أن يرفع يده لمصافحتها وتمتم قائلا ( "عباس" !!) تطلعن النسوة اليه في دهشة لتصرفه ؛ بينما تورد خدا "فاتن" احراجا وشعرت بغيض لم تستطع ابتسامته محوه؛ وعادت الى عملها متجاهلة اياه ؛ وكذلك فعل بعد أن تم التعارف بينه وبين المرأتين الباقيتين؛ حيث كانت احداهن تدعى "فاطمة" والأخرى "مريم" ؛ وكلاهما متحجبتان؛ ماعدا "فاتن" ؛ فهيّ لم تكن كذلك !!

تملكه الحماس ؛ وانكب على عمله دون أن يشعر بوجود أحدا ما يقتحم عليه عالمه الخاص وكتاباته المعبرة عن الواقع دون زيف أو مداراة؛ وراح يكتب في المقال الذي سيحدد به مدى كفاءته وقدرته على مزاولة العمل الصحفي الشاق . واستهوته الكتابة والتعبير عن "الميثاق" وخلفياته وبنوده؛ حتى قاطعه صوت رجالي وقد انكب على مكتبه مازحا ( يال النشاط والهمة ! اعطنا ثانية من وقتك على الأقل لمجرد تبادل الأسماء!!) رفع "عباس" رأسه مبتسما ؛ فأبصر شاب أنيق في العشرين ؛ أشقر الشعر ؛ عسليّ العيون ؛ يبدو من مظهره واسلوبه المنطلق انه قد قضى وقتا طويلا في هذا المكان ؛ وكاد أن يجيبه؛ ولكن "مريم" تبرعت قائلة ( اسمه الأستاذ "عباس" ) تابع الشاب مزاحه وقد تصافحت الأيدي ( الترقية لا تزال مبكرة !!) أنبته "فاطمة" بقولها ( كف عن هذه الحركات يا "علي" ! انه جديد هنا ؛ فالترحمه قليلا !!) استغل "علي" ما قالت لمواصلة مزحاته مستديرا ل "فاتن" في حركة درامية جاثيا على ركبتيه (انما "ليلى" هي من لا يرحم "قيسا(" !! ضحكت النسوة بخفة _ ما عدا "فاتن" _ بينما علق "عباس" بحزم ناصحا (الأفضل ل "قيس" أن لا يتمادى باظهار حبه بهذه الطريقة حتى تحترمه "ليلى" ولا تعافه!!) تطلعت النسوة الثلاث اليه بمنتهى التقدير والاعجاب ؛ بينما جلس "علي" على الكرسيّ المقابل لمكتبه وتمتم بجدية هذه المرة (معك حق؛ دعنا من هذا الآن وأخبرني بانطباعك عن المكان ؟( رد "عباس" بلطف ( الحمد لله ؛ كل شيْ على ما يرام ) تابع "علي" مستفسرا ( أنت "عباس" نفسه الذي كان يكتب تلك المقالات الاجتماعية كل أربعاء؛ أليس كذلك ؟!) أجاب "عباس" وقد أدرك صحة تخمينه بأقدمية عمل الشاب بالمجلة (نعم !) علٌّق "علي" باسهاب ( ان كتاباتك كانت رائعة يا "عباس" ؛ انها تعالج قضايا حقيقية تحدث كل يوم بالمجتمع ؛ وتسلط الضوء على ثغرات مهمة قد يتجاهلها البعض سهوا أو عمدا ؛ لطالما تمنيت أن تكمل دراستك لتأتي الينا ؛ وها قد حصل !!) أعجب "عباس" باسلوب "علي" وثقافته وصراحته البعيدة عن النفاق وشكره ( انني شاكر لك يا "علي"( ابتسم "علي" وأكد له ( انني لا أجامل ! وبوسعك سؤال احداهن !) وأشار الى المكاتب الثلاثة القريبة من بعضها ؛ فابتسم "عباس" وقال بتأكيد ( انني متأكد مما تقول؛ أخبرني؛ هل تعمل بالصفحة الاجتماعية اذن ؟!) أسرع في النفيّ (لا ؛ انني أقرأ لكم فقط وأتابع المقالات بالصور؛ والكلمة بالمظهر !(استفسر "عباس" ليتأكد تماما ( مصوّر ؟؟( تدخلت حينها "فاطمة" ( وبارع أيظا ؛ سترى !) نهض "علي" وصافحه منصرفا وقد تطلع الى ساعته بعجلة ( أراك لاحقا يا "عباس" ؛ لديّ تصوير الآن لاحدى المؤتمرات !) تمتم "عباس" بمودة (ليوفقك الله !) وعاد الى عمله .
