۩ ۞ غرفة الأحزان۝ ۩ ۞

  • بادئ الموضوع أم عبودي..
  • تاريخ البدء

أم عبودي..

New member
إنضم
5 فبراير 2009
المشاركات
135
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
بسم الله الرحمن الرحيم


كان لي صديق أحبه لفضله وأدبه وكان يروق لي منظره ويؤنسني محضره , قضيت في صحبته عهداً طويلاً ما أنكر من أمره ولا ينكر من أمري شيئاً حتى سافرت من القاهرة سفراً طويلاً فتراسلنا حيناً , ثم انقطعت عني كتبه , فرابني من أمره ما رابني , ثم رجعت وجعلت أكبر همّي أن أراه , فطلبته في جميع المواطن التي كنت ألقاه فيها فلم أجده , فذهبت إلى منزله , فحدثني جيرانه أنه هجره من عهد بعيد , وأنهم لا يعرفون أين مصيره , فوقفت بين اليأس والرجاء برهة من الزمن , يغالب أولهما ثانيهما حتى غلبه , فأيقنت أنّي قد فقدت الرجل , وأنّي لن أجد بعد اليوم إليه سبيلاً .

هنالك ذرفت من الوجد دموعاً لا يذرفها إلا من قل نصيبه من الأصدقاء , وأقفر ربعه من الأوفياء , وأصبح غرضاً من أغراض الأيام , لا تخطئه سهامها , ولا تغبه آلامها .

بينا أنا عائد إلى منزلي في ليلة من الليالي , إذ دفعني الجهل بالطريق , في هذا الظلام المدلهم , إلى زقاق موحش , مهجور , يخيل للناظر إليه في مثل تلك الساعة التي مررت فيها أنه مسكن الجان , أو مأوى الغيلان , فشعرت كأني أخوض بحراً أسوداً , يزخر بين جبلين شامخين , وكأن أمواجه تقبل بي وتدبر , وترتفع وتنخفض , فما أن توسطت لجته حتى سمعت في منزلٍ من تلك المنازل المهجورة أنةً تتردد في جوف الليل , ثم تلتها أختها , ثم أخواتها , فأثر في نفسي مسمعها تأثيراً شديداً , وقلت : ياللعجب , كم يكتم هذا الليل في صدره من أسرار البائسين وخفايا المحزونين , وكنت قد عاهدت الله قبل اليوم ألاّ أرى محزوناً حتى أقف أمامه وقفة المساعد إن استطعت , أو الباكي إن عجزت , فتلمست الطريق إلى ذلك المنزل حتى بلغته , فطرقت الباب طرقاً خفيفاً فلم يفتح , فطرقته أخرى طرقاً شديداً ففتحت لي فتاة صغيرة , لم تكد تسلخ العاشرة من عمرها , فتأملتها على ضوء المصباح الضئيل الذي كان في يدها , فإذا هي في ثيابها الممزقة كالبدر وراء الغيوم المتقطعة , فقلت لها : هل عندكم مريض ؟ , فزفرت زفرة كاد ينقطع لها نياط قلبها , وقالت : أدرك أبي أيها الرجل , فهو يعالج سكرات الموت , ثم مشت أمامي , فتبعتها حتى وصلت إلى غرفةٍ ذات بابٍ قصير , فدخلتها فخيل إلي أنّي قد انتقلت من عالم الأحياء إلى عالم الأموات ! وأن الغرفة قبر , والمريض ميت , فدنوت منه حتى صرت بجانبه , فإذا قفص من العظم يتردد فيه النفس تردد الهواء في البرج الخشبي , فوضعت يدي على جبينه ففتح عينيه وأطال النظر في وجهي , ثم فتح شفتيه قليلاً قليلاً . وقال بصوتٍ خافت "أحمد الله فقد وجدت صديقي " فشعرت كأن قلبي يتمشى في صدري جزعاً هلعاً , وعلمت أنّي قد عثرت بضالّتي التي كنت أنشدها وكنت أتمنى ألا أعثر بها وهي في طريق الفناء , وعلى باب القضاء , وألاّ يجدد لي مرآها حزناً كان في قلبي كميناً , وبين أضلعي دفيناً , فسألته ما باله ؟ وما هذه الحال التي صار إليها ؟ وكأن أنسه بي أمدّ في مصباح حياته الضئيل بقليل من النور فأشار إلي أنه يحب النهوض فمددت يدي إليه , فاعتمد عليها حتى استوى جالساً وأنشأ يقص علي القصة الآتية :

