الفصل الأول
التعريف بكل من الدستور
والقانون الدولي لحقوق الإنسان
من المعروف أن كلاً من القانون الدولي لحقوق الإنسان وقانون الدستور ينتمي إلى نظام قانوني خاص يختلف عن النظام القانوني الذي ينتمي إليه القانون الآخر ، إذ ينتمي القانون الدولي لحقوق الإنسان إلى النظام القانوني الدولي الذي يضم عدداً من القوانين التي يجمع بينها طبيعتها الدولية ، في حين ينتمي قانون الدستور إلى النظام القانوني الداخلي الذي يضم بدوره أيضا مجموعة من القوانين التي يجمع بينها طبيعتها الداخلية . وقبل الدخول في حيثيات العلاقة والصلة بين كل من القانونين اللذين ينتمي كل منهما إلى نظام قانوني مختلف عن الآخر لابد من التعريف بكل من القانونين ، حيث إن التعرف إلى طبيعة العلاقة بين الأشياء يقتضي قبل كل شيء التعريف بهذه الأشياء . وقد جرى تقديم الدستور على القانون الدولي لحقوق الإنسان ، في هذا الفصل الذي يبحث في التعريف بكل من القانونين لوجود اعتبار تاريخي مفاده إن الدستور اقدم في وجوده من القانون الدولي لحقوق الإنسان ولذلك فسوف اقسم هذا الفصل إلى مبحثين أتناول في الأول التعريف بالدستور وفي الثاني التعريف بالقانون الدولي لحقوق الإنسان .
المبحث الأول
التعــريف بالدستــور
من المعروف إن مصطلح (دستور) يعد من المصطلحات التي استخدمت وما تزال تحتوي في معناها عدة دلالات تختلف باختلاف المستخدم لها ، لكن كل هذه الدلالات لا تبتعد عن دلالة ذات طبيعة فلسفية قانونية ، فقد نكون أمام دستور لدين معين أو دستور لمنظمة معينة أو حزب معين وغير ذلك ، ولكن اكثر الاستخدامات انتشاراً وشهرة وأهمية لمصطلح الدستور كانت ولا تزال تستخدم للدلالة على قانون ذي طبيعة خاصة ضمن النظام القانوني للدولة يسمى (دستور الدولة) وهو ما يهمنا في هذه الدراسة ، فما المقصود بدستور الدولة ؟ وما أهميته وما هي مكانته في النظام القانوني؟ وما طبيعته وطبيعة القواعد القانونية التي يتضمنها؟
للإجابة عن هذه التساؤلات والتعرف على الدستور بالقدر اللازم لهذه الدراسة سوف أقسم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب ، أتناول في الأول تعريف الدستور وفي الثاني سوف أتناول موضوع الدستور ومحتواه ، أما في المطلب الثالث فسوف أتناول طبيعة الدستور.
المطلب الأول
تعريف الدستـور
من المعروف إن التوصل إلى تكوين الدولة يعد مرحلة مهمة من مراحل تطور المجتمعات الإنسانية نحو التنظيم ، وان فكرة تكوين ما يعرف بالدولة تقوم على أساس إيجاد تنظيم معين يقوم على أساس فكرة مفادها التمييز بين الحكام والمحكومين بحيث يكون للحكام تنظيم شؤون الدولة وبموجب ذلك يكون لهؤلاء الحكام سلطة على المحكومين([1]) ، ولما كانت فكرة التنظيم بشكل عام تستند إلى فكرة القانون ، أي وجود قواعد قانونية تحقق هذا التنظيم ، ولما كانت الدولة تعد درجة متقدمة من درجات تنظيم المجتمعات الإنسانية ، فإن هذا يعني إن تنظيم الدول يحتاج إلى قانون اكثر تطوراً لتحقيق تنظيم اكبر يواكب التنظيم القائم على أساس الدولة وان هذا القانون يجب أن يحكم الأنشطة القائمة في الدولة كافة، ولما كانت فكرة الدولة تقوم على أساس التمييز بين الحكام والمحكومين فان هذا يعني إن هناك أنشطة مختلفة بطبيعتها في الدولة قائمة على أساس الاختلاف والتمييز بين الحكام والمحكومين، وإذا كانت هناك قوانين عادية تحكم وتنظم النشاط العادي للمحكومين فانه هناك حاجة إلى قوانين غير عادية ومتميزة لتحكم نشاط الحكام الذين تكون لهم مكانة غير عادية ومتميزة في الدولة ، ويصدر عنهم نشاط غير عادي ومميز سواء كان هذا النشاط موجهاً نحو الأفراد العاديين لتحقيق التنظيم أم نحو أمور الحكم والسلطة لتحقيق غاية التنظيم أيضا. ويحكم نشاط المحكومين بموجب مجموعة قوانين عادية تتفق وطبيعة الأفراد ومكانتهم، ومثال ذلك القوانين المدنية والتجارية والجزائية..