- إنضم
- 24 يونيو 2015
- المشاركات
- 28,528
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 0
أتمنى لو كنتُ ملاكاً ضائعاً في مكانٍ آخر حيث أستطيع أن أصل إلى أمي كلّ يوم وأخبرها عن القصة التي لم تُكملها لي حتى الآن وأنني أواجه صعوبة في الإيمان بالكثير من أحداثها بسببِ أنها رحلت قبل أن تضع في قلبي قصةً كاملة أستطيع من خلالها على الأقل العثور على طريقٍ ما يوصلني إليها عندما أحتاجها.
أحياناً لا أنام، أصعد إلى سطحِ منزلنا وأفكر فيها كثيراً، أشاهد السّماء وكأنها وجهها القديم، أحاول أن أقابل عينيّها من خلالِ نجمةٍ بعيدة، نجمةٍ لا أراها إلا قبل أن تشرق الشمس بقليل، وتُدهشني دائماً مثل أغنيةٍ مقدّسة، مفتوحةٍ منذ وقتٍ طويل، منذُ أن قرر كل طفلٍ يتيمٍ أن لا ينام وأن يؤجل فرصة بكائهِ إلى لحظةٍ أخرى لأنه منشغل الآن بعينيّ أمه وبفكرة وجودها في الأعلى على شكلِ نجمة.
لم أوّد يوماً أن أنساها وأن أتعامل مع غيابها كما يفعل الآخرون، كما تزوج أبي من امرأةٍ جديدة وكما انتقل أخي إلى بلدٍ لا يحمل قبر أُمي على صدره، وكما رفضت أختي أن ترتدي خاتم أمي الذي أعطتها إياه لأنها لا تحبُ شكله وفضّلت أن تشتري خاتماً آخر ليومِ زفافها. مازلتُ كل يوم أدخل إلى مرسمها الصغير الذي تركته فوضوياً وحزيناً، أتعمّد دائماً أن أترك كل شيء كما كانت تحبّه، أن أضع الريشة على النافذة كلّ صباح ثم أضعها داخل كوبٍ من الماء في وقتِ الظهيرة، وأن أفتح أغنيتها المفضلة بصوتٍ عال وأجلسُ على كرسيها الذي مازالَ دافئاً مثل جسدها وأتفرّج على اللوحة الأخيرة التي لوّنتها كاملة باللون الرمادي ورسمت على جانبها الأيسر جناحاً وحيداً لطائرٍ أزرق , ووضعت ثلاث نقاطٍ باللون الأسود بجانبِ الجناح ثم رسمت خطاً عمودياً أبيض أمام الطائر وكأنه مصير آتٍ أو رحلة مجهولة، لا أعرف تماماً بماذا كانت تفكر أو تشعر تلك الأيام، لكنّي أذكر أنها كانت غائمة كثيراً وصامتة في معظمِ أوقاتها، كنت أصادفها أحياناً تبكي داخل مرسمها، أمام لوحتها هذه تحديداً، كانت تواجه نفسها كعادتها من خلالِ مجموعة ألوان وريشة طويلة. أذكر بأنها كانت تقول لي عندما أسألها عن سر حبّها للرسم :”الفن هو اللحظة التي لم نواجه فيها العالم , والليلة التي لم نبكِ خلالها جيداً , والحزن الذي تأخرنا فيهِ كثيراً عن الصلاة”. لذلك عندما انكسرت أول مرة، لم تفعل شيئاً غير أنها بقيت في المرسم تُوّدع هذا المكان الذي لم تكن موجودةً إلا من خلاله ومن خلالِ الثوب الأصفر القصير الذي تلبسه دائماً قبل أن ترسم، بعد أن تنفش شعرها الذهبي وتبتسم مع الموسيقى العالية. كنت أشعر بأنها كانت تنساني كلما انشغلت برسمِ لوحةٍ ما، وكنت أحزنُ جداً بسببِ اهتمامها بالرسم أكثر منّي، لكنّ في صباح اليوم الذي كانت فيهِ مسافرة إلى ألمانيا للعلاج، أدخلتني مرسمها وأغلقت الباب من ورائنا , وأجلستني على حضنها ثم نظرت إلى عينيّ مباشرةً، وقالت:” لمّا رأيت وجهك