- إنضم
- 16 يوليو 2010
- المشاركات
- 4,416
- مستوى التفاعل
- 3
- النقاط
- 0
أبـِلار ولد 21 إبريل1079 - 1142
هو فيلسوف فرنسي شهير وله الفضل في إنشاء جامعة باريس،
ويعتبر شعلة ألهبت عقل أوربا اللاتينية في القرن الثاني عشر ، ويعتبر ممثلا لأخلاق عصره وآدابه ، وأرقى واعظم ما يخلب اللب ويبهر العقل في ذلك العصر. وتعتبر علاقته العاطفية بتلميذته إلواز مضرباً للأمثال.
وُلد أبيلارد قرب نانت بفرنسا. رسم له أبوه، الذي كان من طبقة النبلاء، طريقًا عسكريًا، لكن أبيلارد قرر أن يكون عالمًا. قام بتدريس اللاهوت بباريس في الفترة 1113ـ 1118م. وأسس مع اثنين من زملائه مدرسة تطورت تدريجيًا حتى أصبحت، فيما بعد، جامعة باريس.
أصبح أبيلارد أستاذًا لإلواز عام 1113م، وهي حفيدة أحد مسؤولي كاتدرائية نوتردام، ونشأت قصة حب بين أبلار والفتاة، وحملت منه. وفي أعقاب مولد طفلهما، عام 1118م، عقدت إلواز وأبلار قرانهما سرًا. علم فولبير، عمّ إلواز، بخبر حبهما وزواجهما السرِّي، فاستشاط غضبًا. واستأجر في لحظة غضبه تلك مجموعة رجال هاجموا منزل أبيلارد وخصوه. وانفصل أبيلارد وإلواز بعد الحادثة مباشرة. أصبح أبلار راهبًا، والتحقت إلواز بدير للراهبات. وقد ذاعت أسرار حبهما المأساوي من رسائلهما العديدة التي تبادلاها.
ابلارد والواز
كان لأبلار إسهامًا كبيرًا في فكر العصور الوسطى الأوروبية، في مجالي المنطق واللاهوت. وقد حث على استعمال المنطق من أجل استيعاب النصرانية والدفاع عنها. ألَّف أبلار كتابًا يدعى "نعم ولا" قوامه الآراء المتضاربة للسلطات اللاهوتية في مختلف المسائل والمبادئ الدينية. أصبح هذا الكتاب أحد الكتب التي أثرت في النظام الفلسفي الأوروبي للعصور الوسطى الأوروبية المسمّى المدرسية. كذلك كتب أبلار مؤلفًا بالغ الأهمية في الأخلاق، كما نشر سيرته الذاتية، في كتاب سمّاه قصة بؤسي.
النشأة
ولد أبلار في قرية له باليه القريبة من نانت إحدى مدن بريطانيا. وكان أبوه المعروف لنا بإسم بيرنجر ، صاحب ضيعة متواضعة، وكان بمقدوره أن يهيئ لأولاده الثلاثة ولابنته تعليماً حراً. وكان بيير (ولسنا نعرف اصل لقبه أبلار) أكبر أولئك الأبناء، وكان بمقدوره أن يطالب بحق الابن الأكبر في ميراث ابيه ؛ ولكنه كان مولعاً بالدرس والتفكير الى حد جعله بعد أن كبر ينزل لأخويه عن حقه ، وعن نصيبه في أملاك الأسرة، وشرع يطلب الفلسفة، ويلقى بنفسه في معركتها أينما حمى وطيسها ، أو أينما وجد معلماً ذائع الصيت يدرسها.
أبلار وروسلان
كان اعظم ما اثر في حياته المستقبلية أن كان من أول أساتذته روسلان( 1050- 1120) ، وهو رجل متمرد أنصب عليه كما أنصب على أبلار من بعده سخط الكنيسة وحرمانه من الدين.
وكان المنشأ الذي أثاره روسلان مسألة من مسائل المنطق الجاف الموغل في الجاف ، والتي تبدوا ابعد المسائل كلها عن الأذى ، وهي الوجود الموضوعي (للكليات).
وكان (الكلي) في الفلسفة اليونانية وفلسفة العصور الوسطى هو الفكرة العامة التي تدل على صنف من الأشياء (كالكتاب، والحجر، والكوكب، والرجل، والنوع الإنساني، والشعب الفرنسي، والكنيسة الكاثوليكية)؛ أو الأعمال (كالقسوة ، والعدالة)؛ أو الصفات (كالجمال، والصدق).
وكان أفلاطون ، وهو العليم بسرعة زوال الكائنات والأشياء الفردية، قد قال بأن الكلي اكثر بقاء، وأنه لذلك اكثر حقيقة، من أي فرد من الصنف الذي يصفه: فالجمال اكثر حقيقة من فريني ، والعدالة اكثر حقيقة من أرستيديز والرجل اكثر حقيقة من سقراط ؛ وهذا هو الذي كانت العصور الوسطى تعبر عنه (بالواقعية).
وخالف أرسطو هذا الرأي وقال أن (الكلي) ليس إلا فكرة يكونها العقل لتمثل صنفاً من الأشياء المتماثلة؛ فهو يرى أن الصنف نفسه لا يرى إلا فيصوره أعضائه التي يتركب هو منها. والناس في وقتنا هذا يتجادلون: هل يوجد (عقل جماعة) منفصلاً عن رغبات الأفراد الذين تتكون منهم هذه الجماعة وأفكارهم ومشاعرهم؟ فأما هيوم فقد قال أن (العقل) الفردي نفسه ليس إلا اسماً مجرداً من سلسلة الأحاسيس والأفكار، والإرادات التي في كائن حي ولمجموعها.
ولم يكن اليونان يهتمون اهتماما كبيراً بهذه المسألة، واكتفى فيلسوف من آخر الفلاسفة الوثنيين -هو برفيري ( 232- 304) الذي أقام في الشام وفي روما - بصياغتها دون أن يعرف حلاً لها. لكن العصور الوسطى كانت تراها مأساة حيوية.
أبلار والفلسفة الإدراكية
ألقي أبلار عصا التسيار في مدرسة وليم بعد المثير من التجوال العلمي 1103 ، وكان وقتئذ في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من عمره.
