رواية الحرافيش لنجيب محفوظ

إنضم
3 فبراير 2019
المشاركات
3,948
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
لم يكن نجيب محفوظ روائيًّا يكتب الأدب لأجل الأدب، بل كان معظم وقته يقرأ في التاريخ والفلسفة، والعلوم الطبيعية، وقد اتخذ الأدب نافذة لبث أفكاره، ورؤيته للكون والتاريخ وطبائع العمران البشري، ظهر ذلك جليًّا في ملحمة الحرافيش، حيث تعتبر هذه الرواية معبرة عن فلسفة التاريخ من وجهة نظره، وربما نلمس فيها تأثرًا واضحًا بابن خلدون، حيث دوران التاريخ وتكراره، الإيمان بالتقدم الأخلاقي المؤيد بالقوة البشرية (العصبة) وتدرجه.
<h2>فلسفة التاريخ عند نجيب محفوظ</h2>
عاشور الناجي، الشخصية الرئيسية في ملحمة الحرافيش، التي تمثل مرحلة مزدهرة من مراحل تاريخ الحارة، بما جسدته من القوة والعدل والأخلاق، وشكَّلته عوامل مختلفة؛ تربية الشيخ عفرة زيدان له على الأخلاق والقرآن، وخلوته في الصحراء فترة طويلة، نمت فيها قوته الروحية والتأملية، فجمع بين قوة الجسد وقوة الروح والعقل والأخلاق، وهي الصورة المثلى للفتوة كما يراه نجيب محفوظ.
وتمثَّل دستوره كفتوة في خاتمة ملحمته:
<blockquote>وكما توقع الحرافيش، فقد أقام فتونته على أصول لم تعرف من قبل، رجع إلى عمله الأول- سائق كارو- ولزم مسكنه تحت الأرض، كما ألزم كلَّ تابع من أتباعه بعمل يترزق منه، وبذلك محق البلطجة محقًّا، ولم يفرض الإتاوة إلا على الأعيان والقادرين؛ لينفقها على الفقراء والعاجزين.</blockquote>
وستظل تلك الخاتمة هي محور تقييم مراحل فتوات (الحارة) على مر تاريخها.
وعاشور الناجي كان له هفوات وسقطات مثَّلت محورًا مهمًّا في قراءة الشخصية، مما جعلها شخصية واقعية جدًّا معبرة عن الواقع التاريخي الإنساني، وتتعد الرؤى في قراءتها وتأويلها حسب حال كل فتوة من القوة والضعف، والأخلاق والتهتك، والعمل والبطالة، وارتباط الأجيال بها أو انقطاعهم عنها. ويختفي عاشور فجأة من مسرح الأحداث، تاركًا خلفه التجربة شبه مكتملة، ومفسحًا المجال لقراءتها حسب الزمان والمكان.

<h1><span style="font-family: Cairo, sans-serif; font-size: 15px; color: rgb(51, 51, 51); ****-align: right;]</h1>
<h1><span style="font-family: Cairo, sans-serif; font-size: 15px; color: rgb(51, 51, 51); ****-align: right;]تأملية، فجمع بين قوة الجسد وقوة الروح والعقل والأخلاق، وهي الصورة المثلى للفتوة كما يراه نجيب محفوظ.</h1>
وتمثَّل دستوره كفتوة في خاتمة ملحمته:

<blockquote>وكما توقع الحرافيش، فقد أقام فتونته على أصول لم تعرف من قبل، رجع إلى عمله الأول- سائق كارو- ولزم مسكنه تحت الأرض، كما ألزم كلَّ تابع من أتباعه بعمل يترزق منه، وبذلك محق البلطجة محقًّا، ولم يفرض الإتاوة إلا على الأعيان والقادرين؛ لينفقها على الفقراء والعاجزين.</blockquote>
وستظل تلك الخاتمة هي محور تقييم مراحل فتوات (الحارة) على مر تاريخها.
وعاشور الناجي كان له هفوات وسقطات مثَّلت محورًا مهمًّا في قراءة الشخصية، مما جعلها شخصية واقعية جدًّا معبرة عن الواقع التاريخي الإنساني، وتتعد الرؤى في قراءتها وتأويلها حسب حال كل فتوة من القوة والضعف، والأخلاق والتهتك، والعمل والبطالة، وارتباط الأجيال بها أو انقطاعهم عنها. ويختفي عاشور فجأة من مسرح الأحداث، تاركًا خلفه التجربة شبه مكتملة، ومفسحًا المجال لقراءتها حسب الزمان والمكان.