أول مرة , ذّكرتني بنفسي لأنك تحمل نفس لون عينيّ وشكل وجهي ونوع شخصيتي، لذلك عندما أغيب يمكنك دائماً أن تساعدني على الحياة من خلالك. لن أحب شيئاً بالطريقة التي وضعتك بها في قلبي، أعدك “. أتذكر وجهها المكسور، كان غامضاً مثل بيوت الملائكة ومثل أفكاري في تلك اللحظة، ولم أكن أعرف حينها أنها كانت تحاول توديعي دون أن تُخيفني بفكرةِ الموت، ودون أن تُشعرني بأنني سوف أُجبر على أن أكون وحيداً في الأيام القادمة. جهّزت نفسها وأخذت أغراضها وغادرت، جرحني شكلها وهي تبتعد، وكأنها لن تعود أبداً. في اليوم التالي بعد سفرها،كلمتني عن طريق هاتف المستشفى وقالت بأنها سوف تشتاق لي كثيراً، وطلبت مني أن أعتني جيداً بمرسمها، وأن لا أسمح لأبي بأن يحوله إلى مكتبة صغيرة كما أراد هو دائماً. أغلقت المكالمة بعد أن نادتني يا “بطلي” وبعد أن شعرتُ بالضياع لأول مرةٍ في حياتي، وبالمشاعر المزعجة التي تبدأ مع أشدّ أنواع الألم ولا تتوقف أبداً، وشعرتُ أيضاً بأن هنالك شيئا في قلبي انكسر، شيئا لم يُكسر من قبل. في ذلك المساء، كنت جالساً على درج المنزل، أراقب انفعالات السماء , لاحظتُ أنها حزينة لأنها كانت تغطي وجهها بكلّ غيمةٍ تراها، ثم أمطرت بعد ثوانٍ قليلة، وبكى معها الشارع أيضاً، لم أكن أرغب بالبكاء لكنّي بكيت وغطيّت وجهي مثلما فعلت السماء فقد أشعرتني بالشيء الذي لم أفهمه في داخلي، كنت حزيناً طوال الوقت دون أن أعرف. في فجر اليوم التالي، ماتت أمي، سمعتُ أختي تصرخ بهذه الجملة، ماتت أمي، ماتت!
إذن، كانت أمي فعلاً مصممة على الرحيل، وكانت محقة عندما لمّحت لي بأنها سوف تغيب لوقتٍ طويل , ومزاجها الغائب كان بسببِ أنها كانت تعرف شيئاً قاسياً إلى هذه الدرجة. كان الوقت متأخراً جداً كي أستطيع أن أطلب منها أن تنهي لي القصة، أو أن أنام معها لآخر مرة. كنت مستعداً أن أرتب غرفتي كل يوم وأن أنهي واجباتي المدرسية مبكراً وأن أعيد إلى طفل الجيران دراجته وأن لا ألعب بالكرة أمام السيارات، كنت مستعداً أن لا أغضبها بأي شيء، فقط أريدها أن تعود وأن تعطيني فرصة إضافية كي أكون طفلاً صالحاً لها. أخبرتُ الله بذلك حتى يوصل لها رسالتي، ربما تعود، انتظرت كثيراً، لكن لم يحصل شيء، لم يحصل شيء حتى الآن!
أوّد فعلاً لو أنني نبتةً صغيرة تضعها على نافذة غرفتها وتتفقدها كل يوم، أو أنني حلم فاجأها في منامها الطويل واستيقظت بسببه، أو أنني شيء تذَّكرت أن تأخذه معها إلى مكانها الجديد، شئ مع بقيةِ أشيائها التي تركتها في المنزل , وفي ذهني أيضاً. مرت سنوات طويلة وباردة وأنا أحاول مساعدتها على الحياة كما قالت لي، لكنّي لم أنجح إلا حينما أكملت لوحتها الأخيرة عندما أضفت للطائر الأزرق جناحاً آخر، أو ربما مصيراً آخر ثم رسمتُ خطاً إضافياً بجانبِ الخط العمودي الأبيض لإيماني بأن الفن لم يفرقنا يوماً. بعد شهور قليلة، قمت بعرضها كلوحةٍ افتتاحية لمعرضي الأول، فقط حينها شعرت أن القصة اكتملت أخيراً.