الخ، أما نشاط السلطة والحكام فيحكم بموجب قواعد قانونية ذات خصوصية وتميز تتفق وطبيعة أنشطة السلطة ومكانتها ودورها في التنظيم العام للدولة ، وقد سمي القانون الذي يضم هذه القواعد باسم الدستور ، فما هو الدستور؟
تعددت التعاريف للدستور باختلاف وجهات النظر إليه فهناك من ينظر إلى الدستور على أساس المعنى اللغوي لكلمة (دستور) بينما هناك من يعرف الدستور على أساس شكلي أو رسمي في حين إن هناك من يركز على الناحية الموضوعية في تعريفه للدستور . في حين إن هناك من ينظر إليه من حيث الهدف من وجوده وذلك على أساس علاقته بفكرة السلطة والحرية.
- تعريف الدستور لغةً (المدلول اللغوي) :
من الراجح إن كلمة (دستور) هي كلمة ليست عربية الأصل بل أنها كلمة فارسية ، ومعناها بحسب المعجم المستدرك للعلامة الدكتور مصطفى جواد (الوزير الكبير الذي يرجع إليه في الأمور وأصله الدفتر الذي يجمع فيه قوانين الملك وضوابطه فسمي به الوزير لأن مافية معلوم له أو لانه مثله في الرجوع إليه لأنه في يده أو لأنه لا يفتح إلا عنده)([2]) وقد أورد الدكتور منذر الشاوي عن طوبيا العنيسي في تفسير الألفاظ الدخيلة معنى آخر لكلمة الدستور على أساس إنها كلمة مركبة من كلمتي(دست) وتعني (يد) و(ور) وتعني صاحب ويراد بها قاعدة أساسية يرجع إليها كدفتر الجند أو مجموع قوانين الدولة([3]).كما ان كلمة دستور تعني أيضا بالفارسية الأساس أو القاعدة أو الإذن أو الترخيص([4]).أما في اللغتين الإنكليزية والفرنسية فإن المصطلح المستخدم للدلالة على الدستور هو مصطلح ( Constitution ) البناء أو التأسيس أما في اللغة الإيطالية فان المصطلح المستخدم هو(Constituzion ) الذي يعني ذات المعنى المستخدم في اللغتين الإنكليزية والفرنسية.
- المدلول الشكلي للدستور :
يستند المدلول الشكلي في تعريف الدستور على أساس التركيز على الجانب الشكلي فيما يخص قانون الدستور ، بحيث يتم التمييز بينه وبين غيره من القوانين على أساس الشكل الخاص والمميز الذي يتخذه هذا القانون ، أي مظهره الخارجي وليس مضمونه ، وعلى أساس إصداره أو تعديله من قبل جهة خاصة ومميزة تختلف عن الجهة التي تصدر أو تعدل القوانين الأخرى ، وبموجب هذا المدلول يعرف الدستور بأنه (الوثيقة التي تبين شكل الحكومة ونظام الحكم في الدولة)([5]) كما يعرفه الدكتور عثمان خليل بأنه (مجموعة القواعد الأساسية المنظمة للدولة التي صدرت في شكل وثيقة دستورية من السلطة المختصة بذلك)([6]). وعلى هذا الأساس أيضا يعرف بأنه (الوثيقة التي تصدر بصفة رسمية من السلطة التأسيسية )([7]). كما يذهب الدكتور ثروت بدوي إلى إن الدستور هو (مجموعة القواعد التي تنظمها الوثيقة المسماة بالدستور والتي لا يمكن ان توضع أو تعدل إلا بعد اتباع إجراءات خاصة تختلف عن تلك الإجراءات المتبعة في وضع وتعديل القوانين العادية )([8]). وفي نفس الاتجاه يعرف بأنه الوثيقة التي تنظم عمل المؤسسات والتي تمتاز بان إعداد موادها وإصدارها وتعديلها لا يمكن أن يتم إلا بموجب شروط خاصة تختلف عن مثل هذه الشروط بالنسبة إلى لقوانين العادية([9]).