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
وعند الظهر ؛ عاد "عباس" الى منزل خاله ليتناول معهم وجبة الغداء ؛ وكانت "منال" لم تحظر بعد ؛ فجلسوا بانتظارها على المائدة ؛ وما ان دخلت ؛ حتى صاحت "زينب" ( هاقد أتت أختي "منال(" !ورمت "منال" بحقيبتها على الأريكة في انهاك وتقدمت الى المائدة دون أن تخلع عباءتها وحجابها مما أقلق والدتها فسألتها على الفور ( ما بك يا "منال" ؟! لهذه الدرجة أنت منهكة ؟؟) أجابت "منال" وقد آثرت الانكباب على الطعام بعد البسملة ( نعم يا أمي ؛ فقد بعثت في مهمة لعدة قرى!) استنكرت الأم (من أول يوم ؟؟) أكدت الابنة (هذا ما حصل ؛ يبدو انه اختبار لقدراتي !) تطلعت الأم اليها بعدم تقبل ؛ بينما سألها والدها باهتمام كبير ( ولماذا جبت القرى ؟؟( أجابت بحماس ( لقد ذهبنا في جولة استفتائية حول "الميثاق" ؛ الأغلب قال "نعم" ؛ أؤكد لكم ان "الميثاق" سينجح حتما !!) تطلع اليها "عباس" في عجب ! ترى "منال" متحمسة لل "ميثاق" لهذه الدرجة ؟؟ وما الذي يلوح لها بأنه سيحصل بعد "الميثاق" ؟؟ أهي الحرية أم السجن الطويل ؟؟
أهو العدل أم الظلم المتخفي خلف ألف قناع و قناع ؟؟ ولم يطق صبرا فسألها ( ما تصوراتك عن "الميثاق" يا "منال" ؟؟(
كان واضحا من نظراتها انها تدرك نيته في معارضتها؛ يبدو انها عرفت بموقع عمله وأدركت انه لا يريد سوى كسر مفاهيمها وايمانها بمجلتها المعادية لمجلته ؛ فقالت في حبور وثقة زائدة ( "الميثاق" هو باب الديمقراطية والمساواة بين مختلف المذاهب والأجناس بالدولة ؛ كما انه مفتاح حرية الرأي والتقدم والازدهار السياسي والاقتصادي !!) تعجب كثيرا ؛ وتملكه الذهول ؛ ف "منال" تعيش في وهم كبير سيحطم كل أحلامها لو صدمها فيما بعد بالحقيقة المرة ؛ فالذلك حاول أن يوضح لها بعض الأمور المهمة ( يا ابنة خالي هذه مجرد شعارات جوفاء ؛ فا ال "الميثاق" مجرد قناع وضع لتهدئة الرأي العام؛ ولاعطاءهم القشور بدلا من لبها ؛ ألا وهو تطبيق الدستور بجميع بنوده دون تعطيل.. الناس لا تدرك هذا الآن ؛ فالكل منشغل بفرحته الخاصة والمكرمات متناسيا ما سيجري فيما بعد!!) أصرت على رأيها في ثقة وعناد (انك متشائم يا "عباس" ؛ لن يجري الا الخير بأذن الله؛ والشيوخ بذات أنفسهم شجعوا الجماهير على خوض هذه التجربة ) أنكس رأسه في ألم ؛ وأصر بعدها على مواصلة توضيحه ( الشيوخ لم يشجعوا الجماهير بمعنى الكلمة ؛ كل ما في الأمر انهم أوضحوا الشروط الواجب توافرها في "الميثاق" ؛ ولمّحوا أكثر من مرة بأن هذه التجربة ليست التجربة المرجوة ..(
لم تستطع "منال" الرد ؛ فقد أصر والدها أن يكملا طعامهما أولا ؛ ومن ثم يناقشان مثل هذه المواضيع ؛ فاستجابا لرغبته بكل احترام وطاعة .
