المريض والمعصية

سأكون بأمة

New member
إنضم
31 يوليو 2009
المشاركات
234
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
المريض والمعصية

ذهبت يوماً لزيارة أحد المرضى..قد أصيب بمرض خطير..كان المرض متمكناً منه..وقد ضعف جسمه..ورق عظمه..وذبل جلده..وكان بعض الأصحاب قد أخبرني أن الطبيب أسر إليه بأن نهايته تبدو قريبة..والعلم عند الله وحده..أقبلت أمشي بهدوء إلى غرفته..وأنا أنتظر أن يستقبلني صوت قراءة القرآن..وأن أرى سجادة الصلاة مفروشة..وأن أراه منكسراً مقبلاً على الله..
طرقت الباب..فأذن لي بالدخول..وهولايدري من أنا..دخلت إلى غرفته..هدوء قاتل..ونور خافت..
كانت الغرفة أشبه بالمقبرة..المرآة قد غطت بملاءة بيضاء..حتى لايرى نفسه وينتبه لتساقط شعره فيذكر مرضه..رآني فتهيأ للجلوس على سريره..
كان عنده مجموعة من أصدقائه..أكبر همهم أن ينسوه مرضه..يظنون أن أكبر خدمة يقدمونها إليه..أن يضحكوه..نعم..يضحكوه..ويضحكوه فقط..كان الشاب يضحك فعلاً..أو يتظاهر بالضحك..لاأدري!! وقد نسي أن صحيفة عمله تطوى في كل لحظة..وأن أكثر أجهزة جسمه قد تعطل عن العمل..وأنه في أي لحظة يمكن أن يموت..
عندما جلست..قام أحدهم إلى التلفاز وخفض من صوت الأغنية..أحسست أنهم يشعرون بأني تقيل..أفسدت عليهم سهرتهم..
لاحول ولاقوة إلا بالله..ما أقسى هذه القلوب..
جعلت أتلفت في أنحاء الغرفة تمنيت أن أرى مصحفاً..سجادة صلاة..مسجلاً وأشرطة قرآن..لكني مع الأسف الشديد..لم ألحظ من ذلك شيئاً..
كل ماهنالك مجلات..إحداها على غلافها صورة ملكة جمال فرنسا..وأخرى على غلافها صورة أحد المطربين..أذكر أني رأيت صورته يوماً في إحدى الجرائد..ومجلة ثالثة عن الرياضة والشباب..ورابعة..
وكلها بجانبه..ويبدو من أوراقها أنه قد تصفحها مراراً..
في الحقيقة..كدت أبكي وأنا أنظر إليه..بل كنت أدافع دمعة ترقرقت في عيني مراراً..أصحابه حاولوا جاهدين أن يشركوني في الضحك..كنت أجاملهم وأتبسم..جعل أحد أصحابه يتذكر موقفاً طريفاً..سمع أنه وقع لي في محاضرة..أو من خلال لقاء تلفزيوني..ليضحكه..ويضحكني..كان المسكين يظن نفسه خفيف الظل فجعل يطرح الكلام والتعليقات السخيفة على الآخرين..في الحقيقة كان ثقيل الدم جداً..لاتكاد تحتمله وهو ساكت..فكيف إذا تكلم..كنت أنظر إليه متكلفاً التبسم وأقول في نفسي..آآآآه ماااااأصبرهم عليه..لم أحتمل مجلسهم..واستأذنت خارجاً..
مشيت في ممر المستشفى خطوات..فلما كدت أبلغ الباب..قلت في نفسي..لايجوز أن أذهب حتى أصدقه النصح..فلعل لقائي هذا يكون الأخير..وكان ظني صحيحاً فقد صار اللقاء الأخير..
رجعت إليه..طرقت الباب ودخلت..استأذنت أصحابه أن يدعوني معه برهة..خرجوا وأغلقوا الباب بهدوء..بقيت أنا وياسر..أحد بصره إلي..أظن أنه عرف ماسأقول..قلت له بكل صراحة:ياسر..لاوقت للمجاملة..
تعلم أنك من أحب الناس إلي..ومازرتك وتركت أشغالي إلا شوقاً إليك..سمعت بمرضك ففجعت..وأظن أن حزني عليك لايقل عن حزنك على نفسي..ولئن كنت تبكي على نفسك دمعاً فإني أبكي عليك دماً..
خفض رأسه..وبكى..فخنقتني العبرة..
قلت:ياسر دخلت عليك وأنا أعرفك..ظننت أني سأراك على سجادتك..أو بين يديك مصحفك..فإذا أنت كرجل موعود بالخلود..
ياسر..قد أخبرك الطبيب باستفحال مرضك..وأن أيامك في الدنيا قد تكون معدودة..ولاأدري هل تصلي معنا الجمعة القادمة..أم نصلي عليك..
إزداد بكاؤه..ياسر..حري بمن تطوى صحيفة عمله..وتعد عليه أنفاس حياته..-ومن يدري لعل كلانا كذلك-حري به أن يتقرب إلى ربه بما يستطيع..فضلاً عن ترك المحرمات..وإذا كان الصحيح المعافى مأمور بحب الله وطاعته..فكيف بالمريض السقيم..
ياسر..أين ماكنت أحدثك به من قبل..حول الدعاء والإستغفار..والذكر..
ياسر أين رقة قلبك..ولطف تعبدك..الذي عرفته فيك..
ياسر..أين الشجاعة والبطولة التي عهدتك عليها..أين قولك يوماً:لابد للمرء أن يبصق في وجه الشيطان ولايلتفت إلى وسوسته..كيف تبعد عن الله في شدة حاجتك إليه!!إزداد بكاؤه..واسيته بكلمات ثناء..ثم خرجت من عنده..وبعد ثلاثة أيام صلينا عليه..رحمه الله ورفع درجته..آمين..
(من كتيب عاشق في غرفة العمليات للشيخ العريفي).