يتضح من التعاريف السابقة إن أصحابها يستندون إلى الجانب الشكلي في تعاريفهم للدستور ، والجانب الشكلي إما أن يعني الشكل أو المظهر الذي يتخذه الدستور وهو أن يكون في وثيقة خاصة يطلق عليها تسمية الدستور ، أو أن الجانب الشكلي يعني الشكل أو الكيفية أو الإجراءات التي تصدر أو تعدل أو يلغى بموجبها الدستور ، بحيث يكون هذا الشكل في الحالتين شكلاً خاصاً ومميزاً عن القوانين العادية . أي انه وبموجب المعنى الأول للمدلول الشكلي فان الدستور هو مجموعة القواعد القانونية التي تتضمنها الوثيقة الخاصة المسماة دستور ، وهو بهذا المعنى يعني ان القواعد الدستورية تكون فقط محصورة في تلك الواردة في هذه الوثيقة ولا تشمل أية قواعد أخرى أيا كان موضوعها إذا كانت واردة في وثائق أخرى أو إذا كانت غير مدونة . أما المعنى الآخر للمدلول الشكلي فيعني إن الدستور هو مجموعة القواعد الصادرة بطريقة خاصة ومن قبل جهة خاصة وتحتاج لتعديلها أو إلغائها إجراءات خاصة مختلفة عن الإجراءات المتبعة لهذه الأغراض بالنسبة إلى القوانين العادية وهو بهذا المعنى لا يشمل أية قواعد تكون صادرة بطرق عادية أو يمكن تعديلها أو إلغائها بطرق عادية.
كما يتضح من التعاريف السابقة إن أصحاب المدلول الشكلي إما أن يركزوا على جانب شكل الوثيقة أو إنهم يركزون على الإجراءات الخاصة بالإصدار أو إنهم يركزون على الجانبين معاً عندما يشترطون أن تكون القواعد في وثيقة خاصة يشترط لإصدارها أو تعديلها أو إلغائها إجراءات خاصة.
وقد تعرض تعريف الدستور بالاستناد إلى المدلول الشكلي إلى العديد من الانتقادات التي يمكن تلخيص أهمها في كون الأخذ بالمعيار الشكلي لتحديد المقصود بالدستور يؤدي إلى إنكار وجود الدستور في العديد من دول العالم ، وهي تلك الدول التي لا يوجد فيها دساتير مكتوبة ، والمثال الأهم على هذه الحالة إنجلترا التي تحكمها قواعد دستورية ذات مصدر عرفي ، في حين ان الواقع والضرورات المبدئية لوجود الدستور تقتضي أن يكون هناك دستور في كل دولة وذلك لغرض بيان شكل الدولة وشكل نظام الحكم فيها وتنظيم العلاقات بين السلطات كحد أدنى مطلوب من التنظيم في الدولة، ويستوي هنا أن يكون الدستور مكتوباً أو عرفياً([10]).
وكذلك يؤدي الأخذ بالمعيار الشكلي إلى عدم إمكانية تعريف الدستور بشكل دقيق لجميع القواعد المرتبطة في وجودها بالدستور ، حيث إن كثيرا مالا تتضمن الوثيقة الدستورية كافة القواعد المرتبطة بفكرة الدستور والمتعلقة بتحديد نظام الحكم وكيفية ممارسة السلطة وغير ذلك من القواعد المرتبطة بفكرة الدستور، وان المدلول الشكلي يؤدي إلى عدم اعتبارها قواعد دستورية وينكر عليها هذه الصفة وما يترتب على الاتصاف بها من آثار قانونية ومثال ذلك أن تكون هناك قواعد عرفية مرتبطة بفكرة الدستور لكنها غير منصوص عليها في وثيقة الدستور ، وهنا سوف يكون الحكم هو عدم اعتبارها قواعد دستورية([11]).
