
| كتبت بشاير عبدالله |
في الفناء الخلفي لأحد الفنادق الكبرى وبعد انتهاء حفل الزفاف، انشغل العاملون والمشرفون على الأطعمة بإفراغ محتويات الأواني المعدنية في أوعية وعلب من البلاستيك وأخرى ورقية، وبإحكام إغلاقها وتغليفها.، وفي وسط المكان وقفت « أم محمد» ترقبهم بانتباه، وتشاركهم العمل بحماس وهمة. تارة توجههم إلى مكان وضع الأطعمة التي ستأخذ طريقها الليلة إلى أفواه المحتاجين، وتارة أخرى تشير إليهم بالطريقة الصحيحة لتغليفها. وعلى الأرض وضعت بعض الأواني ورصت فوقها ألوان من الأطعمة بانتظار ضيوفها الصغار الذين جاءوا مع والدتهم بعد مكالمة تخبرهم بوجود فائض من «النعم» التي يتوجب «حفظها».، وقفت أتصفح وجوههم الصغيرة الشاحبة التي شقت حضورها البائس وسط ظلمة الليل، وأجسادهم الناحلة المكسوة بملابس بالية.، أرقبهم يندفعون بكل جوعهم ويفترشون الأرض بعد أن هدهم طول الانتظار لوجبة ساخنة وشهية. يلتهمون الطعام في نهم سرق انتباههم عن أضواء الكاميرا التي أحاطت بهم من كل صوب.
مشهد يشير بوضوح إلى بؤس الواقع الاجتماعي والاقتصادي لبعض الشرائح والأسر التي تعيش على «أرض الخير» منهم كويتيون، وبدون، وبعضهم من جنسيات أخرى يجمع بينهم الجوع وقهر الحاجة.، تقول «أم محمد» صاحبة مشروع «حفظ النعمة» لا يمكن وصف الحالة التي وصلت إليها بعض الشرائح في بلادنا، فالفقر والفاقة اللذان أراهما أكبر من أن تستدعيهما الكلمات، ففي الكويت أسر كثيرة ينام أفرادها جياعاً، وينقطع أبناؤها عن الدراسة، ويلتحف كبار السن فيها الهواء لعدم وجود ما يسد حاجتهم، وهناك في المقابل موائد عامرة تبسط في قاع القمامات لتستمتع بها الشياطين..! وألبسة وأثاث يتم التخلص منها دون أن ينقضي عمرها، وأموال تتم بعثرتها على أمور غير ذات أهمية»، وتتساءل هل ينقصنا الوعي والإيمان لنساعد بعضنا بعضا؟ وتضيف أم محمد والتي لا تحب التعريف باسمها حتى لا تتهم بالسعي إلى الظهور والشهرة، « يومياً أقدم الوجبات الغذائية لما يعادل 15عائلة وأكثر، ومازالت هناك مناطق لم تدخلها المعونات التي أقدمها بعد، ويمثل الكويتيون نسبة 20 في المئة تقريباً من المحتاجين. وتؤكد «أقوم بكل ذلك حرصاً على وطني وأبنائه، وخوفاً عليه من أن يجتاحه مرض جفاء القلوب وقسوتها، وأتمنى أن تكبر هذه الفكرة وتحصل على الدعم اللازم لتحقق أهدافها واستمرارها».
«الراي» تسلط الضوء على مشروع «حفظ النعمة وإكرامها وتوزيعها» الخيري الذي قام على ذراعين اثنتين لامرأة نذرت وقتها وجهدها لمساعدة المحتاج ولإطعام الفقير على أرض بلد يسكنه تجار مع الله زبائنهم عياله سبحانه الفقراء».