وبعد الغداء لم يتسن ل "عباس" الفرصة لتتمة مناقشته ؛ فقد أتاه اتصال عاجل من "علي" على هاتفه المحمول الذي ابتاعه مؤخرا ليطلب منه موافاته الى المجلة حيث ان رئيس التحرير قد عهد اليه بتغطية احدى المحاظرات حول "الميثاق" برفقته؛ فما كان منه الا أن يغادر على الفور ؛ خصوصا بعد أن أدرك ان حديثه مع "منال" لن يجدي نفعا ؛ لاعتقادها بأنه يريد اظهار أفضلية المجلة التي يعمل بها لا أكثر....

عمت الضجة وتصارعت الآراء ؛ وصارت الدولة على أعتاب نقلة حظارية وسياسية فريدة من نوعها ؛ وانقسمت القرارات لعدة مرات حتى توحدت _ بغالبيتها_ على خوض التجربة والتوقيع ب "نعم" ل "ميثاق العمل الوطني" الذي يعد يتحقيق آمال الشعب وأحلامه ؛ وبتطبيق مباءىء الدستور وقيم الأصالة والديمقراطية .. وفي ذلك اليوم الذي تدفقت به الحشود على مختلف المحافظات للتوقيع بالاستفتاء الشعبي ؛ كان "عباس" جالسا في وحدة بانتظار رجوع أسرة خاله الصغيرة بعد ان آثر عدم الذهاب؛ محاولا التسلي والاستفادة بقراءة كتاب قديم عن السياسة بمجلس بدول مجلس التعاون ؛ وبعد ساعتين على وجه الدقة ؛ انفتح الباب الرئيسي ليدخل منه خاله برفقة زوجته وبناته الأثنتين ؛ وبادرته زوجة خاله بشيْ من تأنيب الضمير (يا حبيبي يا بنيّ ! لابد أنك جائع جدا ولديك الكثير من الأعمال ؛ أليس كذلك ؟ نحن آسفون على التأخير ؛ كان المكان مزدحما وبالكاد انتهينا ) حاول "عباس" التخفيف من شعورها بقوله ( لا أبدا يا زوجة خالي ؛ لست متعجلا ؛ ثم ان هذا الكتاب الرائع قد أنساني الجوع ) وأشار للكتاب الذي في يده ؛ فاطمئنت وأسرعت في الانصراف لاعداد المائدة ؛ بينما آثر زوجها تبديل ملابسه بالغرفة ؛ وفضلت "زينب" اللعب بمكعباتها المنثورة بالصالة منذ وقت قريب ؛ أما "منال" ؛ فقد استبدلت عباءتها بزيها المنزلي وانضمت اليه بالصالة وجلست على مسافة منه ؛ متطلعة اليه بارتباك قبل أن تتجرأ وتقول (ما مضمون الكتاب الذي تقرأه ؟) أجابها بخجل دون أن يرفع عينيه ( انه حول السياسة بدول مجلس التعاون منذ ثلاثون عاما) بدى الاهتمام واضحا على محياها ( حقا ؟ وعلى ماذا كانت تقوم السياسة قبل ثلاثون عاما ؟!) أجابها بلهجة متحدية مقصودة (على الدستور! ) فهمت "منال" ما يرمي اليه ؛ ان "عباس" يتخذ من كل مناسبة سياسية حجة ليجرحها ويقلل من شأن أفكارها ! لا بأس ؛ فهو المخطىْ في نظرها ؛ والمخطىْ لابد أن يكتشف خطأه بيوم ما !! وحاول "عباس" استمالتها ( هل تحبين الاطلاع عليه؟) أجابته بمنتهى النفور ( لا شكرا ؛ لدي من الكتب السياسية ما يعفيني عنه) تألم "عباس" أشد الألم لموقفها؛ لماذا تعتقد انه لا ينوي الا جرحها والتنقيص بشأنها ؟! وما الذي فعله لتحكم عليه من خلال هذه الزاوية الضيقة ؟؟ على كل حال ؛ المخطىْ لابد أن يكتشف خطأه عاجلا أو آجلا !!!