كما أن الأخذ بالمعيار الشكلي لتعريف الدستور يؤدي إلى أن يصار إلى أن الدستور يتضمن قواعد بعيدة في موضوعاتها عن فكرة الدستور والغاية من وجوده ، وان هذه القواعد تعتبر دستورية لكونها داخلة ضمن الوثيقة الدستورية ومثال ذلك إن هناك العديد من الدساتير تتضمن بين قواعدها قواعد تتعلق بتنظيم أمور بعيدة عن فكرة الدستور ،كتنظيم القضاء أو تحريم ذبح الحيوانات أو تنظيم صيد الأسماك ،كالدساتير الفرنسية بعد ثورة 1789والدساتير السويسرية والأمريكية([12]).
كما أن تعريف الدستور على انه القواعد الواردة في وثيقة واحدة هي الدستور، يؤدي إلى تناقض مع الواقع في حالات معينة تصدر فيها اكثر من وثيقة دستورية واحدة، كما كان عليه الحال في دستور سنة 1875 الفرنسي الذي صدر في ثلاث وثائق دستورية([13]).
- المدلول الموضوعي للدستور :
يستند المفهوم الموضوعي في تعريف الدستور على أساس التركيز على مضمون أو موضوع مادة هذا القانون ، أي ماتتناوله مواده أو قواعده من موضوعات ، وليس على أساس الشكل أو الصفة أو المظهر الخارجي الذي يظهر فيه القانون . أي إن التمييز بين قواعد الدستور وبين غيره من القواعد القانونية يتم على أساس معيار موضوع هذه القواعد وما تختص به من حيث التنظيم ، وبموجب هذا المعيار يعرف الدستور بأنه (مجموعة القواعد التي تنظم السلطات العليا في الدولة ،مهما يكن مصدرها وشكلها ، سواء كانت مكتوبة أم عرفية غير مدونة )([14]). كما عرفه الدكتور محسن خليل بأنه (مجموعة القواعد القانونية التي تبين نظام الحكم في الدولة)([15]). ويعرفه الدكتور كمال الغالي بأنه (مجموعة القواعد التي تنظم تأسيس السلطة وانتقالها وممارستها، أي تلك المتعلقة بالتنظيم السياسي)([16]).
يتضح من التعاريف السابقة أنها تركز على مادية الدستور ، أي المادة أو الموضوع الذي يحتويه الدستور إذ إن الدستور وجد كقانون لينظم مسائل معينة ومحددة وذات خصوصية. وان وجوده لتحقيق هذا الهدف لا يشترط فيه أن يتخذ شكلاً معيناً كان يكون على شكل وثيقة مكتوبة معينة يطلق عليها اسم الدستور إذ يمكن أن يكون عرفيا أو مكتوبا ، كما انه لا يشترط أن تصدر قواعده بموجب شكلية أو إجراءات معينة تختلف عن تلك الشكلية بالنسبة إلى إصدار القوانين العادية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تعديل هذه القواعد أو إلغائها، وانما يكون القانون دستورا إذا كانت له خصوصية في تنظيم مسائل معينة من المسائل العديدة التي تحتاج إلى التنظيم في الدولة ، وهذه المواضيع هي مواضيع تتعلق بالسلطة وتنظيم ممارستها لعملها وعملية انتقال السلطة وتقسيم السلطة إلى سلطات وتقسيم المهام فيما بينها على أساس الاختصاص وتنظيم العلاقة بين هذه السلطات وغير ذلك من المسائل([17]). وعليه وبموجب هذا المدلول تعد القاعدة دستورية إذا كانت فيها صفة معالجة مثل هذه الموضوعات والتعامل معها. وهنا وبموجب هذا المعيار يستوي أن تتخذ هذه القاعدة أي شكل . كما ويترتب على الأخذ بهذا المعيار تحقق نتيجة مفادها انه يجب الإقرار بوجود دستور لكل دولة، إذ انه من المعروف انه لا يتصور أن يكون هناك دولة لا توجد فيها قواعد تتعلق بنظام الحكم وتنظيمه([18]).هذا ويذهب اغلب الفقه إلى تأييد المدلول الموضوعي عند تعريف الدستور.