في العاشرة من مساء كل يوم تستعد، «أم محمد» للخروج من المنزل بصحبة خادمتها وسائقها، وقد يذهب معها أحد أبنائها لمعاونتها في جمع الأطعمة والإشراف على العمل، وفي تلك الليلة دعتني لمرافقتها في جولتها التي تبدأها من المنازل والفنادق وصالات الأفراح تسوق منها الخير بألوانه المتعددة إلى بيوت المحتاجين والجوعى، فلبيت الدعوة، وفي مقعدين خلف السائق جلسنا (أم محمد وأنا)، تسرد هي وأنا أستمع، «هذه السيارة الكبيرة التي ترينها هي هبة من إحدى المتبرعات منحتها لي حتى أستخدمها بعد أن رأت اعتمادي على سيارة منزلي الخاصة في نقل وتوزيع الأطعمة»، وبين الفينة والأخرى تلتفت أم محمد إلى سائقها تصف له طريقاً مختصراً إلى الفندق المقصود، ثم تعود لتواصل حديثها معي وتقول حين سألتها عن بداية نشوء مفهوم عمل الخير وإطعام الجائع لديها وعما إن كان شغفها بحفظ النعم وإعطاؤها للمحتاج قد بدأ مبكراً. « نعم كنت طفلة شديدة الاهتمام بمساعدة الفقير وكنت أجمع أموال «العيادي» التي تعطى لي وأحتفظ بها لإعطائها للفقراء، كما كنت أتألم لمشاهدة أكوام الأطعمة الجيدة ملقاةً في القمامة سواء في بيتنا أو في بيوت أقربائنا، وكان الكبار يتعجبون لاهتمامي بهذه الأمور ويثنون على سلوكي ما دعم لدي هذا الحس الإنساني والقيمي، وأما بداية عملي الفعلية في هذا النشاط فكانت في العام 1996حين قررت تجنيد نفسي لخدمة أكبر عدد من الفقراء والجوعى والمحتاجين».
وعندما اقتربنا من الفندق اتصلت أم محمد هاتفياً بإحدى ربات الأسر المحتاجة التي تعرفها وأبلغتها أن ثمة أطعمة فائضة عن الحاجة في عرس يقام بأحد الفنادق، وأن بإمكانها القدوم وأبنائها للحصول على بعضها. وقفت السيارة أمام أحد الأبواب الخلفية للفندق ونزلنا جميعاً، فأسرعت أم محمد في همة وحماس تستدعي العاملين والمشرفين على الأغذية في مطعم الفندق، ومن ناحية أخرى بدأ مساعداها وهما السائق والخادمة بإنزال المعدات اللازمة لعملية حفظ وتغليف الأطعمة، ودلفنا جميعاً إلى داخل فناء خارجي تابع لمطعم الفندق حيث انشغل الجميع بإعداد الوجبات الغذائية، وأنا أتابع بنظري عيني أم محمد البازغتين من بين طرفي النقاب، وأرقب توهجهما تحت الإضاءة الخافتة لمكان وقوفنا، يتلألآان ويحترقان شوقاً ولهفة للانتهاء من العمل، وجسدها يندفع بسرعة في الاتجاهات المختلفة وكأنها تريد أن تحرق لحظات إعداد وحمل الأطعمة سريعاً حتى تتمكن من حملها في أقرب وقت إلى الأطفال والأسر الجائعة.
أنهى «فريق أم محمد التطوعي» كافة التجهيزات وقام بنقل علب وأكياس الطعام التي اشتملت على حصص متنوعة من اللحوم والأرز، والمعجنات، والحلويات، والمثلجات والمشروبات إلى الجزء الخلفي من السيارة. وانطلقنا في المسير.
كانت الساعة الحادية عشرة مساء تقريباً وأشارت أم محمد إلى سائقها بالذهاب إلى منطقة «جليب الشيوخ» التي تعتبرها أحد أهم وأكبر معاقل الفقر في الكويت. وفي الطريق أخذت تستكمل استدعاء محطاتها المميزة في عمل الخير، فالتفتت إليّ وبدأت تحدثني بعينين لامعتين، وبنبرة مغمورة بالحماس وقالت « بدأت نشاطي المكثف بعد العام 1996 كما قلت لك، وحينها انشغلت بتلمس سبل الجوعى والمحتاجين، والبحث عنهم. وأحسب أن الله كان يبعثني لهم في الوقت والمكان المناسبين أو يبعثهم سبحانه وتعالى لي!