قاطعت الأم حديثهما بتأنيب (كلما اجتمع هاذان الأثنان صدّعا رأسنا بالسياسة وبلاءها ! فالتبدآ بتناول الطعام دون أن تنبسا بحرف واحد ؛ مفهوم ؟؟) ضحك الأب بقوة ؛ بينما تطلع كل من "عباس" و "منال" الى بعضهما بابتسامة هادئة تقول عن لسانيهما ( اختلاف الرأي لا يفسد في الود قضية ؛ أليس كذلك ؟؟(
وانضما الى المائدة بصمت وطاعة؛ الا أن رنين هاتف "عباس" المحمول قد أثار التساؤلات خوفا من انسحابه من على المائدة بعد كل هذا الانتظار ؛ ورفع سماعة الهاتف الى أذنه ليأتيه صوت "علي" قائلا بعد السلام ( "عباس" ! ما هذا الذي فعلته؟ !كيف تسلم المقال هكذا دفعة واحدة الى رئيس التحرير ؟!) تعجب "عباس" واستفسر ( وماذا في ذلك ؟!(
أوضح في خوف عليه ( ورئيس القسم ؟ أليس لديه رأي مسبق ؟؟) عقد "عباس" حاجبيه في عدم توقع (رئيس القسم ؟؟( استطرد "علي" مؤكدا ( نعم ؛ رئيس القسم ؛ "فاتن عبد الستار" !!) صدم "عباس" ؛ لقد توقع كل شيْ الا هذا؛ وصاح دون وعيّ ("فاتن" هي رئيس القسم ؟؟ غير معقول !!) أكد "علي" ( هذه هي الحقيقة ؛ لقد جرحت لتصرفك وشكتك الى رئيس التحرير؛ تدارك الموقف بسرعة واعتذر لها !!) استنكر "عباس" ( أعتذر لها ؟؟) أصر "علي" (نعم؛ فهذا من حقها !!) ... (ولكنني لم أكن أعلم ؛ ولم أتعمد الاساءة اليها !!) ...( ولكنك فعلت ؛ وعليك الاعتذار (تنهد "عباس" باستسلام ( معك حق ؛ حالما أعود سأقدم اعتذاري !!) ... ( لا عليك ؛ انه مجرد سوء فهم ؛ وبمجرد أن تعتذر سيأخذ مقالك طريقه الى المطبعة ؛ أما المقال السابق حول "الميثاق" فأنت تعلم انه غير صالح للنشر؛ أليس كذلك ؟؟) تمتم "عباس" ( أعلم !!) ودعه "علي" بمنتهى الطيب مداعبا اياه ( اياك أن تقول ان اسم المجلة لا ينطبق على قوانينها! حريتك تنتهي عند حدود حرية الآخرين !! في أمان الله..) ... ( يحفظك الله ...(
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
وما ان سكّر هاتفه حتى انهالت عليه زوجة خاله بالأسئلة (ماذا هناك يا "عباس" ؟؟ ومن هذه التي يجب أن تعتذر لها ؟؟(
أجابها باقتضاب ( انها رئيسة قسمي ؛ لقد شكتني الى رئيس التحرير لأنني سلمته مقالي الأخير دون أن أريها اياه !(