<ins><ins><ins></ins></ins></ins>
شمس الدين الناجي: الخلف القوي القلق، مثال الصراع الذي يتجسد في نفس الرجل الصالح، الذي يضعف أحيانًا لكن تغلب نفسه التقية ضعفه وهنَّاته القليلة، وهو لم يحظَ بنفس التجربة الروحية التي حظي بها أبوه، وهي نقطة محورية ومهمة في شخصيات الفتوات على طول خط الحكايات في الملحمة، وصورة نفسه هي صورة فترة فتوته.
وفي عهده بدأ هاجس احتذاء فترات التاريخ المزدهرة، فتحول عاشور الناجي في عهده إلى دستور بعد أن كان واقعًا معاشًا، تخشى أمه أن ترد: «الفتونة إلى عهد البلطجة من جديد». وهو يقول لها بحرارة: «ليس من اليسير النكوص عن تراث الناجي». ونجده في حوار مع أمه بعد فوزه بالفتونة يقول لها: «ما أشقّ أن يكون مثلي خليفة لأبي» – تلك الكلمة التي تقال عقب كل عظيم راحل، كان سيد زمانه بسيرته ومسيرته – ومن هنا يبدأ الحديث عن التراث، ومن هنا ستبدأ قراءة العهد القديم بعيون الأجيال، وتتجلى إرهاصات التأويل للعهد القديم في حوراه وأمه بعد مجيء رسول الأعيان إليه، يطلب منه أن يتخفف من وطأة الفقر، وأن يقبل بعض هدايا الأغنياء.
<ins><ins><ins></ins></ins></ins>
وبعد رحيل الرسول (شيخ الحارة)، تقول له أمه – التي كانت تحن لعهد الرخاء وطيب العيش ونبذ التقشف، وهي امرأة لم تحظ بتربية أخلاقية أو روحية، فقد جاءت من البوظة (الخمارة)، ولكنها رضخت بقوة العشرة لتعاليم عاشور، وهنا تظهر قوة العامل الأخلاقي والروحي المؤثر من وجهة نظر محفوظ، في كبح جماح الشهوات والرغبات- مهونةً من أمر الهدايا: إنَّ عاشور لم يتردد عن وضع يده على دار البنان الخالية! فقال غاضبًا: العبرة بالخاتمة! فقالت: «بل أعطانا في كل حال مثلًا يحتذى].. فقال بازدراء: [سيجيء زمان نلصق فيه بعاشور العظيم كل خلجة ضعف تضطرب في نفوسنا!».
في هذا الحوار المكثف العميق تظهر بدايات فكرة التأويل لتراث السابقين وتجاربهم، والنزاع النفسي بين طهارتها ونقائها ونجاحها، وبين نفوس الأجيال التالية لها عندما يقعون في مأزق أخلاقي في ممارستهم الحياتية مهما اختلفت، وكيف ينزع بعضهم لتأويل سيرة سابقيهم إذا كانت تحمل لهم رمزية أخلاقية حاكمة، إن لم يستطيعوا التخلص من وطأتها لما تمثله من قداسة ونقاء ونجاح! وعهد شمس الدين باضطراباته القليلة يمثل نموذج بداية النقصان بعد التمام، التي يتبناها محفوظ على مدار سير الملحمة، كخط جبري لمسيرة التاريخ!
<ins><ins><ins></ins></ins></ins>
سليمان الناجي: بهذا الفتوة الثالث من آل الناجي تبدأ مرحلة أخرى من مراحل الملحمة، يبدأ الرجل شيئًا فشيئًا في التنازل عن مبادئ العهد القديم، ويتزوج بثرية من بنات الأعيان، ويصادق الأثرياء، وتصل يده لأموال الحرافيش، لكنه ما زال يعطيهم ولا يبخل عليهم، وهو بين السقطة والأخرى يذكر نفسه بعهد الناجي، لكن اسم الناجي يقل ذكره هنا، فتكثر السقطات ويغيب ذكر عهد الناجي مع الوقت، وتتسع خرقة تأويل تراث الناجي.