وكان وسيم الخلق حسن القوام ، بهي الطلعة. ذا جبهة عريضة تبعث في النفس الروعة؛ وكانت روحه المرحة تكسب طباعة وحديثة فتنة وحيوية. وكان يستطيع تأليف الأغاني وإنشادها، وكانت فكاهته القوية تزلزل الضعاف في قاعات الجدل. وكان شاباً مرحاً طروباً، عرف في الوقت نفسه باريس والفلسفة.
وكانت عيوبه هي العيوب التي تستلزمها صفاته: فقد كان مغروراً، مزهواً بنفسه، وقحاً، منطوياً على نفسه، دفعه ابتهاجه بمواهبه التي كان يعرفها حق المعرفة إلى أن يطرح بتهور الشباب العقائد التعسفية والعواطف الرقيقة التي كانت سائدة في عصره وبين أساتذته، وقد أسكرته بهجة الفلسفة المحببة إليه؛ فهذا العاشق الذائع الصيت يحب الجدل اكثر مما يحب إلواز.
وقد سخر من واقعية أستاذه المسرفة ، وتحداه علناً أمام فرقته: يا عجباً الإنسانية كلها حاضرة في سقراط؟ إذن فحين تكون الإنسانية كلها حاضرة في الاسكندر لا بد أن يكون سقراط (الذي تشمله الإنسانية كلها) حاضراً في الاسكندر. ويخيل إلينا أن ما كان يقصده وليم هو أن جميع العناصر الجوهرية التي في الإنسانية حاضرة في كل كائن بشري. على أننا لم تصل إلينا حجج وليم في هذا النقاش؛ ومهما كانت هذه الحجج فأن أبلار لم يأخذ بشيء منها. فقد عارض واقعية وليم روسلان بالفلسفة التي سميت فيما بعد بالفلسفة الإدراكية.
وهي تقول أن الصنف (الإنسان والحجر) ليس له وجود جسمي الا في أفراده التي يتكون منها (الرجال، والحجارة)؛ وأن الصفات (كالبياض، والطيبة، والحقيقة) لا وجود لها إلا في الأجسام، أو الأفعال، أو الأفكار التي تصفها. ولكن الصنف والصفة ليسا مجرد اسمين، بل هما مدركان تكونهما عقولنا من العناصر أو المظاهر التي نلاحظ وجودها مشتركة بين طائفة من الأفراد، أو الأجسام، أو الآراء. وهذه العناصر المشتركة حقيقة، وأن لم تظهر إلا في الصور الفردية. وليست المدركات التي نفكر بها في هذه العناصر المشتركة -الأفكار الجنسية أو الكلية التي نفكر بها في الأصناف المكونة من أجسام متماثلة- ليست هذه المدركات (رياح الصوت)، بل هي اكثر أدوات التفكير نفعاً وأكثرها ضرورة، وبغيرها لا يمكن أن يكون للعلم ولا للفلسفة وجود. ويقولون أن أبلار بقي مع وليم (بعض الوقت). ثم شرع هو نفسه يدرس في ميلون أولاً ثم في كوربي بعدئذ، وتبعد أولى البلدتين أربعين ميلاً عن باريس أما الثانية فتبعد عنها خمسة وعشرين. وقد اخذ عليه بعضهم أنه أنشأ حانوته بعد تدريب جد قصير ؛ ولكن عدداً كبيراً من الطلاب هرع إليه ، لإعجابهم بسرعة بديهيته وزلقة لسانه.
وكان وليم في هذه الأثناء قد اصبح راهباً في دير القديس فكتور حيث طلب إليه أن يستمر في إلقاء محاضراته ؛ وعاد إليه أبلار تلميذاً بعد مرض شديد. ويبدو أنه كان على عظام فلسفة وليم لحم اكثر مما توحي به القراءة العاجلة لسيرة أبلار الموجزة التي كتبها بنفسه، ولكن سرعان ما تجددت مناقشاتهم القديمة، وأرغم أبلار (كما يقول أبلار نفسه) وليم على أن يعدل فلسفته الواقعية ، وبدأت مكانة وليم في الهبوط.
وعرض الأستاذ الذي خلفه والذي عينه بنفسه في نتردام أن يخلي مكانة لأبلار 1109 ، ولكن وليم لم يوافق على هذا العرض. وواصل أبلار محاضراته في ميلون ، ثم فوق جبل سانت جنييف المجاور لباريس. ونشبت بينه وبين وليم ، وببين طلابهما ، حرب كلامية دامت عدة سنين ، واصبح أبلار زعيم المحدثين أي الشبان المتمردين المتحمسين أصحاب المدرسة الحديثة.
الفيلسوف أبلار
بينما هو يخوض غمار هذه الحرب ترهب والداه، ولعلهما فعلا ذلك استعداداً للموت، واضطر أبلار أن يعود إلى له باليه ليكون في وداعهما، وربما كان من أسباب عودته تسوية بعض المشاكل الخاصة بأملاك الأسرة.
ثم رجع أبلار الى باريس في عام 1115 ، بعد أن قضى بعض الوقت يدرس علوم الدين في لاءون ، وأقام مدرسته ، أو بدأ منهج محاضراته، في قاعات نتردام التي كان يجلس فيها وهو طالب قبل ذلك الوقت باثنتي عشرة سنة أو نحوها. ويبدو أنه لم يلق في ذلك معرضة ما. وكان وقتئذ من موظفي الكتدرائية وأن لم يصبح من قساوستها.
وكان بمقدوره أن يتطلع إلى الكهنوتية العليا اذا لزم الصمت؛ ولكن هذا الشرط كان ثقيلاً عليه، لأنه درس الأدب كما درس الفلسفة، وكان أستاذاً في عرض الآراء عرضاً واضحاً لطيفا؛ وكان كغيره من الفرنسيين يرى أن الوضوح في التعبير واجب تحتمه المبادئ الخلقية، ولم يكن يخشى أن يخفف من عبء حديثه بقليل من الفكاهة. واقبل الطلاب من كثير من البلاد ليستمعوا إليه، وكانت الفصول التي يدرس لها كبيرة كبراً أغناه بالمال وأذاع شهرته بين الأمم ، تشهد بذلك رسالة بعث بها إليه فولك رئيس أحد الأديرة يقول فيها: بعثت إليك روما أبناءها تعلمهم. ولم تمنع المسافة الشاسعة، أو الجبال أو الوديان أو الطرق الموبوءة باللصوص، الشبان من الإقبال عليك.