استنكرت الحدث (انها عدائية ! كان بوسعها معاتبتك قبلا ؛ فأنت لم تكن تعلم على ما يبدو!!) أقنعها بخطئه (ولكن كان يجب أن أتوقع ؛ يجب أن أعتذر لها الآن) تدخل خاله مستفسرا (اذن فأنت تعمل مع سيدات في قسمك يا "عباس؟!) أجاب ببساطة مدركا أن هذا ليس اتهام (ثلاث سيدات ؛ برغم من عدم تقبلي في بداية الأمر ) سألت زوجة خاله بشيْ من الغيرة ( وهل هن متزوجات ؟!) اختلس نظرة الى "منال" قبل أن يهمس بتلعثم وارتباك (نعم ؛ "مريم" متزوجة؛ وكذلك " فاطمة" ) أحرجته ( و"فاتن" هذه ؟؟) اضطر للتوضيح ( لا ؛ يبدو ان زميلي قد عرض عليها هذا الأمر ولكنها ترفض رغم اصراره) تابعت استجوابها بفضول ذكّره بفضول "منال" (هل من سبب معين؟؟) .. ( انني لست متأكدا تماما ولكن يبدو انها غير موافقة على ارتداء الحجاب بعد الزواج) استنكرت أشد الاستنكار (اذن فهي غير متحجبة؟؟) أكد لها (لا...) وكادت أن تواصل رحلة فضولها لولا مقاطعة زوجها المتبرم (كفي عن الثرثرة يا امرأة ! دعيه يتناول طعامه!) اعتذرت (آسفة !!) وانكبوا بعدها على الطعام دون أدنى حركة ؛ ماعدا النظرات التي يتبادلها كل من "عباس" و "منال" بين الحين والآخر في حوار صامت ..
وقفل راجعا الى مجلته شاعرا بارتباك كبير وهو يتخيل طريقة اعتذاره ل "فاتن". هو ليس معترضا على قضية الاعتذار بشكل خاص؛ ولكنه أدرك مؤخرا تمام الادراك بأنه لن يكون متفقا مع هذه المرأة التي آثرت التخلي عن الدين وقيمه العريقة؛ وسعت الى ذله والتنقيص بمثله ومعتقداته أكثر من مرة وبألف طريقة وطريقة ! والأدهى والأمر انها معجبة به بصورة غريبة وتحاول استمالته بأي وسيلة؛ وهذا بالذات ما حاول أن يخفيه عن "منال" ؛ مع انها لن تهتم البتة لو عرفت. ووقف عند طرف طاولتها رافع الرأس وقال بثقة (أنا آسف يا أستاذة "فاتن" ؛ لم أكن أعلم بأنك رئيس القسم !!(
رفعت رأسها بتعجب ظهر من خلال عينيها الشهلاويين ؛ بينما استدارت المرأتين ناحيتهما بفضول وتساؤل ؛ فتكلمت بعد فترة من التحديق به بمنتهى الاعجاب والحنان (لا بأس يا "عباس" ؛ لا داعي للاعتذار ؛ ولا تنادني بال "الأستاذة" ثانية ؛ أفضل أن تقول "فاتن" !!) حاول التملص من طلبها الذي أدرك خلفياته (حاشا لله يا أستاذة ؛ الأصول أصول !!((معك لا أحب التقيد بالأصول !!!(حاول احراجها لتكف عن احراجه ( لماذا ؟؟؟) تطلعت اليه بلهفة وبنظرات عميقة؛ وبدت وكأنها تعالج صراعا حادا بينها وبين نفسها؛ وكادت أن تتكلم ؛ لولا دخول "علي" بصورة مفاجئة سائلا لهما هما الأثنان بابتسامة عريضة (ها ؟ ما الأخبار ؟ " حليب يا اشطة " ؟!!!(...