منذ عشر سنين كنت أسكن أنا ووالدتي بيتاً يسكن بجانبه جار لنا من أرباب الثراء والنعمة , وكان قصره يضم بين جناحيه فتاة ما ضمت القصور أجنحتها على مثلها حسناً وبهاءً , ورونقاً وجمالاً , فألمّ بنفسي من الوجد ما لم أستطع معه صبراً , فما زلت بها أعالجها فتمتنع , وأستتر لها فتتعذر , وأتأتى إلى قلبها بكلّ الوسائل فلا أصل إليه , حتى عثرت بمنفذ الوعد بالزواج فانحدرت منه إليها , فسكن جماحها , وأسلس قيادها , فسلبتها قلبها وشرفها في يوم واحد , وما هي إلا أيامٌ قلائل حتى عرفت جنيناً يضطرب في أحشائها , فأسقط في يدي , طفقت أرتئي بين أن أفي لها بوعدها أو أقطع حبل ودّها , فآثرت آخرهما على أولاهما , وهجرت ذلك المنزل الذي كانت تزورني فيه , ولم أعد أعلم بعد ذلك من أمرها شيئاً .

مرت علي تلك الحادثة أعوام طوال ,وفي ذات يوم جاءني منها مع البريد هذا الكتاب , ومد يده تحت وسادته وأخرج كتاباً بالياً مصفراً , فقرأت ما يأتي :

( لو كان بي أن أكتب إليك لأجدد عهداً دارساً , أو وداً قديماً , ما كتبت سطراً ولا خططت حرفاً , لأنّي لا أعتقد أن عهداً مثل عهدك الغادر , ووداً مثل ودك الكاذب يستحق أن أحفل به فأذكره , أو آسف عليه فأطلب تجديده .

إنّك عرفت حين تركتني أن بين جنبيّ ناراً تضطرم , وجنيناً يضطرب , وأسفاً على ماضي , وخوفاً من مستقبل , فلم تبال بذلك مني حتى لا تحمل نفسك مؤونة النظر إلى شقاءٍ أنت صاحبه , ولا تكلف يدك مسح دموعٍ أنت مرسلها , فهل أستطيع أن أتصور أنك رجلٌ شريف ؟ لا ... بل لا أستطيع أن أتصور أنك إنسان لأنك ما تركت خلة من الخلال المتفرقة في نفوس العجماوات أو أوابد الوحش إلا جمعتها في نفسك وظهرت بها جميعاً في مظهرٍ واحدً .

كذبت عليّ في دعواك أنّك تحبني , وما كنت تحب إلا نفسك , وكل ما في الأمر أنّك رأيتني السبيل إلى إرضائها فمررت بي في طريقك إليها , ولولا ذلك ما طرقت لي باباً , ولا رأيت لي وجهاً .

خنتني إذ عاهدتني على الزواج فأخلفت وعدك ذهابأً بنفسك أن تتزوج امرأة مجرمةً ساقطةً , وما هذه الجريمة ولا تلك السقطة إلا صنعة يدك وجريرة نفسك , ولولاك ما كنت مجرمة ولا ساقطةً , فقد دافعتك جهدي حتى عييت بأمرك , فسقطت بين يديك سقوط الطفل الصغير , بين يدي الجبار الكبير , سرقت عفتي , فأصبحت ذليلة النفس , حزينة القلب استثقل الحياة وأستبطئ الأجل , وأي لذة في العيش لامرأة لا تستطيع أن تكون زوجة لرجل , ولا أماً لولد , بل لا تستطيع أن تعيش في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية إلا وهي خافضة رأسها , مسبلةً جفنها , وخاضعة خدها على كفها . ترتعد أوصالها وتذوب أحشاؤها خوفاً من عبث العابثين وتهكم المتهكمين .

سلبتني راحتي لأني أصبحت مضطرة بعد تلك الحادثة إلى الفرار من ذلك القصر الذي كنت متمتعة فيه بعشرة أبي وأمي , وتاركة ورائي تلك النعمة الواسعة وذلك العيش الرغد إلى منزل حقير في حي مهدور لا يعرفه أحد , ولا يطرق بابه , لأقضي فيه الصبابة الباقية لي من أيام حياتي .

قتلت أمي وأبي , فقد علمت أنهما ماتا , وما أحسب أنه موتهما إلا حزناً لفقدي ويأساً من لقائي .

قتلتني لأن ذلك العيش المرّ الذي شربته من كأسك , والهم الطويل الذي عالجته بسببك , قد بلغا مبلغهما من جسمي ونفسي , فأصبحت في فراش الموت كالذبابة المحترقة تتلاشى نفساً في نفس , وأحسب أن الله قد صنع لي , استجاب دعائي , وأراد أن ينقلني من دار الموت والشقاء , إلى دار الحياة والهناء .

فأنت كاذب خادع ،ولص قاتل ولا أحسب أن الله تاركك دون أن يأخذ بحقي منك .