فيقول الوجهاء لسليمان الناجي: الفتوة ورجاله من الأغنياء أو هذا ما ينبغي أن يكون! فقال معترضًا: كلَّا، ما فعل ذلك أبي ولا جدي، فقال صاحب الوكالة: «لولا إقامة جدك في دار البنان ما عرفت الحارة معنى الفلاح»، فقال بإصرار: كان فتوة أعظم منه وجيهًا.. فقال صاحب الوكالة: «خُلِقَ الفتوة ليكون وجيهًا وليلعنِّي الله إن كنت كاذبًا أو مغرضًا فيما أقول».
<ins><ins><ins></ins></ins></ins>
في هذا الحوار السريع، يظهر أنَّ أفق الرؤية لعهد الناجي تختلف وتتعدد، وكلٌّ يستعمل قدرته على التأويل في التبرير لأفعاله!لكن يظهر مستوى آخر لرؤية تراث الناجي، بين جيلين مختلفين، يتجلى في حوار سليمان وابنه بكر، يقول بكر: «ولكن جدنا عاشور الناجي كان يحب الحياة الفاخرة»، فسأله بغضب: «من أنت لكي تفهم المعلم عاشور؟!»، فقال بكر: هكذا قيل يا أبي، فقال: «لا يفهم عاشور إلا من اشتعل قلبه بالشرارة المقدسة».
هنا في هذا المشهد السريع جدًّا يظهر الصراع بين الأجيال على فهم التراث القديم، تراث الناجي العظيم، ونرى من خلاله كيف أنَّ النظرة للتراث تختلف في الطبقة الواحدة، وتختلف أيضًا في الطبقات التالية اختلافًا أكثر عمقًا وجرأة، ومع اختلال ميزان العمل بالعهد وفق ذلك التراث، تنزع القداسة من قلوب الأجيال نحوه شيئًا فشيئًا، وهو ما ينذر بأنَّ الوضع سيسير إلى الأسوأ، وهو ما يتجلى في الملاحم التالية.
ومع مأساة ابني سليمان الناجي، التي تصارعا فيها حول شبهة أخلاقية نسائية، يظهر (الحرافيش) ظهورًا مهمًّا في مجرى السرد (جرت فضيحة آل سليمان الناجي على كل لسان، وترَّحم الحرافيش على عهد الناجي القديم، واعتبروا ما نزل بسليمان وابنيه جزاء عادلًا على انحرافه وخيانته، وقالوا:
<ins><ins><ins></ins></ins></ins>
إنَّ عاشور كان وليًّا، أيَّده الله بالحلم والنجاة، وأكرمه حيًّا وميِّتا، أما الكارهون فقالوا إنها ذرية داعرة متسلسلة من أصل داعر لم يكن إلا لصًّا فاسقًا)، ومع مرور الزمن على الحارة، لم يعد عاشور الناجي مجرد فتوة عادل، بل إنَّ الأعيان يرونه منهم، والحرافيش يرونه وليًّا، والكارهون له يرونه لصًّا، ثلاثة أفق للنظر والتأويل لتاريخ الناجي في وقت غير طويل على انقضاء فترة فتوته ورحيله دون سبب!
هكذا إذن اتسعت أفق الرؤية التأويلية، وبذهاب العدل وخيبة الممارسة، نزعت القداسة عن الرمز الملهم، وظهر هذا التناقض الصارخ في رؤية التاريخ!
وبعد ذهاب سليمان الناجي، بدأ عهد الصراع على (الفتوة) لذاتها، سلسلة متصلة من الضياع والقهر، وحب الذات، وأحيانًا كانت تعود لأحد من آل الناجي، لكنه يخيِّب آمال الحرافيش، وعمر هذا الصراع يبدأ من الحكاية الرابعة وحتى منتصف الحكاية التاسعة تقريبًا، ويُظْهر نجيب ببراعة من خلال قدرته الإبداعية في السرد، كيف يتحول الإنسان في فترات هذا الصراع إلى ذاته ولا يخرج منها، حتى يختفي تمامًا بداخلها، وكذلك يوضح وطأة التاريخ على نفوس الحرافيش عندما تخيب آمالهم في تحسين الأوضاع، فيلجأون إلى التشكيك في عهد الناجي حتى تموت في نفوسهم آخر عوامل اليقظة المتبقية التي تحثهم على البقاء والأمل.
<blockquote>ويئس الحرافيش وتساءلوا: لم لا نشك في الماضي ليرتاح بالنا؟</blockquote>
https://www.********.com/profile.ph...t="_blank" title="عرض صفحة الكاتب في ********