{انَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَه

estabrag

New member
إنضم
4 أغسطس 2009
المشاركات
2,467
مستوى التفاعل
1
النقاط
0
الإقامة
كويت
الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين
2011/04/23 05:48 م

(Alwatan)






أهل الكويت هل من معتبر؟!

{انَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(1)


كان في ظن ابن علي وزمرته وفي ظن كثير من الناس ان سلطانه عظيم، وأن ملكه مكين ولكن كما قيل:
مابين غمضة عين وانتباهتها
يغير الله من حال الى حال
هرب هروب الأذلاء الخانعين، وفر فرار الجبناء الخائنين

لقد بين الله لمبارك ولزمرته ولحزبه ولكل من سار على سيره ومن هو على شاكلته الى يوم الدين أنه لا مفر من الحساب، ولا مهرب من العقاب فقال سبحانه: {انَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} فهاهم يحاكمون، وعلى ظلمهم يحاسبون، ويلقى بهم في غياهب السجون



قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد: قاعدة جليلة اذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه والق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه اليه، فانه خطاب منه لك على لسان رسوله قال تعالى: {ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} وذلك ان تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض ومحل قابل وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينة وأدلة على المراد فقوله {ان في ذلك لذكرى} أشار الى ما تقدم من أول السورة الى هنا وهذا هو المؤثر وقوله {لمن كان له قلب} فهذا هو المحل القابل والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى {ان هو الا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا} أي حي القلب وقوله {أو ألقى السمع} أي وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه الى ما يقال له وهذا شرط التأثر بالكلام وقوله وهو شهيد أي شاهد القلب حاضر غير غائب قال ابن قتيبة: استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساه وهو اشارة الى المانع من حصول التأثير وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له والنظر فيه وتأمله فاذا حصل المؤثر وهو القرآن والمحل القابل وهو القلب الحي ووجد الشرط وهو الاصغاء وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه الى شيء آخر حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر ا.هـ(2).
إخواني وأخواتي:
كم نحن بحاجة في زماننا للذكرى، كم نحن في عصرنا بحاجة للعبرة، كم من الظالمين الطاغين المتجبرين المعتدين بحاجة الى زلزلة عظيمة تفيق النائمين، ورجة تزعج الذاهلين، وصيحة تنبه الغافلين، الذين لايزالون يعتقدون في أنفسهم أنهم بمعزل عن عقاب الله تعالى وحسابه مع كل ما يقرؤونه ويسمعونه ويرونه، فكم وكم في كتاب الله من قصص المكذبين المتغطرسين، وكم فيه من حكايات الهالكين الأولين من عاد وثمود وقوم فرعون وقوم نوح وتبع وغيرهم تجبروا وتكبروا، فجاءهم الهلاك من حيث لا يعلمون، وما ذكره ربنا للتسلية، وانما لتكون عبرة وعظة وذكرى، ولكن يا ترى من ذا الذي يتعظ ومن ذا الذي يعتبر انه كما قال ربنا: من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ان أكثر الطغاة لا يعتبرون ولا يتعظون، فقد تلبسهم الشيطان بوسواسه وهواه، وأعماهم سلطان الباطل عما سواه، فهم في غيهم يعمهون، ماتت ضمائرهم، وغلفت قلوبهم وصمت آذانهم فلا يعقلون ولا يتفكرون ولا يتذكرون.
أيها الطغاة هاهو حاكم تونس بعد عقود من الزمان حارب الاسلام والمسلمين، ومشى في حكم بلاده مشي المتجبرين الهالكين، كان في ظنه وفي ظن كثير من الناس ان سلطانه عظيم، وأن ملكه مكين ولكن كما قيل:
مابين غمضة عين وانتباهتها
يغير الله من حال الى حال
هرب هروب الأذلاء الخانعين، وفر فرار الجبناء الخائنين.
وهاهو حسني مبارك بنى مملكة الحزب الوطني على أسس من الظلم والفساد والرشوة وأكل حقوق المصريين، ظن نفسه أنه عن ملكه لا يزول، وظن حكمه على مصر وأهلها لا يحول، فأطلق العنان لزمرته فعثت في الأرض فساداً، وأكلت حقوق المصريين تجبراً وعناداً، ولكن كما قال ربنا سبحانه وتعالى في سورة الفجر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ارَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}(3).
ثم بين له ولحزبه ولكل من سار على سيره ومن هو على شاكلته الى يوم الدين أنه لا مفر من الحساب، ولا مهرب من العقاب فقال سبحانه: {ان رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} فهاهم يحاكمون، وعلى ظلمهم يحاسبون، ويلقى بهم في غياهب السجون.
لم يهد بنيانهم بالزلازل كما حدث في اليابان، ولم ترسل عليهم الرياح العاتية التي أصابت قوم عاد، ولم يهلكوا بالطوفان كما أهلك قوم نوح، انما هلكوا بأشياء ما كانوا يظنون أنها تهلكهم، لقد كان سبب هلاكهم عن طريق تجمهر المتجمهرين، واجتماع المجتمعين عن طريق وسائل كانت تستخدم للهو والتسلية وقضاء الأوقات فاذا بها تقض عليهم مضاجعهم وتهد عليهم أركانهم، وتودي بهم وبكل حزبهم الى مزبلة الطغاة والظالمين.
أيها الاخوة:
ان ديننا يحث الناس على النظر الى الأيام الخالية والى الأمم الماضية لينتفعوا من تجارب السابقين، وحتى لا يتكرر الخطأ نفسه فيصبحوا مثلهم من الهالكين البائدين، وهاهي القصص تحدث أمام مرأى العالم كله وسمعه، ليست من حكايات الغابرين، وليست من قصص الأولين، بل هي واقع وحاضر وهي بلغت كل مراتب اليقين، فهي علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، ولكن أين هي من المعتبرين المتفكرين؟؟؟؟!!!
فلتكن لنا قلوب واعية، ولتكن عندنا آذان صاغية، ولنبتعد بأنفسنا عن كل فعلة عن الله لاهية، ولنعتبر في كل ما حولنا من سماء وأرض وليل ونهار وظلم وعدل ونعمة ونقمة ففي كل ذلك عظة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وأنتم أيها المظلومون في كل مكان وزمان فاعلموا ان حقوقكم لن تموت مهما طال عليها الزمن، واعلموا ان الله سينتصر لكم ممن ظلموكم عاجلاً أو آجلاً، ولن يضيع عنده مثقال ذرة أبداً مهما دقت وصغرت، ومهما استترت واختفت، هل تعلمون قصة صاحبة الوشاح؟ انها امرأة سوداء أسلمت وكان لها حفش في المسجد قالت فكانت تأتي السيدة عائشة رضي الله عنها فتحدث عندها فاذا فرغت من حديثها قالت:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا
ألا انه من بلدة الكفر أنجاني
فلما أكثرت قالت لها عائشة وما يوم الوشاح؟ قالت خرجت جويرية لبعض أهلي وعليها وشاح من أدم فسقط منها، فانحطت عليه الحديا وهي تحسبه لحما فأخذته فاتهموني به فعذبوني حتى بلغ من أمري أنهم طلبوه في قبلي فبينا هم حولي وأنا في كربي اذ أقبلت الحديا حتى وازت برؤوسنا، ثم ألقته فأخذوه فقلت لهم: هذا الذي اتهمتموني به وأنا منه بريئة (4).
فالحق سيظهر، والمظلوم سينتصر، والظالم سيحاسب، مهما طال الزمن، ومهما امتد الأجل، فليستبشر المظلومون، وليعتبر الظالمون، ولينتظر الهلاك والبوار الذين لا يتعظون ولا يتفكرون.