ما كتبت إليك هذا الكتاب لأجدد بك عهداً , أو أخطب إليك وداً , فأنت أهون علي من ذلك , إنني قد أصبحت على باب القبر في موقف وداع الحياة بأجمعها , خيرها وشرها , سعادتها وشقائها , فلا أمل لي في ودّ , ولا متسعٌ لعهدٍ , وإنما كتبت إليك لأن لك عندي وديعة , وهي فتاتك , فإن كان الذي ذهب بالرحمة من قلبك أبقى لك منها رحمة الأبوة ,فأقبل إليها وخذها إليك حتى لا يدركها من الشقاء ما أدرك أمها من قبلها ).

فما أن أتممت قراءة الكتاب حتى رأيت مدامعه تتحدر على خديه , فسألته : وماذا تم بعد ذلك ؟ , قال إنّي ما إن قرأت الكتاب حتى أحسست برعدة تتمشى في جميع أعضائي , وخيل إليّ أنّ صدري يحاول أن ينشق عن قلبي حزناً وجزعاً , فأسرعت إلى منزلها وهو هذا المنزل الذي تراني فيه الآن , فرأيتها في هذه الغرفة على هذا السرير جثةً هامدةً لا حراك بها , ورأيت فتاتها إلى جانبها تبكي بكاءً مرّاً ,فصعقت لهول ما رأيت , وتمثلت لي جرائمي في غشيتي كأنما هي وحوش ضارية , وأسود ملتفّةً , هذا ينشب أظافره , وذاك يحدد أنيابه , فما أفقت حتى عاهدت الله ألاّ أبرح هذه الغرفة التي سميتها "غرفة الأحزان" حتى أعيش فيها عيشها , وأموت موتها . وها أنا ذا أموت اليوم ..

وما أن وصل من حديثه إلى هذا الحد , حتى انعقد لسانه واكفهرّ وجهه , وسقط على فراشه فأسلم الروح وهو يقول : ابنتي ياصديقي ,فلبثت بجانبه ساعةً قضيت فيها ما يجب على الصديق لصديقه , ثم كتبت إلى أصدقائه ومعارفه فحضروا تشييع جنازته , وما رئي مثل يومه يومٌ كان أكثر باكية وباكياً .

ولما حثونا الترب فوق ضريحه جزعنا ولكن أي ساعة مجزعٍ

يعلم الله أنّي أكتب قصته , ولا أملك نفسي من البكاء والنشيج , ولا أنسى ما حييت نداءه لي وهو يودع نسمات الحياة , وقوله "ابني يا صديقي" .

فيا أقوياء القلوب من الرجال , رفقاً بضعفاء النفوس من النساء . إنكم لا تعلمون حين تخدعونهن عن شرفهن , وعفتهن أي قلب تفجعون , أي دم تسفكون , إن هذه القصة تبكي العين وتحزن القلب .

هذه القصة تبين للأخت المسلمة حيل كثير من الشباب الذين لا همّ لهم إلا مطاردة النساء في الأسواق والمدارس والطرقات , ثم بكلام معسول تنقاد له وتصبح طريحةً أسيرةً بين يديه , حتى يعبث بها ويسرق عفتها وطهرها ثم يتبرأ منها بعد ذلك وينكر صحبتها فتبقى المسكينة بين نارين لا تدري ما تقول وما تفعل , لب تلازم البكاء والنحيب لعله يفرج عن نفسها من هذا العناء المتواصل والتفكير الدائم .

وأما الرجل الفاجر فقد ذهب بلا عودة ليصطاد فتاةً أخرى بعد ما أذاق الأولى صنوف الألام والحسرات والبكاء والزفرات , وسرق منها أغلا ما لديها .. عفتها وطهرها .

فيا أختي المسلمة : أفيقي من غفلتك وانتبهي لنفسك من ذئاب البشر , وحصنيها بالحشمة والحياء والحجاب والستر كي تسعدي في الدنيا والآخرة .

ونداء إلى الشباب المستهترين العابثين بأخلاق الفتيات أن يتقوا الله جل وعلا ويراقبوه , فإنه سبحانه المطلع على القلوب الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) وليعلموا أن لهم أمهات وأخوات وبنات وزوجات وقريبات فهل يرضون أن يفعل بهنّ كما فعلوا هم ببنات المسلمين ؟.

فإن الجزاء من جنس العمل . قال الشافعي رحمه الله :

عفوا تعفّ نساؤكم في المحرم وتجنبـــــوا ما لا يليق بمسلم

إنّ الزنا ديـنّ فإن أقرضـته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم

ياهاتكاً حرم الرجال وقاطعاً سبل المودة عشت غير مكرم

لو كنت حراً من سلالة ماجد ما كنت هاتكاً لحرمة مسلم

من يزن يزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم

فليتق الله الشباب والفتيات وليتوبوا إليه توبةً نصوحاً وليطهروا أنفسهم من المعاصي والمنكرات , وليراقبوا رب الأرض والسماء , فإن الله تعالى يعفو عن السيئات ويضاعف الحسنات ويرفع الدرجات



من كتاب نزهة المتقين بتصرف يسير



(نقلت لكم هذه القصة الاجتماعية من مطويّة)