ثم قررت أن أبدأ من بيتي وبيوت أقربائي لأرى كيف تسير الأمور بعد ذلك، وتعلق ضاحكة كمن يبدأ مشروعاً تجارياً على نطاق ضيق ليختبر استطاعته على التعامل مع السوق، وليتفحص مقاييس العرض والطلب. إلا أن الفرق يكمن في نوع التجارة، فتجارتي مع الله وحده، وزبائني هم أحبائه الفقراء. وبعدها بدأت أقصد المخابز والمطاعم القريبة من بيتي، وأتحدث إلى مسؤوليها وأخبرهم بوجود أناس في أمس الحاجة إلى كسرة الخبز، وأن بإمكانهم المساعدة عن طريق إعطائي الفائض من الأطعمة التي يتخلصون منها عادة مع أنها تكون في حال ممتازة. ومن يومها بدأت مهمتي التي أقوم بها في كل ليلة برضا وإصرار متجددين في البحث عن أطعمة وأفواه وجوع جديد!
كنت عندما أتلقى دعوة لحضور عرس أو مناسبة أذهب حاملة معي أكياسا بلاستيكية وعلبا، وأطلب من سيدة المنزل أن تأذن لي بحمل ما يزيد على استهلاك الضيوف إلى الفقراء والأسر المحتاجة، وبدأت أجد قبولاً واسعاً من الناس، وازداد نشاطي تطوراً بحيث كونت شبكة علاقات واسعة مع الفقراء والمحتاجين، وبدأت أتعلم أكثر عن حاجاتهم واتسعت نظرتي ومعرفتي بما ينقصهم من أمور، والأهم أني بدأت في هذه المرحلة أرصد التصاعد المخيف لتفشي ظاهرة الفقر في بلادنا.
قطع حديث أم محمد مكالمة هاتفية تلقتها من احد السيدات اللاتي يقصدنها طلباً للمعونة، ففتحت السماعة الخارجية لهاتفها النقال لتطلعني على حوارها مع السيدة «أم خليل» التي بدأت حديثها بالشكر الجزيل لأم محمد على ما تقدمه لها ولأسرتها من معونات مستمرة، وتابعت حديثها بصوت خفيض، وعبراتها تتكسر على صدرها وهي تطلب من أم محمد أن تساعدها في الحصول على المال اللازم لتيسير بعض جوانب حياتها وأبنائها، كون زوجها يتسلم راتباً ضئيلاً لا يتجاوز 140 دينارا لا يفي بأي من احتياجات أسرتها المكونة من 6 أبناء. فطمأنتها أم محمد أن لديها ما يمكن أن تعطيها إياه من مال المتبرعين. ثم سألتها عن حال ابنتها الكبرى، فأجابتها أم خليل أنها بخير وعلى وشك الزواج، عندها سألتها أم محمد عن المهر الذي قدمه خطيبها، فلم تجب أم خليل بوضوح واكتفت بضحكة مكبوتة غلفها الألم وقالت لا شيء يا أم محمد «نريد الستر بس» فاحتدت نبرة أم محمد وهي تطلب الحديث إلى الفتاة العروس، وبدأت تقنعها ألا تقبل بزواج دون مهر حتى وإن كان هدية بسيطة، ووعدتها بهدايا جميلة لعرسها إن هي فعلت، واختتمت حديثها معها قائلة « يا ابنتي لست فتاة سيئة حتى تتزوجي دون هدية أو مهر. أنت تستحقين الاحترام، فلا تجعلي فقرك يسلبك احترامك لذاتك!