هوامش:

(1) سورة ق 37.
(2) كتاب الفوائد ج1 ص3.
(3) سورة الفجر من الآية 6 حتى 13.
(4) البخاري 3623.


=================

أولاً: مقامات ايمانية
3) من أسماء الله الحسنى:
القدوس (الْقُدُّوسُ) مِنْ جَلِيلِ اسمائِهْ، تَعْنِي الْطُّهْرَ وَالْتَنْزِيهَ لِذَاتِهْ، فَهُوَ الْقُدُّوسُ الْحَكِيمْ، وَهُوَ الْبَّرُّ الْرَّحِيمْ، وَالْرَّبُّ الْعَظِيمْ، لا نَاقِضَ لِمُبْرِمِ حُكْمِهْ، وَلا حَدَّ لِخَفِيِّ عِلْمِهْ،، تَقَدَّسَتْ اسماؤُهْ، وَتَوَاتَرَتْ آَلاؤُهْ، وَسَخَتْ سَمَاؤُهْ، وَعَمَّتْ فَوَاضِلُهْ، وَغَمَرَتْ نَوَافِلُهْ،، .
فَاللهَ اللهْ..!، فِيمَنْ قَدَّسَ اللهْ، وَدَامَ عَلَى رِضَاهْ، وَلَزِمَ تَقْوَاهْ، وَعَلا عَلَى هَوَاهْ، فَذَلِكَ الْزَّكِيُّ الْظَافِرُ فِي حِمَاهْ، وَيَا خَيْبَ الْشَّقِيِّ الْتَّعِيسْ، عَبْدِ الْخُبْزِ وَالْهَرِيسْ،، مَنْ بِالْشُّبْهَةِ تَدَنَّسْ، وَبِالْرِّيبَةِ تَطَلَّسْ، وَلِرَّبِّهِ مَا قَدَّسْ، وَلِشَعِيرَتِهِ قَدْ نَكَّسْ.