- تعريف الدستور بالاستناد إلى فكرتي السلطة والحرية :
من المعروف ان الدستور قانون ، وهو قانون ذو خصوصية لانه يخاطب أفراداً ذوي خصوصية ومتميزين عن الأفراد العاديين ألا وهم فئة الحكام، أي انه يخاطب الأفراد بخصوصية لما يتصفون به هم من خصوصية، حيث انهم يحتلون السلطة أي انه قانون وجد ليحكم السلطة والأشخاص الذين يقومون عليها، لتحقيق معنى التنظيم القانوني للدولة ، والذي يتمثل بتقيد تصرفات ونشاطات الأفراد بما ينسجم والغاية من وجود الدولة ألا وهي المجتمع المنظم. ولكن لماذا يحكم هذا القانون السلطة ؟ ولمصلحة من ؟ بالتأكيد سوف يكون ذلك لمصلحة جهة أخرى غير السلطة، ولما كان القانون بالأصل موجوداً كي يحكم أنشطة وعلاقات. فمع من تكون علاقات السلطة وتجاه من توجه أنشطتها محل تنظيم الدستور؟ بالتأكيد سوف تكون هذه الأنشطة والعلاقات مع الأفراد المحكومين، وإذا كان الدستور موجوداً لحكم أنشطة وعلاقات السلطة ولما كانت هذه العلاقات مع الأفراد، فان هذا يعني أن الدستور وجد لمصلحة الأفراد ، ويكون ذلك من خلال تقييد حرية السلطة لمصلحة حرية الأفراد، إذا فالدستور قائم على أساس فرضية انه قانون موجود ليحكم السلطة وفرضية انه قانون وجد لمصلحة الأفراد. وأمام هذه الحقيقة ظهر من يربط هذه الحقيقة وتعريف الدستور بالاستناد إلى الفرضية الأولى أو الثانية بينما ظهر من وفق بين الفرضيتين واعتبر أن الدستور هو أداة توفيق بين السلطة والحرية.
- الدستور قانون الحرية :
إذا كانت المدلولات السابقة للدستور تركز على شكل القانون أو ما يتضمنه هذا القانون من موضوعات فان هناك من يركز على مسألة الغاية العليا من وجود الدستور ويعتبرها الأساس في تعريف الدستور، وفي هذا الاتجاه يذهب الأستاذ مركين جيتزفيتش إلى تعريف الدستور بأنه ( فن أو صناعة الحرية Une Technique la Liberte)([19]). وهذا التعرف يركز على أساس أن الحرية وإعمالها هي الغاية من وجود قانون الدستور، وان الهدف من وجود الدستور هو تحقيق التنظيم القانوني الذي يضمن تفعيل وإعمال الحرية وتقييد السلطة للحيلولة دون الاعتداء على الحرية.
ويذهب أنصار هذا الاتجاه إلى القول بأنه صحيح أن السلطة أمر لابد من وجوده في المجتمع السياسي المنظم والدولة بشكل خاص باعتبارها أوضح صور المجتمعات السياسية المنظمة، ولكن أمر وجودها يعد بمثابة الشر الذي لابد من وجوده وان وجودها يجب أن لا يكون على حساب الحرية([20]). وان الحل لضمان عدم تجاوز السلطة على الحرية هو وجود دستور يقيد السلطة بحيث لا تتجاوز على الحرية.