وأنهت أم محمد حديثها مع السيدة وابنتها والذي لم يكن حماسها فيه أقل من حماسها لإعداد الطعام وتوزيعه. ثم قالت لي أرأيت حجم المأساة، عائلة مكونة من 8 أفراد معظمهم أطفال ومجمل دخلها 140 ديناراً، ولا يجدون ما يطعمون. ثم واصلت حديثها قائلة في المراحل الأولى لنشاطي اقتصر عملي على توزيع الطعام والتبرعات المالية التي كان يجود بها المحسنون ممن يعلمون بالخدمات التي أقوم بها، وخلال قيامي بتوزيع الطعام كنت الاحظ نقص وغياب معظم لوازم الحياة الأساسية من أثاث وثياب وغير ذلك في منازل الفقراء. وهنا بدأت بتوسيع مجال اهتمامي بحيث أصبحت أقدم المساعدات للمحتاجين بكافة أنواعها، فمن يحتاج الأثاث أقوم بتوفيره له عن طريق أخذه من المحسنين الذين يقدمون قطع أثاث بحالة جيدة للتبرع بها. وبدأت أقصد الشركات والمؤسسات التجارية لتساعدني باعطائي مواقع في معارضها لتخزين الأثاث، بعضها تجاوب معي وكثيرون لم يتجاوبوا.
وبعد أن أنهت الجملة الأخيرة بدت هيئتها تدل على أنها تذكرت شيئاً مهماً للتو، فاستأذنت مني في إجراء مكالمة هاتفية مستعجلة، وأمسكت بهاتفها الذي لم يصمت لخمس دقائق متواصلة خلال حديثنا وكانت في كل مرة ترد على الرسالة أو المكالمة، وتطلب تأجيل الحديث إليها بضع ساعات لانشغالها. واتصلت بسيدة تعرفها وطلبت منها أن تساعدها في نقل الأغذية للمحتاجين. وبعد أن أنهت مكالمتها أوضحت لي أن هناك أسرا من الفقراء والمحتاجين يساعدونها في حمل ونقل الأطعمة إلى أسر أخرى ويأخذون نصيبهم منها كذلك، وترى أم محمد أن ذلك ساعدها على إقامة شبكة من العون وإغاثة المحرومين بأيدي محرومين ومحتاجين مثلهم.
وفي أثناء حديثنا انعطفت السيارة، وسارت عبر شارع فرعي مؤد إلى منطقة في أطراف جليب الشيوخ، ثم دخلنا شارعاً في أقصى أنحاء المنطقة تضيء الكهرباء بعضاً من جوانبه، وتطغى الظلمة على جسده العام وروحه كذلك، اقتربنا ببطء من بيت يسكن قلب الشارع، يقف عند بابه ثلاثة أطفال متقاربين جداً في العمر، وإلى جانبهم والدهم، وبدت عيونهم منهكة، تئن من الجوع بآهات مكبوتة، وهي مسمرة باتجاه السيارة تنتظر بشوق خروج الخير من جوفها. وقفنا نتأملهم برهة، ثم هم الجميع بالنزول من السيارة. دخلنا إلى فناء بيتهم المتهدم الأطراف والذي لم أتبين منه الكثير بسبب ضعف الإضاءة، وإن كان الفقر وضعف الحال بادياً بوضوح على ملامح وجه البيت. تركت أم محمد عندهم ما استطاعت من علب وصناديق وأكياس الطعام، ثم نادتنا للخروج بعد أن أطمأنت على أحوال الأسرة فرداً فرداً.
عاودنا ركوب السيارة، وطلبت من أم محمد أن تحدثني عن ظروف الأسرة التي زرناها منذ لحظات، فقالت هي امرأة كويتية الجنسية ومتزوجة من شخص غير كويتي، كانت حالهم أفضل وكانوا يسكنون شقة جيدة إلى أن طرد زوجها من عمله منذ سنتين تقريباً، ولم يجد عملاً حتى اليوم. وبالنسبة للزوجة فهي حاصلة على شهادة متواضعة ولم تعمل في أي وظيفة سابقاً وهي أيضاً مريضة وغير قادرة على الحركة بيسر وبالتالي فهي غير قادرة على مساعدة زوجها في هذه الظروف الصعبة. وأدى تراكم الديون ومصروفات العلاج ودراسة الأبناء إلى وصول الأسرة للحال التي رأيتها، عندها انفلت مني سؤال بعفوية مباغتة «وهل يعقل أن تعاني كويتية من هذه الظروف، دون أن تجد مساعدة من أحد»..؟ فأجابت أم محمد أن كثيرا من الكويتيات المتزوجات بغير كويتيين يعانين معهم ويلات الحاجة، ولا يجدن المساعدة بسبب انقطاع صلاتهن بعائلاتهن بعد هذا الزواج المنتزع رغماً عن العائلة.