وازدحمت فصولك بالشبان الإنجليز الذين عبروا البحر المفحم بالأخطار، واقبل عليك التلاميذ من جميع أنحاء أسبانيا وفلاندرز وألمانيا ، ولم يملّو من الثناء على قوة عقلك. ولست اذكر شيئاً عن سكان باريس، وأقاصي فرنسا التي كانت هي الأخرى ظمأى لتعليمك، كأنه لا يوجد علم من العلوم لا يستطاع أخذه عنك. وما دام قد بلغ هذه الذروة من المجد والنجاح وبعد الصيت، فلم لا يرقى الى كرس الأسقفية (كما ارتقى إليه وليم)، ثم إلى كرس رئيس الأساقفة، ولم لا يرقى إلى كرسي البابوية.
أبلار والفلسفة الإدراكية
ألقي أبلار عصا التسيار في مدرسة وليم بعد المثير من التجوال العلمي 1103 ، وكان وقتئذ في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من عمره.
وكان وسيم الخلق حسن القوام ، بهي الطلعة. ذا جبهة عريضة تبعث في النفس الروعة؛ وكانت روحه المرحة تكسب طباعة وحديثة فتنة وحيوية. وكان يستطيع تأليف الأغاني وإنشادها، وكانت فكاهته القوية تزلزل الضعاف في قاعات الجدل. وكان شاباً مرحاً طروباً، عرف في الوقت نفسه باريس والفلسفة.
وكانت عيوبه هي العيوب التي تستلزمها صفاته: فقد كان مغروراً، مزهواً بنفسه، وقحاً، منطوياً على نفسه، دفعه ابتهاجه بمواهبه التي كان يعرفها حق المعرفة إلى أن يطرح بتهور الشباب العقائد التعسفية والعواطف الرقيقة التي كانت سائدة في عصره وبين أساتذته، وقد أسكرته بهجة الفلسفة المحببة إليه؛ فهذا العاشق الذائع الصيت يحب الجدل اكثر مما يحب إلواز.
وقد سخر من واقعية أستاذه المسرفة ، وتحداه علناً أمام فرقته: يا عجباً الإنسانية كلها حاضرة في سقراط؟ إذن فحين تكون الإنسانية كلها حاضرة في الاسكندر لا بد أن يكون سقراط (الذي تشمله الإنسانية كلها) حاضراً في الاسكندر. ويخيل إلينا أن ما كان يقصده وليم هو أن جميع العناصر الجوهرية التي في الإنسانية حاضرة في كل كائن بشري. على أننا لم تصل إلينا حجج وليم في هذا النقاش؛ ومهما كانت هذه الحجج فأن أبلار لم يأخذ بشيء منها. فقد عارض واقعية وليم روسلان بالفلسفة التي سميت فيما بعد بالفلسفة الإدراكية.
وهي تقول أن الصنف (الإنسان والحجر) ليس له وجود جسمي الا في أفراده التي يتكون منها (الرجال، والحجارة)؛ وأن الصفات (كالبياض، والطيبة، والحقيقة) لا وجود لها إلا في الأجسام، أو الأفعال، أو الأفكار التي تصفها. ولكن الصنف والصفة ليسا مجرد اسمين، بل هما مدركان تكونهما عقولنا من العناصر أو المظاهر التي نلاحظ وجودها مشتركة بين طائفة من الأفراد، أو الأجسام، أو الآراء. وهذه العناصر المشتركة حقيقة، وأن لم تظهر إلا في الصور الفردية. وليست المدركات التي نفكر بها في هذه العناصر المشتركة -الأفكار الجنسية أو الكلية التي نفكر بها في الأصناف المكونة من أجسام متماثلة- ليست هذه المدركات (رياح الصوت)، بل هي اكثر أدوات التفكير نفعاً وأكثرها ضرورة، وبغيرها لا يمكن أن يكون للعلم ولا للفلسفة وجود. ويقولون أن أبلار بقي مع وليم (بعض الوقت). ثم شرع هو نفسه يدرس في ميلون أولاً ثم في كوربي بعدئذ، وتبعد أولى البلدتين أربعين ميلاً عن باريس أما الثانية فتبعد عنها خمسة وعشرين. وقد اخذ عليه بعضهم أنه أنشأ حانوته بعد تدريب جد قصير ؛ ولكن عدداً كبيراً من الطلاب هرع إليه ، لإعجابهم بسرعة بديهيته وزلقة لسانه.
وكان وليم في هذه الأثناء قد اصبح راهباً في دير القديس فكتور حيث طلب إليه أن يستمر في إلقاء محاضراته ؛ وعاد إليه أبلار تلميذاً بعد مرض شديد. ويبدو أنه كان على عظام فلسفة وليم لحم اكثر مما توحي به القراءة العاجلة لسيرة أبلار الموجزة التي كتبها بنفسه، ولكن سرعان ما تجددت مناقشاتهم القديمة، وأرغم أبلار (كما يقول أبلار نفسه) وليم على أن يعدل فلسفته الواقعية ، وبدأت مكانة وليم في الهبوط.
وعرض الأستاذ الذي خلفه والذي عينه بنفسه في نتردام أن يخلي مكانة لأبلار 1109 ، ولكن وليم لم يوافق على هذا العرض. وواصل أبلار محاضراته في ميلون ، ثم فوق جبل سانت جنييف المجاور لباريس. ونشبت بينه وبين وليم ، وببين طلابهما ، حرب كلامية دامت عدة سنين ، واصبح أبلار زعيم المحدثين أي الشبان المتمردين المتحمسين أصحاب المدرسة الحديثة.
الفيلسوف أبلار
بينما هو يخوض غمار هذه الحرب ترهب والداه، ولعلهما فعلا ذلك استعداداً للموت، واضطر أبلار أن يعود إلى له باليه ليكون في وداعهما، وربما كان من أسباب عودته تسوية بعض المشاكل الخاصة بأملاك الأسرة.
ثم رجع أبلار الى باريس في عام 1115 ، بعد أن قضى بعض الوقت يدرس علوم الدين في لاءون ، وأقام مدرسته ، أو بدأ منهج محاضراته، في قاعات نتردام التي كان يجلس فيها وهو طالب قبل ذلك الوقت باثنتي عشرة سنة أو نحوها. ويبدو أنه لم يلق في ذلك معرضة ما. وكان وقتئذ من موظفي الكتدرائية وأن لم يصبح من قساوستها.