كما يذهب أنصار هذا الاتجاه من وجهة نظر أخرى إلى تأكيد تبعية السلطة للحرية عن طريق وسيلة قانون الدستور ، إلا إن الهدف من وجود السلطة ليس السلطة فحسب بل غايته صيانة الحرية والمحافظة عليها وان من أقوى القوى الدافعة المؤدية إلى خلق السلطة السياسية كان دائماً الرغبة في صون الحرية وحمايتها([21]).أي إن هذا الاتجاه يركز على اعتبار الدستور حجر الأساس لصيانة الحرية وحقوق الأفراد من تجاوز السلطة التي وجدت أصلا لصيانة هذه الحقوق والحريات ، حيث انها وان كانت السلطة موجودة لضمان الحريات من خلال التنظيم الذي يؤدي إلى الابتعاد عن الفوضى المؤدية إلى ضياع الحرية وعودة الاستبداد ، فانه ليس هناك ضمانة من احتمال تجاوز السلطة ذاتها على الحريات وان وجود مثل هذا الاحتمال يدفع إلى ضرورة إيجاد هذه الضمانة المتمثلة بالدستور([22]).
وقد كانت هذه الاتجاهات القائمة على أساس تقديس الفرد وحرياته وحقوقه قد ظهرت مرتبطة بفكر فلسفي نابع من أحداث تاريخية متعلقة بالسلطات المطلقة للحكام وما آلت إليه أيام الحكم تلك من نتائج سلبية خطيرة على الأفراد الغاية الأساسية لكل التنظيمات السياسية والقانونية. وقد ظهرت هذه الاتجاهات بشكل واضح كنتيجة لنظام الحكم المطلق الذي كان سائداً في فرنسا قبل الثورة الفرنسية(1789) ، حيث كان النظام الملكي المطلق هو النظام السائد، إذ كان قائماً على أساس أن الملك هو الدولة والدولة هي الملك، وهي تلك المقولة الشهيرة للملك الفرنسي لويس الرابع عشر حيث إن فترة حكمه أدت إلى فقدان الأفراد لحقوقهم وحرياتهم لمصلحة السلطة الملكية المطلقة.
ويلاحظ أن اشهر الدساتير التي أعقبت نجاح الثورة الفرنسية الشهيرة هي تلك التي تأثرت بالمذهب الفردي الحر الذي يؤكد على الفرد وحرياته وحقوقه([23]). كما أن الكثير من الدساتير التي أعقبته وإلى يومنا هذا نجدها متأثرة إلى حد كبير بهذا المذهب الذي بدوره عاصر فترة ظهور تلك الدساتير.
وقد كان إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عن الثورة الفرنسية قد تضمن إشارة صريحة إلى ان الحقوق والحريات العامة تعد الأساس والغاية من وجود الدساتير، حيث جاء في المادة السادسة عشرة منه ( كل مجتمع لا تقرر فيه ضمانات لحقوق الأفراد ولا يسود فيه مبدأ الفصل بين السلطات هو مجتمع ليس فيه دستور)([24]). ويبدو واضحاً مما تقدم إن هذا الاتجاه في تعريف الدستور يربط بشكل واضح بين الدستور ونظام الحكم ، وانه بالنتيجة لا يتقبل وجود الدستور إلا في مجتمع يسوده نظام حكم ديمقراطي يقوم على أساس احترام حقوق وحريات الأفراد ، وانه لا يكفي للقول بوجود الدستور أن يتضمن القواعد المنظمة للسلطة السياسية في الدولة فحسب دون التطرق إلى الحقوق والحريات الفردية كغاية عليا . وعلى أساس هذا الربط بين الدستور والنظام الديمقراطي يسمى مدلول الدستور حسب هذا الاتجاه بالمدلول الديمقراطي للدستور.
وقد تعرض هذا الاتجاه في تعريف الدستور إلى الكثير من الانتقادات على أساس انه لا يشترط في الدستور أن يكون بالضرورة محتويا على مواد تتعلق بحقوق الأفراد كما انه ليس هناك ثمة شرط أن لا يقوم الدستور إلا في مجتمع ديمقراطي. حيث يذهب من ينتقد هذا الاتجاه إلى إن كل دولة لابد وان يكون لها دستور يحدد نظام الحكم فيها ويبين السلطات العامة وكيفية تكوينها ويحدد اختصاصاتها وينظم علاقاتها فيما بينها وبينها وبين الأفراد ويستوي هنا ان يكون نظام الدولة ديمقراطيا أو دكتاتوريا ملكيا أو جمهوريا أو غير ذلك من صور نظام الحكم([25]).