اذَا الْمَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيابًا مِنَ الْتُّقَى
تَقَلَّبَ عُرْيَانًا وَانْ كَانَ كَاسِيَا (1)
مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى رَبِّهْ، نَالَ حَاجَتَهُ وَظَفَرَ بِأَرَبِهْ،، فَلا يُوصَدُ دُونَهُ بَابْ، وَلا يَمْنَعُهُ مِنَ الْخَيْرِ حِجَابْ،، وَمَا نَقَصَ مَالُهْ، وَلا تَرَدَّى حَالُهْ، وَلا خَابَ فِي عَاجِلِهِ وَمَآَلِهْ،، بَلْ زَادَ وَمَا قَلْ، وَعَزَّ جَانِبُهُ وَمَا ذَلْ، وَرَادَ طَرِيقَهُ وَمَا ضَلْ، وَصَحَّ عَقْلُهُ وَمَا اخْتَلْ.
ثانيًا: سياحة في رحاب عالم الزهد والرقائق
3) جواهر..ولكن مَنْ يعمل بها؟

أحبتي في الله:
لله هذه الجواهر الوعظية وما أكثرها وما أعظمها، ولكن من ذا يعمل بها، فلتتهيأ، ولتفتح باصرتك، ولتعي ما يقال: قال الحسن رحمه الله: «من كان قويًا فليعتمد على قوته في طاعة الله، ومن كان ضعيفًا فليكف عن معاصي الله».
وقال علي: «لا تكن كمن يعجز عن شكر ما أوتي، فيبتغي الزيادة فيما بقي، وينهى الناس ولا ينتهي».
وكان الحسن اذا وعظ يقول: «يا لها من موعظة لو صادفت من القلوب حياة! ما لكم فقدتم عقولكم، فراش نار وذباب طمع».
وكان ابن السماك اذا فرغ من موعظة قال: «ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف!».
وقال رحمه الله: «الحسنة نور في القلب، وقوة في العمل، والسيئة ظلمة في القلب، وضعف في العمل».
وكان مالك بن دينار يقول: «ما أشد فطام الكبير وينشد: وتروضها من بعد ما هَرَمَتْ ومن العَنَاءِ رياضةُ الهَرَمِ!».
وكان بعض الوعاظ يقول: «يا أيها المشيخة الذين لم يتركوا الذنوب حتى تركتهم الذنوب، ثم ظنوا ان تركهم لها توبة وليتهم اذْ ذهبت عنهم لم يتمنوا عودهم اليها».
حال الخائفين من الله: سُئِلَ عبدالله بن عباس عن الخائفين في الله فقال: «هم الذين صدقوا الله في مخافة وعيده، قلوبهم بالخوف قرحة «واجفة»، وأعينهم على أنفسهم باكية، ودموعهم على خدودهم جارية، يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا، والقبور من أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدى ربنا موقفنا!!».
وقال علي رضي الله عنه في صفةِ الخائفين: «ألا ان لله عباداً مخلصين، كمن رأى أهل الجنة في الجنة فاكهين، وأهلَ النار في النار معذَّبين، شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة، وأنفسهم عفيفة، وحوائجَهم خفيفة، صبروا أياماً قليلة لراحة طويلة، أما بالليل فصفوا أقدامهم في صلاتهم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون الى ربهم: ربنا..ربنا! يطلبون فكاك قلوبهم، وأما بالنهار فعلماء حلماء أتقياء»....
وقال الحسن: ان خوفك حتى تلقى الأمن خير من أمنك حتى تلقى الخوف، وكان يقول: عجباً لمن خاف العقاب ولم يكف، ولمن رجا الثواب ولم يعمل.
وقال علي لرجل: ما تصنع؟ فقال: أرجو وأخاف.
قال علي: من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف شيئاً هرب اليه.
وقالوا: وعد من الله لمن خافه ان يدخله الجنة، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}(2).
وفي الأثر: «من كانت الدنيا همه، طال في الآخر غمه، ومن خاف ما بين يديه ضاق ذرعاً بما في يديه».
وعن المقبري: يا بن آدم اذا عملت حسنةً فاله عنها فانها عند من لا يضيعها، ثم تلا قوله تعالى: {انَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}(3).
واذا عملت سيئة فاجعلها نصب عينيك..
وسأل المغيرة الحسن قال: يا أبا سعيد! كيف نصنع بمجالسة أقوام هاهنا يحدثوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟
قال: أيها الشيخ: انك والله لأن تصحب أقواماً يخوفونك حتى تدرك أمناً خير لك من ان تصحب أقواماً يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف.
وفي الأثر: المؤمن بين مخافتين من ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع الله فيه، ومن عمر قد بقي لا يدري ماذا يصيب فيه من المهلكات.