أحياناً لا أنام، أصعد إلى سطحِ منزلنا وأفكر فيها كثيراً، أشاهد السّماء وكأنها وجهها القديم، أحاول أن أقابل عينيّها من خلالِ نجمةٍ بعيدة، نجمةٍ لا أراها إلا قبل أن تشرق الشمس بقليل، وتُدهشني دائماً مثل أغنيةٍ مقدّسة، مفتوحةٍ منذ وقتٍ طويل، منذُ أن قرر كل طفلٍ يتيمٍ أن لا ينام وأن يؤجل فرصة بكائهِ إلى لحظةٍ أخرى لأنه منشغل الآن بعينيّ أمه وبفكرة وجودها في الأعلى على شكلِ نجمة.
لم أوّد يوماً أن أنساها وأن أتعامل مع غيابها كما يفعل الآخرون، كما تزوج أبي من امرأةٍ جديدة وكما انتقل أخي إلى بلدٍ لا يحمل قبر أُمي على صدره، وكما رفضت أختي أن ترتدي خاتم أمي الذي أعطتها إياه لأنها لا تحبُ شكله وفضّلت أن تشتري خاتماً آخر ليومِ زفافها. مازلتُ كل يوم أدخل إلى مرسمها الصغير الذي تركته فوضوياً وحزيناً، أتعمّد دائماً أن أترك كل شيء كما كانت تحبّه، أن أضع الريشة على النافذة كلّ صباح ثم أضعها داخل كوبٍ من الماء في وقتِ الظهيرة، وأن أفتح أغنيتها المفضلة بصوتٍ عال وأجلسُ على كرسيها الذي مازالَ دافئاً مثل جسدها وأتفرّج على اللوحة الأخيرة التي لوّنتها كاملة باللون الرمادي ورسمت على جانبها الأيسر جناحاً وحيداً لطائرٍ أزرق , ووضعت ثلاث نقاطٍ باللون الأسود بجانبِ الجناح ثم رسمت خطاً عمودياً أبيض أمام الطائر وكأنه مصير آتٍ أو رحلة مجهولة، لا أعرف تماماً بماذا كانت تفكر أو تشعر تلك الأيام، لكنّي أذكر أنها كانت غائمة كثيراً وصامتة في معظمِ أوقاتها، كنت أصادفها أحياناً تبكي داخل مرسمها، أمام لوحتها هذه تحديداً، كانت تواجه نفسها كعادتها من خلالِ مجموعة ألوان وريشة طويلة. أذكر بأنها كانت تقول لي عندما أسألها عن سر حبّها للرسم :”الفن هو اللحظة التي لم نواجه فيها العالم , والليلة التي لم نبكِ خلالها جيداً , والحزن الذي تأخرنا فيهِ كثيراً عن الصلاة”. لذلك عندما انكسرت أول مرة، لم تفعل شيئاً غير أنها بقيت في المرسم تُوّدع هذا المكان الذي لم تكن موجودةً إلا من خلاله ومن خلالِ الثوب الأصفر القصير الذي تلبسه دائماً قبل أن ترسم، بعد أن تنفش شعرها الذهبي وتبتسم مع الموسيقى العالية. كنت أشعر بأنها كانت تنساني كلما انشغلت برسمِ لوحةٍ ما، وكنت أحزنُ جداً بسببِ اهتمامها بالرسم أكثر منّي، لكنّ في صباح اليوم الذي كانت فيهِ مسافرة إلى ألمانيا للعلاج، أدخلتني مرسمها وأغلقت الباب من ورائنا , وأجلستني على حضنها ثم نظرت إلى عينيّ مباشرةً، وقالت:” لمّا رأيت وجهك أول مرة , ذّكرتني بنفسي لأنك تحمل نفس لون عينيّ وشكل وجهي ونوع شخصيتي، لذلك عندما أغيب يمكنك دائماً أن تساعدني على الحياة من خلالك. لن أحب شيئاً بالطريقة التي وضعتك بها في قلبي، أعدك “. أتذكر وجهها