- الدستور قانون السلطة :
بعد أن اظهر جانب كبير من الفقه التقليدي ميله إلى اعتبار الدستور قانونا وجد لمصلحة الحرية لأجل حمايتها وصيانتها، ظهر جانب آخر من الفقه يذهب إلى أن الدستور ليس بقانون الحرية بل انه قانون السلطة، وانه إذا كان الفقه التقليدي الفردي الحر يعرف الدستور بأنه فن الحرية أو صناعتها فان هذا الجانب من الفقه يذهب إلى أن الدستور هو فن السلطة وأداتها وانه ( القواعد القانونية التي بموجبها تؤسس السلطة السياسية وتمارس وتنتقل في الدولة )([26]).
ويركز هذا الجانب من الفقه في تعريف الدستور على أساس موضوعي قائم على اعتبار أن الدستور هو قانون وجد لتنظيم شؤون السلطة وبصرف النظر عن كون هذا الدستور موجوداً في مجتمع يسوده نظام سياسي ديمقراطي أو دكتاتوري وسواء كان يحترم حقوق الأفراد وحرياتهم أو عكس ذلك، حيث إن الأساس في وجوده هو وجود السلطة التي يعد وجودها ركناً أساسياً لوجود الدولة([27]).
وبالرجوع إلى محتوى وموضوع الدستور نجده يدور غالباً مع السلطة وحولها ولتنظيم المسائل المتعلقة بها ابتداء من وجودها واستمرارا لممارستها وانتقالها([28]) . لذلك نجد إن أنصار هذا الاتجاه يركزون على مضمون قواعد الدستور والجهة التي توجه إليها هذه القواعد ألا وهي السلطة ، ولذلك قيل بأنه القانون الذي يحكم السلطة . إلا انه وعلى الرغم من نقاط الصحة التي يحتويها هذا الاتجاه فانه تعرض للعديد من الانتقادات، ومن أهمها إن هذا الاتجاه يؤدي إلى الاعتقاد بان ممارسة السلطة غاية في ذاتها وان السلطة تكون لمصلحة الأفراد القائمين على السلطة الحاكمة في حين إن السلطة يجب أن تكون لمصلحة المحكومين. وكذلك فان القول بان الدستور هو قانون تنظيم السلطة يغفل العوامل التاريخية التي سادت المجتمع والتي عاصرت وجود الدساتير . فقد انتقل المجتمع من مجتمع يسوده نظام حكم مطلق إلى نظام حكم مقيد ، ليس بمعزل عن ظروف معينة أدت إلى ذلك ، بل إن هذا الحدث حصل عن طريق ضغط الأفراد للمطالبة بحرياتهم الأمر الذي دفع القائمين على السلطة إلى القبول بتقييد سلطاتهم عن طريق الدستور لمصلحة حقوق وحريات الأفراد، وهكذا تحولت أنظمة حكم من مطلقة إلى أنظمة حكم مقيدة([29]).
- الدستور أداة توفيق بين الحرية والسلطة :
علمنا مما تقدم أن هناك من يعرف الدستور باعتباره قانون الحرية وان هناك من يعرفه باعتباره قانون السلطة ، كما علمنا أن تعريف الدستور سواء على الأساس الأول أم الثاني يحتمل الكثير من جوانب الصحة لكنه وفي نفس الوقت يحتمل جوانب أخرى من عدم الصحة والانتقاد. ويظهر أن حدوث مثل هذا الاختلاف ليس بالأمر غير المتوقع بالنسبة إلى الدستور الذي يتناول مسألتي السلطة والحرية سواء على أساس ما هو كائن أم ما يجب أن يكون، ليس بشيء من الاهتمام أو بالكثير منه لا بل إن هاتين المسألتين هما جوهر ومحل وجود الدستور كقانون متميز عن غيره من القوانين.