ثالثًا: ابن الجوزي وابن حزم ينضمان لكتاب الوطن
3) ظاهرة (الألم وكيف تجعلها نعمة لا نقمة):

وهنا يفلسف ابن الجوزي البلاء والآلام، ويعرض لحال النفس في تسخطها، ويلمس خيطًا يجمع ما بين تجاوز الألم وادراك الصحة والثواب معًا بحس سيكلوجي بارع، فيقول في فصل بعنوان: (علاج البلاء:الصبر والدعاء): «للبلاء نهايات معلومة الوقت عند الله عز وجل، فلابد للمبتلى من الصبر الى ان ينقضي أوان البلاء».
فان تقلقل قبل الوقت لم ينفع التقلقل، كما ان المادة اذا انحدرت الى عضو فانها لن ترجع، فلابد من الصبر الى حين البطالة، فاستعجال زوال البلاء مع تقدير مدته لا ينفع.
فالواجب الصبر وان كان الدعاء مشروعًا ولا ينفع الا به، الا أنه لا ينبغي للداعي ان يستعجل، بل يتعبد بالصبر والدعاء والتسليم الى الحكيم، ويقطع المواد التي كانت سببًا للبلاء، فان غالب البلاء ان يكون عقوبة.
فأما المستعجل فمزاحم للمدبِّر، وليس هذا مقام العبودية، وانما المقام الأعلى هو الرضى، والصبر هو اللازم.
والتلاحي بكثرة الدعاء نعم المعتمد، والاعتراض حرام، والاستعجال مزاحمة للتدبير، فافهم هذه الأشياء فانها تهون البلاء(4)».
ويلتمس ابن الجوزي فلسفة عامة من هذا في الصبر وفلسفته عمومًا، فيقول: «ليس في الوجود شيء أصعب من الصبر، اما على المحبوب أو على المكروهات، وخصوصًا اذا امتد الزمان، أو وقع اليأس من الفرج، وتلك المدة تحتاج الى زاد يقطع به سفرها».
والزاد يتنوع من أجناس:
- فمنه تلمح مقدار البلاء، وقد يمكن ان يكون أكثر.
- ومنه أنه في حال فوقها أعظم منها، مثل ان يبتلى بفقد ولد وعنده أعز منه.
- ومن ذلك رجاء العوض في الدنيا.
- ومنه تلمح الأجر في الآخرة.
- ومنه التلذذ بتصوير المدح والثناء من الخلق فيما يمدحون عليه، والأجر من الحق عز وجل.
- ومن ذلك ان الجزع لا يفيد، بل يفضح صاحبه الى غير ذلك من الأشياء التي يقدحها العقل والفكر.
فليس في طريق الصبر نفقة سواها، فينبغي للصابر ان يشغل بها نفسه، ويقطع بها ساعات ابتلائه وقد صبح المنزل»(5).

حدث في شهر (جمادى الأولى)