وكان بمقدوره أن يتطلع إلى الكهنوتية العليا اذا لزم الصمت؛ ولكن هذا الشرط كان ثقيلاً عليه، لأنه درس الأدب كما درس الفلسفة، وكان أستاذاً في عرض الآراء عرضاً واضحاً لطيفا؛ وكان كغيره من الفرنسيين يرى أن الوضوح في التعبير واجب تحتمه المبادئ الخلقية، ولم يكن يخشى أن يخفف من عبء حديثه بقليل من الفكاهة. واقبل الطلاب من كثير من البلاد ليستمعوا إليه، وكانت الفصول التي يدرس لها كبيرة كبراً أغناه بالمال وأذاع شهرته بين الأمم ، تشهد بذلك رسالة بعث بها إليه فولك رئيس أحد الأديرة يقول فيها: بعثت إليك روما أبناءها تعلمهم. ولم تمنع المسافة الشاسعة، أو الجبال أو الوديان أو الطرق الموبوءة باللصوص، الشبان من الإقبال عليك.
وازدحمت فصولك بالشبان الإنجليز الذين عبروا البحر المفحم بالأخطار، واقبل عليك التلاميذ من جميع أنحاء أسبانيا وفلاندرز وألمانيا ، ولم يملّو من الثناء على قوة عقلك. ولست اذكر شيئاً عن سكان باريس، وأقاصي فرنسا التي كانت هي الأخرى ظمأى لتعليمك، كأنه لا يوجد علم من العلوم لا يستطاع أخذه عنك. وما دام قد بلغ هذه الذروة من المجد والنجاح وبعد الصيت، فلم لا يرقى الى كرس الأسقفية (كما ارتقى إليه وليم)، ثم إلى كرس رئيس الأساقفة، ولم لا يرقى إلى كرسي البابوية.
إلواز
اللقاء
يؤكد أبلار أنه ظل حتى وقت متأخر (مستعففاً إلى أقصى حدود الاستعفاف)، وأنه كان (حريصاً على الامتناع عن جميع ضروب الإفراط). ولكن إلواز ابنة أخي فلبير قس الكتدرائية كان لها من جمال الخلق والهيام بالعلم ما اثر كل ما كان كامنا في أبلار من حساسية مرهفة برجولته وإعجاب بعقليته. وفي خلال تلك السنين المحمومة التي كانت الحرب ناشبة فيها بين أبلار ووليم عن الكلى وغير الكلى شبت إلواز من الطفولة إلى الأنوثة المكتملة ، يتيمة لم يبقى لأبويها اثر. وبعث بها عمها إلى دير في أرجنتي لتقضي فيه عدداً كبيراً من السنين ، فلما ذهب إليه هامت بما في مكتبته الصغيرة من الكتب هياما أصبحت معه أنبه راهبة في الدير. ولما عرف فلبير إنها تستطيع لتحدث باللاتينية بنفس الطلاقة التي تتكلم فيها الفرنسية ، وأنها لم تكتف بهذا بل أخذت تتعلم العبرية ، ولما عرف هذا اعجب بها ، وجاء لتعيش معه في بيته القريب من الكتدرائية. وكانت في سن السادسة عشر حين اتصلت حياتها بحياة أبلار 1117 ؛ وفي ظنها أنها سمعت به قبل ذلك الوقت بوقت طويل ، وما من اشك أنها كانت قد أبصرت مئات الطلاب تغض بهم الأبهاء وقاعات المحاضرات ، وقد جاءوا ليستمعوا اليه؛ ولعلها هي ذات الحماسة الذهنية القوية قد ذهبت خفية أو علناً لترى وتسمع معبود علماء باريس ومثلهم الأعلى. وفي وسعنا أن نتصور حياءها وارتياعها حين اخبرها فلبير أن أبلار سيسكن معهما ويصبح معلمها الخاص.
بدأ الحب
هاهو ذا الفيلسوف نفسه يفسر لنا أصرح تفسير كيف حدث هذا: (وكانت هذه الفتاة الصغيرة هي التي... اعتزمت أن ارتبط بها برباط الحب. والحق أن هذا العمل من أسهل الأمور. فها هو ذا أسمى على كل لسأن، ولى من مزايا الشباب والجمال ما لا أخشى معه أن ترفضني امرأة ، أيا كان شأنها، أتعطف عليها بحبي... وهكذا شرعت، وقلبي ملتهب بحب هذه الفتاة، ابحث عن الوسائل التي تمكنني من أن أتحدث إليها في كل يوم حديث المودة الخالية من الكلفة، حتى يسهل علي بذلك أن أحظى بموافقتها. ومن اجل هذا أقنعت عم الفتاة... أن يأويني في بيته... نظير اجر قليل أؤديه له... وكان هو رجلاً بخيلاً حريصاً على المال و... اعتقد أن ابنه أخيه ستفيد كثيراً من تعليمي ... ولقد ذهلت من سذاجة الرجل ، ولو أنه عهد بحمل وديع إلى عناية ذئب مفترس لما كنت اشد من ذلك دهشة وذهولاً... (ولم أطيل القول؟ واجتمعنا أولاً في المسكن الذي أظل حبنا، ثم في القلبين اللذين كانا يحترقان من جنبينا.
وقضينا الساعات الطوال ننعم بسعادة الحب متسترين بستار الدرس ... وكانت قبلاتنا يزيد عديدها على كلماتنا المنطقية ، وكانت أيدينا اقل بحثاً عن الكتاب منها عن صدرينا ، وكان الحب يجذب عيني كل منا إلى الآخر. وهكذا أحالت رقة إلواز العاطفة التي بدأت رغبة جسمية بسيطة. وكانت هذه تجربة جديدة في حياته لهته عن الفلسفة ، فقد استعار من محاضراته وجداً وهياما لحبه ، فأضحت هذه المحاضرات مملة على خلاف عاداتها. وأسف طلابه لما أصاب الجدلي المنطيق ، ولكنهم رحبوا بالعاشق ، وسرهم أن يعرفوا سقراط نفسه يمكن أن يأثم ، وعزوا أنفسهم فقدوه من الحجج الدامغة بترديد أغاني الحب التي بدأ يؤلفها ؛ وكانت إلواز تسمع من نافذة بيتها أغاني افتتانه بها تتردد أصداؤها الصاخبة على ألسنة تلاميذه. ولم يمض إلا القليل من الوقت حتى أبلغته أنها حامل ، فما كان منه إلا أن اختطفها من بيت عمها وأرسلها إلى بيت أخته في بريطانيا.