ثم نظرت أم محمد إليّ وأطبقت أجفانها في إغماضة سريعة تدل على الكثير، وتنهدت بعمق ثم قالت هناك يا ابنتي أسر كويتية بأكملها تعاني الفقر، واستطردت موضحة أن ما نسبته 20 في المئة تقريباً من الأسر الفقيرة التي تقدم لها المساعدات هي أسر كويتية، أثقلت كاهلها الديون وتراكمت عليها المصروفات، حتى أن هناك أسرا لا تجد أجهزة تكييف للهواء ترحمها من لهيب الصيف الحارق.
حركت رأسي بإيماءة متأملة في محاولة لاستيعاب المعلومات والمشاهد التي بدأت التقطها في هذه الجولة، وهنا لمحت بطرف عيني في المقعد الذي يلي مكان جلوسنا رزمة مكونة مما لا يقل عن سبعة ملفات كبيرة كتلك التي تحفظ بها الأوراق الرسمية في الوزارات، مصفوفة باهتمام في زاوية من السيارة، وعلى غلافها الأمامي ملصق طابع كتب عليه بخط كبير «ملفات طالبي العلم». ولما سألتها عما تحمله هذه الملفات، شرحت لي أنها تخص الطلبة من أبناء الفقراء الذين تم إيقاف مشوارهم التعليمي بسبب نقص المال لدى ذويهم. ثم مدت يدها وتناولت إحدى هذه الملفات وفتحته لتريني ما قامت به من عمل لخدمة هؤلاء الطلبة، وكم أدهشني التنظيم الذي رأيته بين صفحات الملفات، فقد وضعت جداول خاصة تحمل خاناتها أسماء الطلبة، والمبالغ المستحقة عليهم، وجميع التفاصيل التي يحتاجها المتبرع ليتأكد من ذهاب أمواله إلى من يستحقها فعلاً، هنا رفعت رأسي وقلت لأم محمد « هذا النوع من العمل تقوم به وزارات وهيئات حكومية، وأنت تقومين به بجهد فردي وبكل حماس واهتمام، ألا تجدين صعوبة في التوفيق بين كل هذه الأعمال الخيرية خصوصاً أن بعضها يتطلب عملاً كثيراً ؟ فأجابت أم محمد، من يبتغ خدمة المحتاج ورضا الله فلا يفكر في التعب الذي قد يناله.
توقفنا عند بيت آخر في نفس الشارع المظلم وتكرر نزولنا ودخولنا إليه ولكن هذه المرة أرادت أم محمد أن تريني ما تقوم به عادة عند زيارتها لبيوت المحتاجين فطلبت مني الدخول معها إلى داخل البيت الذي كانت تسكنه أسرة مكونة من أم متوسطة العمر و7 أبناء في أعمار متفاوتة، استأذنت أم محمد من صاحبة البيت ودخلت إلى المطبخ وفتحت باب الثلاجة المتهالكة الواقفة بصعوبة على ثلاثة أقدام في جانب من المطبخ، وهنا كان المشهد مؤلماً فالثلاجة كانت خالية تماماً، في بيت يسكنه 8 أفراد منهم الأطفال. وأخذتني أم محمد في جولة داخل البيت لتريني ضعف الحال الذي تعانيه الأسرة، ثم جلسنا نتحدث إلى ربة الأسرة التي كانت تتحدث بلهجة إحدى الدول العربية، وتشرح معاناتها بعد وفاة زوجها ومعيلها الوحيد هي وأسرتها، وكيف أنها عاجزة عن تلبية متطلبات أسرتها الكبيرة المكونة من فتيات وشباب معظمهم في عمر المراهقة. وكيف أنهم لم يستطيعوا إيجاد وظائف وأعمال، بعد أن فشلوا في استكمال دراستهم بسبب أعبائها المادية، وطلبت من أم محمد والعبرات تخنق صوتها أن تساعدها في توفير المال اللازم لتجديد اقامتها وأبنائها، وعدتها أم محمد خيراً واستأذنت