المكسور، كان غامضاً مثل بيوت الملائكة ومثل أفكاري في تلك اللحظة، ولم أكن أعرف حينها أنها كانت تحاول توديعي دون أن تُخيفني بفكرةِ الموت، ودون أن تُشعرني بأنني سوف أُجبر على أن أكون وحيداً في الأيام القادمة. جهّزت نفسها وأخذت أغراضها وغادرت، جرحني شكلها وهي تبتعد، وكأنها لن تعود أبداً. في اليوم التالي بعد سفرها،كلمتني عن طريق هاتف المستشفى وقالت بأنها سوف تشتاق لي كثيراً، وطلبت مني أن أعتني جيداً بمرسمها، وأن لا أسمح لأبي بأن يحوله إلى مكتبة صغيرة كما أراد هو دائماً. أغلقت المكالمة بعد أن نادتني يا “بطلي” وبعد أن شعرتُ بالضياع لأول مرةٍ في حياتي، وبالمشاعر المزعجة التي تبدأ مع أشدّ أنواع الألم ولا تتوقف أبداً، وشعرتُ أيضاً بأن هنالك شيئا في قلبي انكسر، شيئا لم يُكسر من قبل. في ذلك المساء، كنت جالساً على درج المنزل، أراقب انفعالات السماء , لاحظتُ أنها حزينة لأنها كانت تغطي وجهها بكلّ غيمةٍ تراها، ثم أمطرت بعد ثوانٍ قليلة، وبكى معها الشارع أيضاً، لم أكن أرغب بالبكاء لكنّي بكيت وغطيّت وجهي مثلما فعلت السماء فقد أشعرتني بالشيء الذي لم أفهمه في داخلي، كنت حزيناً طوال الوقت دون أن أعرف. في فجر اليوم التالي، ماتت أمي، سمعتُ أختي تصرخ بهذه الجملة، ماتت أمي، ماتت!
إذن، كانت أمي فعلاً مصممة على الرحيل، وكانت محقة عندما لمّحت لي بأنها سوف تغيب لوقتٍ طويل , ومزاجها الغائب كان بسببِ أنها كانت تعرف شيئاً قاسياً إلى هذه الدرجة. كان الوقت متأخراً جداً كي أستطيع أن أطلب منها أن تنهي لي القصة، أو أن أنام معها لآخر مرة. كنت مستعداً أن أرتب غرفتي كل يوم وأن أنهي واجباتي المدرسية مبكراً وأن أعيد إلى طفل الجيران دراجته وأن لا ألعب بالكرة أمام السيارات، كنت مستعداً أن لا أغضبها بأي شيء، فقط أريدها أن تعود وأن تعطيني فرصة إضافية كي أكون طفلاً صالحاً لها. أخبرتُ الله بذلك حتى يوصل لها رسالتي، ربما تعود، انتظرت كثيراً، لكن لم يحصل شيء، لم يحصل شيء حتى الآن!
أوّد فعلاً لو أنني نبتةً صغيرة تضعها على نافذة غرفتها وتتفقدها كل يوم، أو أنني حلم فاجأها في منامها الطويل واستيقظت بسببه، أو أنني شيء تذَّكرت أن تأخذه معها إلى مكانها الجديد، شئ مع بقيةِ أشيائها التي تركتها في المنزل , وفي ذهني أيضاً. مرت سنوات طويلة وباردة وأنا أحاول مساعدتها على الحياة كما قالت لي، لكنّي لم أنجح إلا حينما أكملت لوحتها الأخيرة عندما أضفت للطائر الأزرق جناحاً آخر، أو ربما مصيراً آخر ثم رسمتُ خطاً إضافياً بجانبِ الخط العمودي الأبيض لإيماني بأن الفن لم يفرقنا يوماً. بعد شهور قليلة، قمت بعرضها كلوحةٍ افتتاحية لمعرضي الأول، فقط حينها شعرت أن القصة اكتملت أخيراً.