هو فيلسوف فرنسي شهير وله الفضل في إنشاء جامعة باريس،
ويعتبر شعلة ألهبت عقل أوربا اللاتينية في القرن الثاني عشر ، ويعتبر ممثلا لأخلاق عصره وآدابه ، وأرقى واعظم ما يخلب اللب ويبهر العقل في ذلك العصر. وتعتبر علاقته العاطفية بتلميذته إلواز مضرباً للأمثال.
وُلد أبيلارد قرب نانت بفرنسا. رسم له أبوه، الذي كان من طبقة النبلاء، طريقًا عسكريًا، لكن أبيلارد قرر أن يكون عالمًا. قام بتدريس اللاهوت بباريس في الفترة 1113ـ 1118م. وأسس مع اثنين من زملائه مدرسة تطورت تدريجيًا حتى أصبحت، فيما بعد، جامعة باريس.
أصبح أبيلارد أستاذًا لإلواز عام 1113م، وهي حفيدة أحد مسؤولي كاتدرائية نوتردام، ونشأت قصة حب بين أبلار والفتاة، وحملت منه. وفي أعقاب مولد طفلهما، عام 1118م، عقدت إلواز وأبلار قرانهما سرًا. علم فولبير، عمّ إلواز، بخبر حبهما وزواجهما السرِّي، فاستشاط غضبًا. واستأجر في لحظة غضبه تلك مجموعة رجال هاجموا منزل أبيلارد وخصوه. وانفصل أبيلارد وإلواز بعد الحادثة مباشرة. أصبح أبلار راهبًا، والتحقت إلواز بدير للراهبات. وقد ذاعت أسرار حبهما المأساوي من رسائلهما العديدة التي تبادلاها.

ابلارد والواز
كان لأبلار إسهامًا كبيرًا في فكر العصور الوسطى الأوروبية، في مجالي المنطق واللاهوت. وقد حث على استعمال المنطق من أجل استيعاب النصرانية والدفاع عنها. ألَّف أبلار كتابًا يدعى "نعم ولا" قوامه الآراء المتضاربة للسلطات اللاهوتية في مختلف المسائل والمبادئ الدينية. أصبح هذا الكتاب أحد الكتب التي أثرت في النظام الفلسفي الأوروبي للعصور الوسطى الأوروبية المسمّى المدرسية. كذلك كتب أبلار مؤلفًا بالغ الأهمية في الأخلاق، كما نشر سيرته الذاتية، في كتاب سمّاه قصة بؤسي.
النشأة
ولد أبلار في قرية له باليه القريبة من نانت إحدى مدن بريطانيا. وكان أبوه المعروف لنا بإسم بيرنجر ، صاحب ضيعة متواضعة، وكان بمقدوره أن يهيئ لأولاده الثلاثة ولابنته تعليماً حراً. وكان بيير (ولسنا نعرف اصل لقبه أبلار) أكبر أولئك الأبناء، وكان بمقدوره أن يطالب بحق الابن الأكبر في ميراث ابيه ؛ ولكنه كان مولعاً بالدرس والتفكير الى حد جعله بعد أن كبر ينزل لأخويه عن حقه ، وعن نصيبه في أملاك الأسرة، وشرع يطلب الفلسفة، ويلقى بنفسه في معركتها أينما حمى وطيسها ، أو أينما وجد معلماً ذائع الصيت يدرسها.
أبلار وروسلان
كان اعظم ما اثر في حياته المستقبلية أن كان من أول أساتذته روسلان( 1050- 1120) ، وهو رجل متمرد أنصب عليه كما أنصب على أبلار من بعده سخط الكنيسة وحرمانه من الدين.
وكان المنشأ الذي أثاره روسلان مسألة من مسائل المنطق الجاف الموغل في الجاف ، والتي تبدوا ابعد المسائل كلها عن الأذى ، وهي الوجود الموضوعي (للكليات).
وكان (الكلي) في الفلسفة اليونانية وفلسفة العصور الوسطى هو الفكرة العامة التي تدل على صنف من الأشياء (كالكتاب، والحجر، والكوكب، والرجل، والنوع الإنساني، والشعب الفرنسي، والكنيسة الكاثوليكية)؛ أو الأعمال (كالقسوة ، والعدالة)؛ أو الصفات (كالجمال، والصدق).
وكان أفلاطون ، وهو العليم بسرعة زوال الكائنات والأشياء الفردية، قد قال بأن الكلي اكثر بقاء، وأنه لذلك اكثر حقيقة، من أي فرد من الصنف الذي يصفه: فالجمال اكثر حقيقة من فريني ، والعدالة اكثر حقيقة من أرستيديز والرجل اكثر حقيقة من سقراط ؛ وهذا هو الذي كانت العصور الوسطى تعبر عنه (بالواقعية).
وخالف أرسطو هذا الرأي وقال أن (الكلي) ليس إلا فكرة يكونها العقل لتمثل صنفاً من الأشياء المتماثلة؛ فهو يرى أن الصنف نفسه لا يرى إلا فيصوره أعضائه التي يتركب هو منها. والناس في وقتنا هذا يتجادلون: هل يوجد (عقل جماعة) منفصلاً عن رغبات الأفراد الذين تتكون منهم هذه الجماعة وأفكارهم ومشاعرهم؟ فأما هيوم فقد قال أن (العقل) الفردي نفسه ليس إلا اسماً مجرداً من سلسلة الأحاسيس والأفكار، والإرادات التي في كائن حي ولمجموعها.
ولم يكن اليونان يهتمون اهتماما كبيراً بهذه المسألة، واكتفى فيلسوف من آخر الفلاسفة الوثنيين -هو برفيري ( 232- 304) الذي أقام في الشام وفي روما - بصياغتها دون أن يعرف حلاً لها. لكن العصور الوسطى كانت تراها مأساة حيوية.
أبلار والفلسفة الإدراكية
ألقي أبلار عصا التسيار في مدرسة وليم بعد المثير من التجوال العلمي 1103 ، وكان وقتئذ في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من عمره.
وكان وسيم الخلق حسن القوام ، بهي الطلعة. ذا جبهة عريضة تبعث في النفس الروعة؛ وكانت روحه المرحة تكسب طباعة وحديثة فتنة وحيوية. وكان يستطيع تأليف الأغاني وإنشادها، وكانت فكاهته القوية تزلزل الضعاف في قاعات الجدل. وكان شاباً مرحاً طروباً، عرف في الوقت نفسه باريس والفلسفة.
