المولد النبوي

المحاميه ن

New member
إنضم
28 يناير 2014
المشاركات
2,918
مستوى التفاعل
0
النقاط
0


إن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، له مميزات خاصة، وذوق خاص، وذلك لما يمثله للمسلمين من قيمة ثابتة، ومكانة كبرى؛ إذ كان السبب في هداية البشرية، وإخراجها من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

وقد استحسن جماهير المسلمين الاحتفال بالمولد النبوي في مشارق الأرض ومغاربها؛ لأن هذه الولادة من أجلَّ وأشرف الولادات على الإطلاق.

وأنكره بعض العلماء، وعدوه بدعة مذمومة؛ باعتباره موسما وشعارا دينيا، وعبادة غير مشروعة، وظن العوام أنها مشروعة، ولما يقترن به من المنكرات الأخرى. وذهب البعض الآخر: إنه بدعة حسنة؛ لأنه عبارة عن الشكر لله تعالى على وجود خاتم أنبيائه، وأفضل رسله بإظهار السرور في مثل اليوم الذي ولد فيه وبما يكون فيه من الصدقات والأذكار، وقد ألف الإمام السيوطي رسالة[1] في عده بدعة حسنة في جواب من سأل عن حكمه شرعا، وعرفه بقوله: هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط فيأكلون وينصرفون من غير زيادة على ذلك[2].

ولا شك أن المعتاد في الاحتفال بمولد الحبيب صلى الله عليه وسلم هو أن يجتمع العلماء والدعاة والوعاظ لقراءة سيرته العطرة في المساجد، والتكلم عن محاسنه، ومكانه ومكانته عند الله، وعن أخلاقه الفاضلة. ومنهم من يجعل له دعوة خاصة في البيوت[3].

بيد أن هناك جانبا من الأهمية بمكان يمكن أن نلمسه وسط هذه المحفلة الإسلامية الكبرى التي تعم غالب أرجاء العالم الإسلامي بهذا النبي الكريم، وهو الجانب الإيماني الذي فيه تجديد المحبة له والنظر إلى حقيقة اتباعنا له عليه الصلاة والسلام، والاقتداء به، والتخلق بأخلاقه، بل الجانب الإيماني ليس مقصورا على ما ينعكس على القلب، وينمي فيه الحب له والإيمان به فقط، بل يتخطى ذلك ليشمل تجديد السلوك والقيم الإنسانية والأخلاق العظيمة التي هي ثمرة لهذه القيم وتلك الأخلاق، ومن الأمور التي يمكن أن نلمسها في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ما يأتي:

1ـ تجديد الإيمان به صلى الله عليه وسلم ـ

إن من أهم النفحات الإيمانية التي يمكن أن يلمسها المسلم في الاحتفال بمولد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هو تجديد الإيمان به، وتجديد البيعة له، أن يظل على العهد معه، والإتباع له، والاقتداء به، والعمل بما جاء به، والسير على نهجه وطريقه المنير، الذي لا يزيغ عنه إلا هالك، قال الله تعالى في كتابه العزيز: ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)[4]، وقال صلى الله عليه وسلم: " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"[5]، وتبليغ رسالته في العالمين،(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[6].

كما أننا نلمس قضية مهمة في الاحتفال بالمولد، "وهي أن المولد الكريم إشارة إلى حدث عظيم وهو نزول القرآن الكريم،ومقدمة له، ودافعا إلى الأخذ بالإسلام عقيدة وشريعة، عبادة وطاعة والتزاما وحركة، ودعوة متجددة حية، ومنهجا فاضلا،وأسلوبا فذا فريدا لكل أمر، يمد بالحياة، ويباركها، ويعليها، ويرفع من شأنها"[7].

كما يلمح في الاحتفال بالمولد الإشارة إلى وجوب الإيمان برسالته وترك كل ملة غير ملته، وإلا كان ممن حق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"[8]

فهذا الحكم يدع القلب وجلا مذعورا، ويتركه مدعوًّا لمراجعة حقيقة إيمانه في هذه المناسبة، ويحمله على تجديد هذا الأمر، واستكمال مكملاته وتحسيناته؛ لأنه يعتبر شطر الإيمان، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

2 ـ تجديد الحب له:

إن مناسبة الاحتفال بالمولد النبوي فرصة للمسلم يجدد ويغدي فيها محبتة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مع زيادة التشوق له، ولا يمكن القول إيجاد محبة المسلم له؛ إذ فلا يتصور أن يكون في الدنيا مسلم آمن بالله وآمن بنبوته صلى الله عليه وسلم، ثم لم يُصبح قلبه وِعاءً لمحبة هذا الرسول الذي اصطفاه الله وأرسله رحمة للعالمين: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيمٌ)[9].