وأمام هذه الحقيقة نجد أن هناك من يقر بحقيقة وصحة أسانيد كون الدستور هو قانون الحرية وفي نفس الوقت كونه قانون السلطة، كما انه يقر في نفس الوقت بالانتقادات الموجهة إلى الاتجاهات الأحادية من هذه الناحية في تعريف الدستور سواء على أساس كونه قانون الحرية أم قانون السلطة لكنه يتميز عن الاتجاهات السابقة بكونه يقوم على أساس إيجاد تكييف جديد للعلاقة بين الدستور وكل من الحرية والسلطة وهو تكييف قائم على أساس إيجاد تكييف خاص للعلاقة بين الحرية والسلطة من خلال أداة الدستور، حيث إن الدستور في جميع الأحوال ما هو إلا قانون والقانون بشكل عام ليس غاية بحد ذاته بل انه وسيلة أو أداة لتحقيق غاية وان غاية الدستور تتحقق من خلال تحقيق هدف التوفيق بين كل من الحرية والسلطة. حيث انه من المعروف ان النهاية المترتبة على إطلاق الحرية سوف تكون الفوضى وان الفوضى سوف تقود إلى الاستبداد وضياع الحرية([30]). وفي نفس الوقت فان النهاية المترتبة على إطلاق السلطة سوف تؤدي أيضا إلى الاستبداد وضياع الحرية، وفي كلتا الحالتين سوف نكون أمام محتوى وغاية بعيدة عن محتوى وغاية الدستور الذي يفترض أن يتناول كلاً من الحرية والسلطة في ذات الوقت.
ويتناول الدستور بحسب هذا الاتجاه كلاً من الحرية والسلطة على أساس تحقيق توازن وتعايش بين الاثنين، بحيث لا تكون مكانة إحداهما على حساب الأخرى، إذ إنه من المعروف إن الواقع البعيد عن تدخل القانون يفيد بان هناك تعارضاً منطقياً وعملياً بين مسألتي الحرية والسلطة([31]). وإن تنظيم مثل هذه المسالة من قبل قانون متخصص ومتميز هو الدستور يقتضي تحقيق التوازن والتوفيق بين الاتجاهين المتعارضين.
ولكن السؤال الذي يثار هنا هو ما هي آلية التوفيق وكيف تتم؟ وكيف تكون جهتا العلاقة هل تكون متساوية أم إنها تكون مائلة إلى إحدى الجهتين ولمصلحة أية جهة يجب أن يكون هذا الميل إن كان موجوداً ؟
علمنا مما تقدم إنه ليس هناك خلاف حول كون وجود السلطة ليس غاية بحد ذاته، بل إن وجودها هو في سبيل تحقيق غاية، أي إنها وسيلة أو أداة لتحقيق غاية، وإن هذه الغاية تتمثل في التأكيد على مصلحة الأفراد على اعتبار أن السلطة هي ركن أساس في المجتمع الإنساني المنظم الذي يطلق عليه تسمية (الدولة). كما علمنا مما تقدم أن مسألة الحرية وحقوق الأفراد هي مسألة تخدم مصلحة الأفراد وقد كان الأفراد قد سعوا عبر تاريخ المجتمعات الإنسانية إلى إعمال حقوقهم وحرياتهم الإنسانية، أي إن هذا الإعمال يعد غاية عليا للأفراد عبر العصور، وإن الأفراد بوصولهم إلى مرحلة الدسترة كانوا قد سعوا إلى تحصيل حقوقهم الإنسانية على أتم وجه وسخروا الوسائل لذلك ، وقد كانت السلطة من ضمن الوسائل المسخرة لتحقيق هذه الغاية، وكان ذلك يقوم على أساس تنظيم الحرية وممارستها بشكل يؤدي إلى المحافظة عليها. وأمام هذه العلاقة بين الغاية والوسيلة التي يتم تنظيمها عن طريق الدستور فإن المنطق وفلسفة وجود العلاقة يقتضي أن تكون الكفة مرجحة لمصلحة الحرية على اعتبارها الغاية([32]). ولكن هذا الترجيح يجب أن لا يكون بشكل يؤدي إلى فقدان الهدف من وجود الوسيلة ألا وهو تنظيم الحرية، وفي مثل هذا الاتجاه يذهب الأستاذ(Charles A. Beard) وهو أحد القانونيين الذين ساهموا في صياغة الدستور الأمريكي، إذ يقول ( إن الغرض المستهدف هو إقامة حكومة قوية بالقدر الذي يخدم أغراض الاتحاد ولكن ليس بالقوة التي تقضي على حريات الشعب)([33]).