وكانت عيوبه هي العيوب التي تستلزمها صفاته: فقد كان مغروراً، مزهواً بنفسه، وقحاً، منطوياً على نفسه، دفعه ابتهاجه بمواهبه التي كان يعرفها حق المعرفة إلى أن يطرح بتهور الشباب العقائد التعسفية والعواطف الرقيقة التي كانت سائدة في عصره وبين أساتذته، وقد أسكرته بهجة الفلسفة المحببة إليه؛ فهذا العاشق الذائع الصيت يحب الجدل اكثر مما يحب إلواز.
وقد سخر من واقعية أستاذه المسرفة ، وتحداه علناً أمام فرقته: يا عجباً الإنسانية كلها حاضرة في سقراط؟ إذن فحين تكون الإنسانية كلها حاضرة في الاسكندر لا بد أن يكون سقراط (الذي تشمله الإنسانية كلها) حاضراً في الاسكندر. ويخيل إلينا أن ما كان يقصده وليم هو أن جميع العناصر الجوهرية التي في الإنسانية حاضرة في كل كائن بشري. على أننا لم تصل إلينا حجج وليم في هذا النقاش؛ ومهما كانت هذه الحجج فأن أبلار لم يأخذ بشيء منها. فقد عارض واقعية وليم روسلان بالفلسفة التي سميت فيما بعد بالفلسفة الإدراكية.
وهي تقول أن الصنف (الإنسان والحجر) ليس له وجود جسمي الا في أفراده التي يتكون منها (الرجال، والحجارة)؛ وأن الصفات (كالبياض، والطيبة، والحقيقة) لا وجود لها إلا في الأجسام، أو الأفعال، أو الأفكار التي تصفها. ولكن الصنف والصفة ليسا مجرد اسمين، بل هما مدركان تكونهما عقولنا من العناصر أو المظاهر التي نلاحظ وجودها مشتركة بين طائفة من الأفراد، أو الأجسام، أو الآراء. وهذه العناصر المشتركة حقيقة، وأن لم تظهر إلا في الصور الفردية. وليست المدركات التي نفكر بها في هذه العناصر المشتركة -الأفكار الجنسية أو الكلية التي نفكر بها في الأصناف المكونة من أجسام متماثلة- ليست هذه المدركات (رياح الصوت)، بل هي اكثر أدوات التفكير نفعاً وأكثرها ضرورة، وبغيرها لا يمكن أن يكون للعلم ولا للفلسفة وجود. ويقولون أن أبلار بقي مع وليم (بعض الوقت). ثم شرع هو نفسه يدرس في ميلون أولاً ثم في كوربي بعدئذ، وتبعد أولى البلدتين أربعين ميلاً عن باريس أما الثانية فتبعد عنها خمسة وعشرين. وقد اخذ عليه بعضهم أنه أنشأ حانوته بعد تدريب جد قصير ؛ ولكن عدداً كبيراً من الطلاب هرع إليه ، لإعجابهم بسرعة بديهيته وزلقة لسانه.
وكان وليم في هذه الأثناء قد اصبح راهباً في دير القديس فكتور حيث طلب إليه أن يستمر في إلقاء محاضراته ؛ وعاد إليه أبلار تلميذاً بعد مرض شديد. ويبدو أنه كان على عظام فلسفة وليم لحم اكثر مما توحي به القراءة العاجلة لسيرة أبلار الموجزة التي كتبها بنفسه، ولكن سرعان ما تجددت مناقشاتهم القديمة، وأرغم أبلار (كما يقول أبلار نفسه) وليم على أن يعدل فلسفته الواقعية ، وبدأت مكانة وليم في الهبوط.
وعرض الأستاذ الذي خلفه والذي عينه بنفسه في نتردام أن يخلي مكانة لأبلار 1109 ، ولكن وليم لم يوافق على هذا العرض. وواصل أبلار محاضراته في ميلون ، ثم فوق جبل سانت جنييف المجاور لباريس. ونشبت بينه وبين وليم ، وببين طلابهما ، حرب كلامية دامت عدة سنين ، واصبح أبلار زعيم المحدثين أي الشبان المتمردين المتحمسين أصحاب المدرسة الحديثة.
الفيلسوف أبلار
بينما هو يخوض غمار هذه الحرب ترهب والداه، ولعلهما فعلا ذلك استعداداً للموت، واضطر أبلار أن يعود إلى له باليه ليكون في وداعهما، وربما كان من أسباب عودته تسوية بعض المشاكل الخاصة بأملاك الأسرة.
ثم رجع أبلار الى باريس في عام 1115 ، بعد أن قضى بعض الوقت يدرس علوم الدين في لاءون ، وأقام مدرسته ، أو بدأ منهج محاضراته، في قاعات نتردام التي كان يجلس فيها وهو طالب قبل ذلك الوقت باثنتي عشرة سنة أو نحوها. ويبدو أنه لم يلق في ذلك معرضة ما. وكان وقتئذ من موظفي الكتدرائية وأن لم يصبح من قساوستها.
وكان بمقدوره أن يتطلع إلى الكهنوتية العليا اذا لزم الصمت؛ ولكن هذا الشرط كان ثقيلاً عليه، لأنه درس الأدب كما درس الفلسفة، وكان أستاذاً في عرض الآراء عرضاً واضحاً لطيفا؛ وكان كغيره من الفرنسيين يرى أن الوضوح في التعبير واجب تحتمه المبادئ الخلقية، ولم يكن يخشى أن يخفف من عبء حديثه بقليل من الفكاهة. واقبل الطلاب من كثير من البلاد ليستمعوا إليه، وكانت الفصول التي يدرس لها كبيرة كبراً أغناه بالمال وأذاع شهرته بين الأمم ، تشهد بذلك رسالة بعث بها إليه فولك رئيس أحد الأديرة يقول فيها: بعثت إليك روما أبناءها تعلمهم. ولم تمنع المسافة الشاسعة، أو الجبال أو الوديان أو الطرق الموبوءة باللصوص، الشبان من الإقبال عليك.