منها بالذهاب لوجود أسر أخرى بحاجة إلى الطعام الذي تحمله. في أثناء خروجنا اتصلت أم محمد هاتفياً بربة الأسرة التي تساعدها في نقل الأغذية إلى آخرين وعلمت أنها وصلت تقريباً إلى البيت الذي نحن فيه، وانتظرنا لدقائق وصول الأسرة المكونة من 4 أفراد والد ووالدة وابنين من الشباب، ثم بدأوا جميعاً بتحميل المواد الغذائية والوجبات الساخنة في سيارتهم «البيك أب» ليأخذوها إلى بيوت المحتاجين، قبل أن ينصرف رب الأسرة نادته أم محمد وأخرجت من حقيبتها ورقة من فئة العشرة دنانير وأعطتها له مؤكدة عليه أن يستخدمها لتزويد سيارته بالوقود اللازم لتوزيع الأطعمة، فشكرها الرجل كثيراً واستأذن بالانصراف. وانطلقنا نحن أيضاً في جولة الخير الليلية التي حملت لي في كل محطة صفعة على جهلي الخاص بوجود من يعاني الجوع داخل بلادي..!
خلال تحركنا داخل المنطقة المغمورة بالجوع والألم الصامت كنت أتأمل الشوارع النائمة في العتمة بجوانبها المقفرة الشبيهة بتلك التي نشاهدها في أفلام هوليود، وأدقق النظر فأرى بعض الفتية والرجال يسيرون في الظلام، ويحدقون بالسيارة التي تقلنا بعيون مرتابة، ومتربصة، ما جعلني أتوجه بنظري إلى أم محمد وأسألها « كيف تستطيعين أن تمري بهذه الشوارع والطرق في هذا الوقت من كل ليلة، ألا تخشين الإيذاء؟ ألا تخافين أن تتعطل سيارتك لا سمح الله ويخرج عليك من بين ستائر الظلمة من يبدوا أنهم لا يملكون ما يخشون ضياعه..؟ فأجابت أم محمد بعد أن أطلقت زفرة عميقة «الحافظ الله».
ثم تابعت حديثي قائلة، ما أراه يجرني لتساؤل شديد الأهمية، ما الصعوبات والمواقف التي واجهتها خلال جولاتك الليلية هذه، فأنت تقومين بهذه المهمة منذ سنوات ؟ فأجابت أذكر جيداً موقفاً لن أنساه لأن الله قضى أن ينقذني منه بأعجوبة.
بدأت القصة مع اكتشافي حالة من حالات الخداع لامرأة تدعي الحاجة باستمرار وتمد يدها لكل فاعل خير تسمع به. اتصلت بي ذات يوم تطلب معونة مالية، وغيرها مما يجود به المحسنون. وبما أني أعي جيداً وجود حالات من التضليل والخداع بين من يطلب مني المساعدة، فإن لدي أسلوبا أتبعه في الكشف عن حالات الخداع تلك، وذلك بأن أزور بيوت طالبي المعونة دون سابق إبلاغ لهم، وأفحص أحوالهم بنفسي لأتأكد من حاجتهم فعليا، ومن أنهم ليسوا ممن يتخذ التسول وبسط اليد تجارةً مربحة. والحقيقة أن نسبة هؤلاء قليلة إلا أنهم متمرسون في سلوكيات النصب والاحتيال، وجرياً على عادتي في التأكد من صدق المتصل، زرتها دون إعلامها مسبقاً وهنا كانت المفاجأة، وجدت بيتها الفقير خارجياً، مزدحماً بأشكال من الأثاث في الداخل، وثلاجة منزلها زاخرة بألوان من الأطعمة، وعندما سألتها متعجبة مما أرى، قالت لي وقد انقلبت هيئتها من أقصى البراءة والتذلل إلى أقصى الوقاحة، ماذا هل تحسدين الفقراء على تبرعات المحسنين؟ وهنا علمت أن دوري قد انتهى ولم أكلف نفسي عناء الرد عليها، بل فضلت الرحيل من منزلها.