فتح القسطنطينية
1 - ما معنى القسطنطينية: أسست عام 658 ق.م.وكانت من قبل قرية للصيادين.وتعرف باسم بيزنطة وفي عام 335م جعلها الامبراطور قسطنطين عاصمة للامبراطورية الرومانية الشرقية (الامبراطورية البيزنطية) وأصبح يطلق عليها القسطنطينية على اسم الامبراطور قسطنطين مؤسس الامبراطورية(6).
2 - تاريخ المعركة: كانت في20 من جمادى الأولى 857هـ/ 29 من مايو1453م، فتحها العثمانيون بقيادة «محمد الفاتح» بعد المحاولات لفتحها منذ عهد «معاوية بن أبي سفيان».
3 - البشارة لفاتحي القسطنطينية ومحاولة فتحها: بشر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بفتحها في عدة مواقف، من ذلك: ما حدث أثناء غزوة الخندق، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة طمعاً في ان يتحقق فيهم حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لتفتحن القسطنطينية على يد رجل، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش)، لذلك فقد امتدت اليها يد القوات المسلمة المجاهدة منذ أيام معاوية بن أبي سفيان في أولى الحملات الاسلامية عليها سنة 44هـ ولم تنجح هذه الحملة، وقد تكررت حملات أخرى في عهده حظيت بنفس النتيجة، كما قامت الدولة الأموية بمحاولة أخرى لفتح القسطنطينية.
4 - الاعداد للفتح: ما ان استقرت الأحوال في الدولة حتى عادت روح الجهاد من جديد..
أ - اهتمام السلطان بجمع الأسلحة اللازمة: اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الاسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع.
ب- الاهتمام بالأسطول: ويضاف الى هذا الاستعداد مابذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني.
ج- عقد معاهدات: كما عمل الفاتح قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع امارة (غلطة) المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بينهما مضيق (القرن الذهبي)، كما عقد معاهدات مع (المجد) و(البندقية) وهما من الامارات الأوروبية المجاورة، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية.
5 - الهجوم: كانت القسطنطينية محاطة بالمياه البحرية من ثلاث جهات، وبالتالي فانه يصعب اختراقها، ولذلك فقد استعصت على عشرات المحاولات العسكرية لاقتحامها ومنها احدى عشرة محاولة اسلامية سابقة كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها، وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها الى القسطنطينية، وقد تحركت المدافع من أدرنة الى قرب القسطنطينية، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه الى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 26 ربيع الأول 857هـ الموافق 6 ابريل 1453م، فجمع الجند وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة، وذكرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، ومافي فتحها من عز للاسلام والمسلمين، وقد بادر الجيش بالتهليل والتكبير والدعاء، وكان العلماء مبثوثين في صفوف الجيش مقاتلين ومجاهدين معهم مما أثر في رفع معنوياتهم حتى كان كل جندي ينتظر القتال بفارغ الصبر ليؤدي ما عليه من واجب.
6 - خطة السلطان: في اليوم التالي قام السلطان بتوزيع جيشه البري أمام الأسوار الخارجية للمدينة، مشكلاً ثلاثة أقسام رئيسية تمكنت من احكام الحصار البري حول مختلف الجهات، كما أقام الفاتح جيوشاً احتياطية خلف الجيوش الرئيسية، وعمل على نصب المدافع أمام الأسوار، وكان لقذائفها ولصوتها الرهيب دور كبير في ايقاع الرعب في قلوب البيزنطيين وقد تمكنت من تحطيم بعض الأسوار حول المدينة.
7 - مفاوضات بين محمد الفاتح وقسطنطين: حاول الامبراطور البيزنطي ان يخلص مدينته وشعبه بكل ما يستطيع من حيلة، فقدم عروضاً مختلفة للسلطان ليغريه بالانسحاب مقابل الأموال أو الطاعة، أو غير ذلك من العروض التي قدمها، ولكن الفاتح رحمه الله يرد بالمقابل طالباً تسليم المدينة تسليماً، وفي يوم 18 ابريل تمكنت المدافع العثمانية من فتح ثغرة في الأسوار البيزنطية عند وادي ليكوس في الجزء الغربي من الأسوار، فاندفع اليها الجنود العثمانيون بكل بسالة محاولين اقتحام المدينة من الثغرة، كما حاولوا اقتحام الأسوار الأخرى بالسلالم التي ألقوها عليها، ولكن المدافعين عن المدينة بقيادة جستنيان استماتوا في الدفاع عن الثغرة والأسوار، واشتد القتال بين الطرفين، وكانت الثغرة ضيفة وكثرة السهام والنبال والمقذوفات على الجنود المسلمين، ومع ضيق المكان وشدة مقاومة الأعداء وحلول الظلام أصدر الفاتح أوامره للمهاجمين بالانسحاب بعد ان أثاروا الرعب في قلوب أعدائهم متحينين فرصة اخرى للهجوم، وفي اليوم نفسه حاولت بعض السفن العثمانية اقتحام القرن الذهبي بتحطيم السلسلة الحاجزة عنه، ولكن السفن البيزنطية والأوروبية المشتركة، اضافة الى الفرق الدفاعية المتمركزة خلف السلسلة الضخمة من المدافعين عن مدخل الخليج، استطاعوا جميعاً من صد السفن الاسلامية وتدمير بعضها، فاضطرت بقية السفن الى العودة بعد ان فشلت في تحقيق مهمتها.