وازدحمت فصولك بالشبان الإنجليز الذين عبروا البحر المفحم بالأخطار، واقبل عليك التلاميذ من جميع أنحاء أسبانيا وفلاندرز وألمانيا ، ولم يملّو من الثناء على قوة عقلك. ولست اذكر شيئاً عن سكان باريس، وأقاصي فرنسا التي كانت هي الأخرى ظمأى لتعليمك، كأنه لا يوجد علم من العلوم لا يستطاع أخذه عنك. وما دام قد بلغ هذه الذروة من المجد والنجاح وبعد الصيت، فلم لا يرقى الى كرس الأسقفية (كما ارتقى إليه وليم)، ثم إلى كرس رئيس الأساقفة، ولم لا يرقى إلى كرسي البابوية.
أبلار والفلسفة الإدراكية
ألقي أبلار عصا التسيار في مدرسة وليم بعد المثير من التجوال العلمي 1103 ، وكان وقتئذ في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من عمره.
وكان وسيم الخلق حسن القوام ، بهي الطلعة. ذا جبهة عريضة تبعث في النفس الروعة؛ وكانت روحه المرحة تكسب طباعة وحديثة فتنة وحيوية. وكان يستطيع تأليف الأغاني وإنشادها، وكانت فكاهته القوية تزلزل الضعاف في قاعات الجدل. وكان شاباً مرحاً طروباً، عرف في الوقت نفسه باريس والفلسفة.
وكانت عيوبه هي العيوب التي تستلزمها صفاته: فقد كان مغروراً، مزهواً بنفسه، وقحاً، منطوياً على نفسه، دفعه ابتهاجه بمواهبه التي كان يعرفها حق المعرفة إلى أن يطرح بتهور الشباب العقائد التعسفية والعواطف الرقيقة التي كانت سائدة في عصره وبين أساتذته، وقد أسكرته بهجة الفلسفة المحببة إليه؛ فهذا العاشق الذائع الصيت يحب الجدل اكثر مما يحب إلواز.
وقد سخر من واقعية أستاذه المسرفة ، وتحداه علناً أمام فرقته: يا عجباً الإنسانية كلها حاضرة في سقراط؟ إذن فحين تكون الإنسانية كلها حاضرة في الاسكندر لا بد أن يكون سقراط (الذي تشمله الإنسانية كلها) حاضراً في الاسكندر. ويخيل إلينا أن ما كان يقصده وليم هو أن جميع العناصر الجوهرية التي في الإنسانية حاضرة في كل كائن بشري. على أننا لم تصل إلينا حجج وليم في هذا النقاش؛ ومهما كانت هذه الحجج فأن أبلار لم يأخذ بشيء منها. فقد عارض واقعية وليم روسلان بالفلسفة التي سميت فيما بعد بالفلسفة الإدراكية.
وهي تقول أن الصنف (الإنسان والحجر) ليس له وجود جسمي الا في أفراده التي يتكون منها (الرجال، والحجارة)؛ وأن الصفات (كالبياض، والطيبة، والحقيقة) لا وجود لها إلا في الأجسام، أو الأفعال، أو الأفكار التي تصفها. ولكن الصنف والصفة ليسا مجرد اسمين، بل هما مدركان تكونهما عقولنا من العناصر أو المظاهر التي نلاحظ وجودها مشتركة بين طائفة من الأفراد، أو الأجسام، أو الآراء. وهذه العناصر المشتركة حقيقة، وأن لم تظهر إلا في الصور الفردية. وليست المدركات التي نفكر بها في هذه العناصر المشتركة -الأفكار الجنسية أو الكلية التي نفكر بها في الأصناف المكونة من أجسام متماثلة- ليست هذه المدركات (رياح الصوت)، بل هي اكثر أدوات التفكير نفعاً وأكثرها ضرورة، وبغيرها لا يمكن أن يكون للعلم ولا للفلسفة وجود. ويقولون أن أبلار بقي مع وليم (بعض الوقت). ثم شرع هو نفسه يدرس في ميلون أولاً ثم في كوربي بعدئذ، وتبعد أولى البلدتين أربعين ميلاً عن باريس أما الثانية فتبعد عنها خمسة وعشرين. وقد اخذ عليه بعضهم أنه أنشأ حانوته بعد تدريب جد قصير ؛ ولكن عدداً كبيراً من الطلاب هرع إليه ، لإعجابهم بسرعة بديهيته وزلقة لسانه.
وكان وليم في هذه الأثناء قد اصبح راهباً في دير القديس فكتور حيث طلب إليه أن يستمر في إلقاء محاضراته ؛ وعاد إليه أبلار تلميذاً بعد مرض شديد. ويبدو أنه كان على عظام فلسفة وليم لحم اكثر مما توحي به القراءة العاجلة لسيرة أبلار الموجزة التي كتبها بنفسه، ولكن سرعان ما تجددت مناقشاتهم القديمة، وأرغم أبلار (كما يقول أبلار نفسه) وليم على أن يعدل فلسفته الواقعية ، وبدأت مكانة وليم في الهبوط.
وعرض الأستاذ الذي خلفه والذي عينه بنفسه في نتردام أن يخلي مكانة لأبلار 1109 ، ولكن وليم لم يوافق على هذا العرض. وواصل أبلار محاضراته في ميلون ، ثم فوق جبل سانت جنييف المجاور لباريس. ونشبت بينه وبين وليم ، وببين طلابهما ، حرب كلامية دامت عدة سنين ، واصبح أبلار زعيم المحدثين أي الشبان المتمردين المتحمسين أصحاب المدرسة الحديثة.
الفيلسوف أبلار
بينما هو يخوض غمار هذه الحرب ترهب والداه، ولعلهما فعلا ذلك استعداداً للموت، واضطر أبلار أن يعود إلى له باليه ليكون في وداعهما، وربما كان من أسباب عودته تسوية بعض المشاكل الخاصة بأملاك الأسرة.
ثم رجع أبلار الى باريس في عام 1115 ، بعد أن قضى بعض الوقت يدرس علوم الدين في لاءون ، وأقام مدرسته ، أو بدأ منهج محاضراته، في قاعات نتردام التي كان يجلس فيها وهو طالب قبل ذلك الوقت باثنتي عشرة سنة أو نحوها. ويبدو أنه لم يلق في ذلك معرضة ما. وكان وقتئذ من موظفي الكتدرائية وأن لم يصبح من قساوستها.