وبعد أيام من تلك الحادثة، وقبيل أن أخرج في جولتي المسائية المعتادة جاءتني مكالمة من إحدى السيدات اللاتي أقدم لهن المساعدة والتي تسكن في نفس منطقة المرأة المخادعة ترجوني بحرارة ألا أدخل منطقتهم هذه الليلة... هنا تملكني الاستغراب فسألتها عن السبب، وأجابتني أن المرأة المخادعة وبعد أن اكتشفت أمرها أرادت الانتقام، فراحت تسير في كل شوارع المنطقة تحذر الرجال والشباب مني وتدعي أن عملي الخيري هو غطاء لمهنة سيئة أمارسها، وأبحث من خلالها عن الفتيات الجميلات في بيوت المحتاجين لاغوائهن على ممارسات غير شريفة.
وأخبرتني أن رجال المنطقة بعد سماعهم هذا الكلام ثاروا وقرروا أن ينتظروا قدومي على رؤوس الشوارع حاملين معهم أسلحتهم اليدوية ونواياهم السيئة، وفي تلك اللحظة انتابتني حالة من الخوف، ومرت بذهني سريعاً سيناريوات محتملة لما يمكن أن يحدث لي ولمن معي في حال وقعنا تحت أيديهم، ولكن سرعان ما تبدد الخوف بعد أن استدعت ذاكرتي وجوه الأطفال والنساء وكبار السن الذين ينتظرون مجيء الطعام ليسكتوا جوعهم، فقررت بكل اقتناع أن أنفذ مهمتي، وأتوكل على الله فهو القادر على حمايتي من كل شر محتمل.
وفي طريقنا إلى هناك حدث ما حال دون اقترابنا من الخطر، فعند وصولنا إلى منطقة قريبة وجدنا سيارة مليئة بعمال البناء العائدين إلى مسكنهم، وبدت على ملامحهم علامات الإنهاك والجوع والتعب، فطلبت من سائق السيارة أن يتخذ جانباً من الطريق ويتوقف، ونزلت ومن معي نعطيهم من الأطعمة الموجودة معنا، وفي تلك الأثناء خطر لي الاتصال ببعض العائلات التي أعرفها ليأتوا ويأخذوا نصيبهم ونصيب غيرهم من الغذاء. وبعد أن أنهيت عملي عدت إلى منزلي سالمة، وعلمت في اليوم التالي أن المتعقلين من رجال المنطقة نجحوا في إنهاء المشكلة، ورفضوا الادعاءات الكاذبة ضدي.
وبعد أن أنهت أم محمد روايتها لأحداث القصة، خيم الصمت للحظات، وكأننا كنا نحتاج أن نسترجع ونتأمل مجريات ما حدث حتى ننسج عليه ما علق في نفوسنا من مشاعر. ثم قطعت اللحظات الصامتة بسؤال قفز إلى رأسي حينها وقلت لها «هذا نموذج للمشكلات التي قد تواجهينها في التعامل مع المحتاجين، وماذا عن الصعوبات الخاصة بالتعامل مع المحسنين، هل ثمة ما يزعجك في التعامل مع بعضهم ؟
أجابت أم محمد بعد لحظة من التفكير، أحياناً أواجه من الناس من يعاملني بشيء من الازدراء، أو العصبية والانفعال، ولا أرى سبباً واضحاً لذلك، غير أنهم ربما يعتقدون أني موظفة في جهة ما خيرية، أو أقبض راتباً معيناً مقابل القيام بهذه الخدمات، فربما لا يفهم بعضهم أني أقوم بكل هذا تطوعاً وخدمة للمحرومين والمحتاجين. ثم صمتت للحظات كمن يسترجع ببطء أمراً مهماً يجب الحديث عنه، وقالت بلهجة فيها شيء من السخرية الممزوجة بالمرارة « هل تعرفين كيف تعمل بعض الجهات التي تصف نفسها بالخيرية..؟ فأجبتها بالنفي واقتربت برأسي منها إمعاناً في الإنصات، فقالت «يا عزيزتي بعض الجهات الخيرية خصوصاً تلك التي تتبع جزئياً للحكومة تحسن عملها، وتخدم الفقير والمحتاج بضمير يقظ وعمل متقن. ولكن هناك جهات أخرى تسبغ على نفسها ألقاب الخير والإحسان، وهي في الواقع بعيدة عن هذه الصفات. فكثير من اللجان الخيرية الموجودة في المناطق عندما يقصدها الفقير متلمساً العون يجد أنها لا تقدم له شيئاً يذكر، وفي المقابل عندما يذهب لها المتبرع والمحسن ليقدم تبرعه تستقبله بحفاوة وتزين له سلوك التبرع حتى ينفق أكثر.