هذا أمر لا يمكن أن يكون، ولكن المأمول من الاحتفاء والاحتفال بذكرى مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يتمتع المسلم بمزيد من محبته، وأن يجدد ها في أعماق نفسه، تحقيقا لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدُكم حتّى أكون أحبّ إليه من ماله وولده والناس أجمعين"[10]. قال ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما ـ رحمة الله عليهم ـ : المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس، فجمع صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته[11].

ولم يَقُل المصطفى صلى الله عليه وسلم هذا الكلام إطراءً لنفسه، وإنما بلَّغَنا ما أمره الله عز وجل أن يبلِّغنا إياه. أمَره الله أن يعلِّمنا بأن محبتنا لرسول الله جزء لا يتجزّأ من الإيمان بالله، فكان لا بدّ أن يبلِّغَنا ذلك وإلا ما أُدّيتْ أمانة الله سبحانه وتعالى ، (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَه)[12].وحب المسلم لرسول الله ما هو إلا غُصنا متفرّعاً عن حب لله سبحانه وتعالى؛ولأن حب المسلم له هو الذي يجعل المؤمنَ يركل بقدمه الدنيا وأهواءها، وكل ما ينافس دين الله وشِرْعه وأوامره سبحانه وتعالى.

والحاصل أن حبنا له صلى الله عليه أكبر غاية من الاحتفاء بمولده صلى الله عليه وسلم، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه.

ثالثا: تجديد الاقتداء به:

فالنبي هو القدوة الحسنة والأسوة المباركة التي أمر الله المسلمين الاحتذاء حذوه، وإتباع نهجه، ولعمري إن مولده هو النور المشرق الذي يجدد الوصل به ويذكر القلوب بالاقتداء به، والنصوص التي تشهد لهذا كثيرة ومتعددة، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)[13]، وقال الله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ)[14]، وقال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر)[15]، وقال تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون)[16].

فأمر الله عز وجل الكافة بمتابعته صلى الله عليه وسلم، ووعدهم الاهتداء باتباعه؛ لأنه الله تعالى أرسله بالهدى، ودين الحق ليزكيهم ويعلمهم الكتاب، والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم[17].

وقال صلى الله عليه وسلم "من اقتدى بي فهو مني، ومن رغب عن سنتي فليس مني"[18].

وقال محمد بن علي الترمذي: "الأسوة في الرسول الاقتداء به والاتباع لسنته وترك مخالفته في قول أو فعل[19]، وقال ذو النون المصري: "من علامات المحب لله عز وجل، متابعة حبيب الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وأفعاله، وأوامره وسننه"[20].

قال الشيخ الصاوى في شرحه على تفسير الجلالين: "الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واجب في الأقوال والأفعال والأحوال؛ لأنه لا ينطق عن هوى، ولا يفعل عن هوى ، بل جميع أفعاله وأقواله وأحواله عن ربه"[21]

وعليه فالحرص على تجديد الاقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم، واتباع هَدْيه وسُنّته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتّأدّب بآدابه، في أقواله وأفعاله، وأخلاقه في مناسبة المولد النبوي الشريف من أكبر المقاصد والغايات.

رابعا: ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ميلاد جديد للإنسانية:

مع ميلاد النبي "صلى الله عليه وسلم نلمس ميلادا، جديدا للإنسان ـ مطلق الإنسان ـ وهو مسألة ترتبط بقيمة هذا الإنسان، حينما رفع الإسلام مكانته، وشرَّفه الله وكرمه وكلفه، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في الكون جميعا حين جعل له حرمة، وجعل له ذمة، وحرره من العبودية لغير الله، وحرم الرق والظلم والقهر، وأن يسام الخسف، فحقق فيه معاني الإنسانية العظيمة

فحل العدل محل الظلم، والنور محل الظلام، والهداية محل الضلالة، والوحدة محل الفرقة، والبناء محل الهدم، والحرية محل الرق والعبودية، والتسامح محل العصبية، والانتصار للمبدأ والحق محل الانتصار لفرد أو قبيلة، وهذا ما أشار إليه الدكتور عبد الرحمان علي حجي بقوله: "إن الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم باعتبار نبوته ورسالته، وإن هذا المولد الكريم كان علامة مولد جديد للإنسانية؛ ليبدأ عنده موكب الإنسان الجديد؛ بالمسير نحو الخير في الطريق الإنساني الفريد، طريق الله الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)[22].

ومن هذا المنطلق يمكن القول إن بعث النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهذه الرسالة العظيمة الشريفة كان بمثابة ميلاد جديد لبني الإنسان، مطلق الإنسان، الذي يعتبر تكريمه والإعلاء من شأنه وقدره وقيمته لا ينقصه الوضوح والبروز في الإسلام وشريعته.
.