وكان بمقدوره أن يتطلع إلى الكهنوتية العليا اذا لزم الصمت؛ ولكن هذا الشرط كان ثقيلاً عليه، لأنه درس الأدب كما درس الفلسفة، وكان أستاذاً في عرض الآراء عرضاً واضحاً لطيفا؛ وكان كغيره من الفرنسيين يرى أن الوضوح في التعبير واجب تحتمه المبادئ الخلقية، ولم يكن يخشى أن يخفف من عبء حديثه بقليل من الفكاهة. واقبل الطلاب من كثير من البلاد ليستمعوا إليه، وكانت الفصول التي يدرس لها كبيرة كبراً أغناه بالمال وأذاع شهرته بين الأمم ، تشهد بذلك رسالة بعث بها إليه فولك رئيس أحد الأديرة يقول فيها: بعثت إليك روما أبناءها تعلمهم. ولم تمنع المسافة الشاسعة، أو الجبال أو الوديان أو الطرق الموبوءة باللصوص، الشبان من الإقبال عليك.
وازدحمت فصولك بالشبان الإنجليز الذين عبروا البحر المفحم بالأخطار، واقبل عليك التلاميذ من جميع أنحاء أسبانيا وفلاندرز وألمانيا ، ولم يملّو من الثناء على قوة عقلك. ولست اذكر شيئاً عن سكان باريس، وأقاصي فرنسا التي كانت هي الأخرى ظمأى لتعليمك، كأنه لا يوجد علم من العلوم لا يستطاع أخذه عنك. وما دام قد بلغ هذه الذروة من المجد والنجاح وبعد الصيت، فلم لا يرقى الى كرس الأسقفية (كما ارتقى إليه وليم)، ثم إلى كرس رئيس الأساقفة، ولم لا يرقى إلى كرسي البابوية.
إلواز

اللقاء
يؤكد أبلار أنه ظل حتى وقت متأخر (مستعففاً إلى أقصى حدود الاستعفاف)، وأنه كان (حريصاً على الامتناع عن جميع ضروب الإفراط). ولكن إلواز ابنة أخي فلبير قس الكتدرائية كان لها من جمال الخلق والهيام بالعلم ما اثر كل ما كان كامنا في أبلار من حساسية مرهفة برجولته وإعجاب بعقليته. وفي خلال تلك السنين المحمومة التي كانت الحرب ناشبة فيها بين أبلار ووليم عن الكلى وغير الكلى شبت إلواز من الطفولة إلى الأنوثة المكتملة ، يتيمة لم يبقى لأبويها اثر. وبعث بها عمها إلى دير في أرجنتي لتقضي فيه عدداً كبيراً من السنين ، فلما ذهب إليه هامت بما في مكتبته الصغيرة من الكتب هياما أصبحت معه أنبه راهبة في الدير. ولما عرف فلبير إنها تستطيع لتحدث باللاتينية بنفس الطلاقة التي تتكلم فيها الفرنسية ، وأنها لم تكتف بهذا بل أخذت تتعلم العبرية ، ولما عرف هذا اعجب بها ، وجاء لتعيش معه في بيته القريب من الكتدرائية. وكانت في سن السادسة عشر حين اتصلت حياتها بحياة أبلار 1117 ؛ وفي ظنها أنها سمعت به قبل ذلك الوقت بوقت طويل ، وما من اشك أنها كانت قد أبصرت مئات الطلاب تغض بهم الأبهاء وقاعات المحاضرات ، وقد جاءوا ليستمعوا اليه؛ ولعلها هي ذات الحماسة الذهنية القوية قد ذهبت خفية أو علناً لترى وتسمع معبود علماء باريس ومثلهم الأعلى. وفي وسعنا أن نتصور حياءها وارتياعها حين اخبرها فلبير أن أبلار سيسكن معهما ويصبح معلمها الخاص.
بدأ الحب
هاهو ذا الفيلسوف نفسه يفسر لنا أصرح تفسير كيف حدث هذا: (وكانت هذه الفتاة الصغيرة هي التي... اعتزمت أن ارتبط بها برباط الحب. والحق أن هذا العمل من أسهل الأمور. فها هو ذا أسمى على كل لسأن، ولى من مزايا الشباب والجمال ما لا أخشى معه أن ترفضني امرأة ، أيا كان شأنها، أتعطف عليها بحبي... وهكذا شرعت، وقلبي ملتهب بحب هذه الفتاة، ابحث عن الوسائل التي تمكنني من أن أتحدث إليها في كل يوم حديث المودة الخالية من الكلفة، حتى يسهل علي بذلك أن أحظى بموافقتها. ومن اجل هذا أقنعت عم الفتاة... أن يأويني في بيته... نظير اجر قليل أؤديه له... وكان هو رجلاً بخيلاً حريصاً على المال و... اعتقد أن ابنه أخيه ستفيد كثيراً من تعليمي ... ولقد ذهلت من سذاجة الرجل ، ولو أنه عهد بحمل وديع إلى عناية ذئب مفترس لما كنت اشد من ذلك دهشة وذهولاً... (ولم أطيل القول؟ واجتمعنا أولاً في المسكن الذي أظل حبنا، ثم في القلبين اللذين كانا يحترقان من جنبينا.
وقضينا الساعات الطوال ننعم بسعادة الحب متسترين بستار الدرس ... وكانت قبلاتنا يزيد عديدها على كلماتنا المنطقية ، وكانت أيدينا اقل بحثاً عن الكتاب منها عن صدرينا ، وكان الحب يجذب عيني كل منا إلى الآخر. وهكذا أحالت رقة إلواز العاطفة التي بدأت رغبة جسمية بسيطة. وكانت هذه تجربة جديدة في حياته لهته عن الفلسفة ، فقد استعار من محاضراته وجداً وهياما لحبه ، فأضحت هذه المحاضرات مملة على خلاف عاداتها. وأسف طلابه لما أصاب الجدلي المنطيق ، ولكنهم رحبوا بالعاشق ، وسرهم أن يعرفوا سقراط نفسه يمكن أن يأثم ، وعزوا أنفسهم فقدوه من الحجج الدامغة بترديد أغاني الحب التي بدأ يؤلفها ؛ وكانت إلواز تسمع من نافذة بيتها أغاني افتتانه بها تتردد أصداؤها الصاخبة على ألسنة تلاميذه. ولم يمض إلا القليل من الوقت حتى أبلغته أنها حامل ، فما كان منه إلا أن اختطفها من بيت عمها وأرسلها إلى بيت أخته في بريطانيا.
التعديل الأخير: