رواية حديث الصباح والمساء

إنضم
3 فبراير 2019
المشاركات
3,948
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
رواية حديث الصباح والمساء هي إحدى تلك الروايات الساحرة التي يكمن سحرها في (عادية) أبطالها، تلك الرواية التي في رأيي لم تحظ بالاحتفاء الكافي بها رغم أنها إحدى أجمل روايات محفوظ. الرواية ليست غارقة في الرمزية كعادة محفوظ في بعض رواياته الجميلة، بل على العكس فلسفة الرواية بسيطة جدًا -ربما هنا يكمن جمالها الخفي-. هي رواية عن الحياة العادية وتفاصيلها، تلك التفاصيل التي لا نلتفت إليها الآن، لا نلتفت للخيوط الخفية التي تربطنا جميعًا، لكن ربما في المستقبل ونحن في سن الهرم سننظر إليها، سنشعر بالشجن ونتعجب كيف مررنا بكل هذا. الرواية تلتقط تلك التفاصيل ببراعة وتجعلنا نفكر فيها، تساعدنا على أن نلتقط أنفاسنا قليلاً وتدفعنا إلى النظر للعالم من حولنا قليلاً بزواية رؤية أوسع من نظراتنا الضيقة للأمور. سنكتشف عند الانتهاء من قراءتها أن هذا العالم الممل الذي يبدو بائسًا مليء بالقصص الدرامية التي تستحق أن نفكر فيها قليلاً.
عشرات الشخصيات تنكشف لنا حيواتهم الخاصة عبر صفحات الرواية، يتباينون في كل شيء لكن يجمعهم شيئان؛ الموت الذي هو النهاية المحتومة لنا جميعًا، والحب المحموم الذي لا يقتصر على الحب بين ذكر وأنثى لكنه يمتد ليشمل جميع أنواع الحب؛ حب السلطة، وحب الوطن، وحب المال، وحتى الحب الإلهي. الموت قرين الحياة في الرواية، ليس هذا الموت الذي يسبب الحزن، لكن نظرة محفوظ كانت أعمق، فالموت عنده هو جوهر الحياة، هكذا عبر عن فلسفته المثيرة للتفكير على صفحات الرواية.الرواية تتحدث عن خمسة أجيال من ثلاث عائلات يزداد حجمها بمرور الزمن وتنتشر ذريات تلك العائلات في أنحاء القاهرة. لم يُشر محفوظ لماذا اختار خمسة أجيال فقط رغم أن حجم الرواية صغير، كان يمكن بسهولة أن يقوم بإضافة جيل سادس، ربما للأمر علاقة بأن محفوظ أراد رصد فترة تاريخية محددة في تاريخ مصر عبر تلك العائلات فجاء حجم تلك الفترة مساويًا لخمسة أجيال. على الرغم من وجاهة هذا التفسير لكنني أفضل تفسيرًا آخر وهو أنه هناك رمزية تقع خلف هذا الاختيار؛ وهي أن كل فرد فينا يعاصر خمسة أجيال: جيل الأجداد، وجيل الآباء، ثم الجيل الذي نتنمي إليه، يعقب هذا جيل الأبناء، ثم أخيرا جيل الأحفاد. وربما لإيماني بهذه الفرضية شعرت طوال الرواية أن الجيل الثالث هو الجيل الرئيسي.

أخيرًا، لو أننا نظرنا لحياتنا سنجد أنها تشبه الرواية بصورة كبيرة، نظن أننا أبطال هذا العالم الذي خلق كل شيء به فقط لخدمتنا، لكن الناظر للصورة من بعيد سيرانا مجرد شخصيات ثانوية بعضنا يحتل بضعة صفحات وبعضنا لا تتعدى حياته صفحة واحدة مثلنا مثل أبطال رواية محفوظ الذي يخيل لي أن السب الأول لاستخدامه تقنية (البروفايلات) في السرد هو أن يشير لهذه الحقيقة. ربما هذه هي حقيقتنا، شخصيات في رواية كبيرة لا تنتهي والأحداث التي حدثت لنا لن تهم أحدًا بعد مرور عشرات السنين.