وتتابع أم محمد قائلة، وسؤالي هنا هو، أين تذهب أموال التبرعات تلك؟ فبالتأكيد لا ينال الفقراء منها نصيبا، واعتقادي أن تلك الجمعيات تنفق على رواتب موظفيها الجالسين على كراسيهم طوال النهار دون نشاط فعلي، ما يتبرع به المحسنون، وتدفع الإيجار الخاص بمواقعها من مالهم أيضاً. والمال القليل المتبقي تعطيه للمحتاجين، فهذه الجمعيات دائماً تدعي عدم وجود أموال لديها للتبرع، وكل من يذهب إليها من الفقراء يعود خالي الوفاض، حاملاً معه الشكوى.
وقفت السيارة التي تقلنا أمام آخر محطات جولتنا، بيت شعبي مكون من ثلاث غرف يفصل بين أجزائه ستائر من الأقمشة والثياب البالية التي شدت على حبال تتوسط الجدران، لتحفظ ما تبقى من آدمية سكان البيت. كانت بانتظارنا فتاة شابه تبدو في منتصف العشرينات، هيئتها تدل على الإعياء، حدجتني بنظرة سريعة، ثم اقتربت من أم محمد وتلفعت بذراعيها وفي أحضانها خارت قواها واستسلمت للبكاء، وقالت لها بكلمات متكسرة، أخشى على والدي فقط إن استمر ضعف حالنا أن يعجز عن مقاومة المرض، ولا أحد لي سواه..!
دلفنا إلى داخل البيت لنجد رجلاً طاعناً في السن ممدداً في صالة المنزل وبجانبه بقايا من «الرطب» وقدح صغير من لبن. نظر إلينا بعينين مرحبتين رغم التعب والمرض البادي عليه، انحنت أم محمد تتحدث إليه عن قرب وتهمس له ببضع كلمات. ثم خرجنا من الغرفة ترافقنا الفتاة الشابة وعند عتبة باب الخروج وبينما كان السائق والخادمة يخرجان من المطبخ بعد وضع الطعام فيه. توقفت أم محمد لبرهة ودست مبلغاً من المال في يد الفتاة، فشكرتها الفتاة بحرارة، ووقفت تودعنا بعينين أضناهما الألم.
وبعد انتهائنا من المحطة الأخيرة، انطلقنا عائدين إلى بيوتنا تاركين وراءنا مشاهد ونظرات لا تنسى، حاملين في ضمائرنا جروحاً غائرة، وفي رأسي ترن كلمات أم محمد التي قالتها لي خلال حديثنا « هل ترين، جوعى بهذه الأعداد على أرض الخير، والموائد العامرة فيها تلقى في القمامة ليستمتع بها الشياطين..؟!
http://www.alraimedia.com/Alrai/Article.aspx?id=219958&date=08082010
تعليقي :-
يا بنات معقولة الي قاعدة اقراه ؟؟؟ لا حول ولا قوة الا بالله
الحمدالله مليووووووون مرة على النعمة الي حنا فيها
ولا تبذرون الاكل برمضاان وكثروا من الصدقاات للمحتاجين:eh_s(17):