8 - عزل قائد الأسطول العثماني وشجاعة محمد الفاتح: بعد هذه المعركة بيومين وقعت معركة اخرى بين البحرية العثمانية وبعض السفن الأوروبية التي حاولت الوصول الى الخليج، حيث بذلت السفن الاسلامية جهوداً كبيرة لمنعها، وأشرف الفاتح بنفسه على المعركة من على الساحل وكان قد أرسل الى قائد الأسطول وقال له: (اما ان تستولي على هذه السفن واما ان تغرقها، واذا لم توفق في ذلك فلا ترجع الينا حياً) لكن السفن الأوروبية نجحت في الوصول الى هدفها ولم تتمكن السفن العثمانية من منعها، على الرغم من الجهود العظيمة المبذولة لذلك وبالتالي غضب السلطان محمد الفاتح غضباً شديداً فعزل قائد الاسطول بعد ما رجع الى مقر قيادته واستدعاه وعنف محمد الفاتح قائد الاسطول بالطه أوغلي وعنفه واتهمه بالجبن، وتأثر بالطة أوغلي لهذا وقال: (اني استقبل الموت بجنان ثابت، ولكن يؤلمني ان أموت وأنا متهم بمثل هذه التهمة.لقد قاتلت انا ورجالي بكل ماكان في وسعنا من حيلة وقوة، ورفع طرف عمامته عن عينه المصابة)، أدرك محمد الفاتح عند ذلك ان الرجل قد أعذر، فتركه ينصرف واكتفى بعزله من منصبه، وجعل مكانه حمزة باشا.
9 - عبقرية حربية فذة: لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش الى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعداً عن حي غلطة خوفاً على سفنه من الجنوبيين، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة، جمع محمد الفاتح أركان حربه وعرض عليهم فكرته، وحدد لهم مكان معركته القادمة، فتلقى منهم كل تشجيع، واعربوا عن اعجابهم بها، وبدأ تنفيذ الخطة، وأمر السلطان محمد الثاني فمهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها انزلاج السفن وجرها، وكان أصعب جزء من المشروع هو نقل السفن على انحدار التلال المرتفعة، الا أنه بصفة عامة كانت السفن العثمانية صغيرة الحجم خفيفة الوزن، وجرت السفن من البسفور الى البر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال، حتى وصلت الى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وانزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو، بطريقة لم يسبق اليها السلطان الفاتح قبل ذلك، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته، وقد تم كل ذلك في ليلة واحدة واستيقظ أهل المدينة البائسة صباح يوم 22 ابريل على تكبيرات العثمانيين المدوية، وهتافاتهم المتصاعدة، واناشيدهم الايمانية العالية، في القرن الذهبي، وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي، ولم يعد هناك حاجز مائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين، ولقد عبر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال: (ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحول الأرض الى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الاسكندر الأكبر)، وظهر اليأس في أهل القسطنطينية وكثرت الاشاعات والتنبؤات بينهم، وانتشرت شائعة تقول: ستسقط القسطنطينية عندما ترى سفن تمخر اليابسة» وكان لوجود السفن الاسلامية في القرن الذهبي دور كبير في اضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن الأسوار الأخرى لكي يتولوا الدفاع عن الأسوار الواقعة على القرن الذهبي اذ انها كانت أضعف الأسوار، ولكنها في السابق تحميها المياه، مما أوقع الخلل في الدفاع عن الأسوار الأخرى، واستمر العثمانيون في دك نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع، وحاولوا تسلَّق أسوارها، وفي الوقت نفسه انشغل المدافعون عن المدينة في بناء وترميم مايتهدم من أسوار مدينتهم ورد المحاولات المكثفة لتسلق الأسوار مع استمرار الحصار عليهم مما زاد في مشقتهم وتعبهم وارهاقهم وشغل ليلهم مع نهارهم وأصابهم اليأس، كما وضع العثمانيون مدافع خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي، مهمتها تدمير السفن البيزنطية والمتعاونة معها في القرن الذهبي والبسفور والمياه المجاورة مما عرقل حركة سفن الأعداء وأصابها بالشلل تماماً.
11 - المفاوضات الأخيرة بين محمد الفاتح وقسطنطين: أيقن محمد الفاتح ان المدينة على وشك السقوط، ومع ذلك حاول ان يكون دخولها بسلام، فكتب الى الامبراطور رسالة دعاه فيه الى تسليم المدينة دون اراقة دماء، ولما وصلت الرسالة الى الامبراطور جمع المستشارين وعرض عليهم الأمر، فمال بعضهم الى التسليم وأصر آخرون على استمرار الدفاع عن المدينة حتى الموت، فمال الامبراطور الى رأي القائلين بالقتال حتى آخر لحظة، فرد الامبراطور رسول الفاتح برسالة قال فيها: (انه يشكر الله اذ جنح السلطان الى السلم وأنه يرضى ان يدفع له الجزية أما القسطنطينية فانه أقسم ان يدافع عنها الى آخر نفس في حياته فاما ان يحفظ عرشه او يدفن تحت أسوارها)، فلما وصلت الرسالة الى الفاتح قال: (حسناً عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش او يكون لي فيها قبر).
12 - مفاجأة عسكرية عثمانية: لجأ العثمانيون الى أسلوب جديد في محاولة الاقتحام وذلك بأن صنعوا قلعة خشبية ضخمة شامخة متحركة تتكون من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من الأسوار، وقد كسيت بالدروع والجلود المبللة بالماء لتمنع عنها النيران، وأعدت تلك القلعة بالرجال في كل دور من أدوارها، وكان الذين في الدور العلوي من الرماة يقذفون بالنبال كل من يطل برأسه من فوق الأسوار، وقد وقع الرعب في قلوب المدافعين عن المدينة حينما زحف العثمانيون بهذه القلعة واقتربوا بها من الأسوار عند باب رومانوس، فاتجه الامبراطور بنفسه ومعه قواده ليتابع صد تلك القلعة ودفعها عن الأسوار، وقد تمكن العثمانيون من لصقها بالأسوار ودار بين من فيها وبين النصارى عند الأسوار قتل شديد واستطاع بعض المسلمين ممن في القلعة تسلق الأسوار ونجحوا في ذلك، وقد ظن قسطنطين ان الهزيمة حلت به، الا ان المدافعين كثفوا من قذف القلعة بالنيران حتى أثرت فيها وتمكنت منها النيران فاحترقت، ووقعت على الأبراج البيزنطية المجاورة لها فقتلت من فيها من المدافعين، وامتلأ الخندق المجاور لها بالحجارة والتراب، ولم ييأس العثمانيون من المحاولة بل قال الفاتح وكان يشرف بنفسه على ماوقع: غداً نصنع أربعاً أخرى.
13 - محمد الفاتح يوجه تعليماته ويتابع جنوده بنفسه: في يوم الاحد 18 جمادى الأولى 27 من مايو وجه السلطان محمد الفاتح الجنود الى الخشوع وتطهير النفوس والتقرب الى الله تعالى بالصلاة وعموم الطاعات والتذلل والدعاء بين يديه، وفي اليوم التالي 28 مايو كانت الاستعدادات العثمانية على أشدها والمدافع ترمي البيزنط بنيرانها، والسلطان يدور بنفسه على المواقع العسكرية المختلفة متفقدا وموجها ومذكرا بالاخلاص والدعاء والتضحية والجهاد، وكان الفاتح كلما مر بجمع من جنده خطبهم وأثار فيهم الحمية والحماس، وأبان لهم أنهم بفتح القسطنطينية سينالون الشرف العظيم والمجد الخالد، والثواب الجزيل من الله تعالى، وفي هذا الوقت كان الامبراطور البيزنطي يجمع الناس في المدينة لاقامة ابتهال عام دعا فيه الرجال والنساء والصبيان للدعاء والتضرع والبكاء في الكنائس على طريقة النصارى لعله ان يستجاب لهم فتنجو المدينة من هذا الحصار، وقد خطب فيهم الامبراطور خطبة بليغة كانت آخر خطبة خطبها، وتوجه قسطنطين نحو صورة (يزعمون أنها صورة المسيح) معلقة في أحد الغرف فركع تحتها وهمهم ببعض الدعوات ثم نهض ولبس المغفر على رأسه وخرج من القصر عند نحو منتصف الليل مع زميله ورفيقه وأمينه المؤرخ فرانتزتس ثم قاما برحلة تفقدية لقوات النصارى المدافعة ولاحظوا حركة الجيش العثماني النشطه المتوثبة للهجوم البري والبحري.وقبيل ذلك الليل بقليل رأت السماء رذا خفيفا كأنما كانت ترش الأرض رشا فخرج السلطان الفاتح من خيمته ورفع بصره الى السماء وقال: (لقد أولانا الله رحمته وعنايته فأنزل هذا المطر المبارك في أوانه فانه سيذهب بالغبار ويسهل لنا الحركة(.
14 - «فتح من الله ونصر قريب»: عند الساعة الواحدة صباحا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 مايو 1435م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد ان صدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار، وخاف البيزنطيون خوفا عظيما، وشرعوا في دق نواقيس الكنائس والتجأ اليها كثير من النصارى وكان الهجوم النهائي متزامنا بريا وبحريا في وقت واحد حسب خطة دقيقة أعدت باحكام، وكان المجاهدون يرغبون في الشهادة ولذلك تقدموا بكل شجاعة وتضحية واقدام نحو الأعداء ونال الكثير من المجاهدين الشهادة، وكان الهجوم موزعا على كثير من المناطق، ولكنه مركز بالدرجة الأولى في منطقة وادي ليكوس، بقيادة السلطان محمد الفاتح نفسه، وكانت الكتائب الأولى من العثمانيين تمطر الأسوار والنصارى بوابل من القذائف والسهام محاولين شل حركة المدافعين، ومع استبسال البيزنطيين وشجاعة العثمانيين كان الضحايا من الطرفين يسقطون بأعداد كبيرة، وبعد ان انهكت الفرقة الاولى الهجومية كان السلطان قد أعد فرقة أخرى فسحب الأولى ووجه الفرقة الثانية، وكان المدافعون قد أصابهم الاعياء، وتمكنت الفرقة الجديدة من الوصول الى الأسوار وأقاموا عليها مئات السلالم في محاولة جادة للاقتحام، ولكن النصارى استطاعوا قلب السلالم واستمرت تلك المحاولات المسائية من المهاجمين، والبيزنطيون يبذلون قصارى جهودهم للتصدي لمحاولات التسلق، وبعد ساعتين من تلك المحاولات أصدر الفاتح أوامره للجنود لأخذ قسط من الراحة، بعد ان أرهقوا المدافعين في تلك المنطقة، وفي الوقت نفسه أصدر أمرا الى قسم ثالث من المهاجمين بالهجوم على الأسوار من نفس المنطقة وفوجئ المدافعون بتلك الموجة الجديدة بعد ان ظنوا ان الأمر قد هدأ وكانوا قد أرهقوا، في الوقت الذي كان المهاجمون دماء جديدة معدة ومستريحة وفي رغبة شديدة لأخذ نصيبهم من القتال، كما كان القتال يجري على قدم وساق في المنطقة البحرية مما شتت قوات المدافعين وأشغلهم في أكثر من جبهة في وقت واحد، ومع بزوغ نور الصباح أصبح المهاجمون يستطيعون ان يحددوا مواقع العدو بدقة أكثر، وشرعوا في مضاعفة جهودهم في الهجوم وكان المسلمون في حماسة شديدة وحريصين على انجاح الهجوم، ومع ذلك أصدر السلطان محمد الأوامر الى جنوده بالانسحاب لكي يتيحوا الفرصة للمدافع لتقوم بعملها مرة أخرى حيث أمطرت الأسوار والمدافعين عنها بوابل من القذائف، واتعبتهم بعد سهرهم طوال الليل.
15 - شجعان الانكشارية: وبعد ان هدأت المدفعية جاء قسم جديد من شجعان الانكشارية يقودهم السلطان نفسه تغطيهم نبال وسهام المهاجمين التي لا تنفك عن محاولة منع المدافعين عنها وأظهر جنود الانكشارية شجاعة فائقة وبسالة نادرة في الهجوم واستطاع ثلاثون منهم تسلق السور أمام دهشة الأعداء، ورغم استشهاد مجموعة منهم بمن فيهم قائدهم فقد تمكنوا من تمهيد الطريق لدخول المدينة عند طوب قابي ورفعوا الأعلام العثمانية، مما زاد في حماس بقية الجيش للاقحام كما فتّوا في عضد الأعداء، وفي نفس الوقت أصيب قائد المدافعين جستنيان بجراح بليغة دفعته الى الانسحاب من ساحة المعركة مما أثر في بقية المدافعين، وقد تولى الامبراطور قسطنطين قيادة المدافعين بنفسه محل جستنيان الذي ركب أحد السفن فارا من أرض المعركة، وقد بذل الامبراطور جهودا كبيرة في تثبيت المدافعين الذين دب اليأس في قلوبهم من جدوى المقاومة، في الوقت الذي كان فيه الهجوم بقيادة السلطان شخصياً على أشده، محاولاً استغلال ضعف الروح المعنوية لدى المدافعين، وقد واصل العثمانيون هجومهم في ناحية اخرى من المدينة حتى تمكنوا من اقتحام الأسوار والاستيلاء على بعض الأبراج والقضاء على المدافعين في باب أدرنة ورفعت الاعلام العثمانية عليها، وتدفق الجنود العثمانيون نحو المدينة من تلك المنطقة، ولما رأى قسطنطين الأعلام العثمانية ترفرف على الأبراج الشمالية للمدينة، أيقن بعدم جدوى الدفاع وخلع ملابسه حتى لايعرف، ونزل عن حصانه وقاتل حتى قتل في ساحة المعركة(1)، وكان لانتشار خبر موته دور كبير في زيادة حماس المجاهدين العثمانيين وسقوط عزائم النصارى المدافعين وتمكنت الجيوش العثمانية من دخول المدينة من مناطق مختلفة وفر المدافعون بعد انتهاء قيادتهم، وهكذا تمكن المسلمون من الاستيلاء على المدينة وكان الفاتح رحمه الله مع جنده في تلك اللحظات يشاركهم فرحة النصر، ولذة الفوز بالغلبة على الأعداء من فوق صهوة جواده وكان قواده يهنئونه وهو يقول: (الحمدلله ليرحم الله الشهداء ويمنح المجاهدين الشرف والمجد ولشعبي الفخر والشكر)، وكانت هناك بعض الجيوب الدفاعية داخل المدينة التي تسببت في استشهاد عدد من المجاهدين، وقد هرب أغلب أهل المدينة الى الكنائس ولم يأت ظهيرة ذلك اليوم الثلاثاء 20 جمادي الأولى 857هـ الموافق 29 من مايو 1453م، الا والسلطان الفاتح في وسط المدينة يحف به جنده وقواده وهم يرددون: ماشاء الله، فالتفت اليهم وقال: لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية الذي أخبر عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهنأهم بالنصر ونهاهم عن القتل، وأمرهم بالرفق بالناس والاحسان اليهم، ثم ترجل عن فرسه وسجد لله على الأرض شكراً وحمداً وتواضعاً لله تعالى).
16 - معاملة محمد الفاتح للنصارى المغلوبين: توجه محمد الفاتح الى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفاً عظيماً، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة الى بيوتهم بأمان، فأطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا اسلامهم، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة الى مسجد وأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة، وقد أخذ العمال يعدون لهذا الأمر، فأزالوا الصلبان والتماثيل وطمسوا الصور بطبقة من الجير وعملوا منبراً للخطيب، وقد يجوز تحويل الكنيسة الى المسجد لأن البلد فتحت عنوة والعنوة لها حكمها في الشريعة الاسلامية، وقد اعطى السلطان للنصارى حرية اقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع.

هوامش:
(1) البيت لأبي العتاهية وهو من بحر الطويل.
(2) سورة الرحمن – الآية 46.
(3) سورة الكهف – من الآية 30.
(4) انظر: صيد الخاطر، ص12.
(5) انظر: صيد الخاطر، ص156.
(6) الدولة العثمانية عوامل النهوض واسباب السقوط – (ج1 / ص116)