شواطئ البكائين

حور الدنيا

New member
إنضم
29 مايو 2007
المشاركات
53
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
:krkrkr:
شواطئ البكائين


قال الله -عز وجل- في محكم التنزيل:{وَفِى ٱلأَرْضِ ءايَـٰتٌ لّلْمُوقِنِينَ *وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}[الذاريات:20، 21]، وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ ءايَـٰتِنَا فِى ٱلأَفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ}[فصلت:53].
والآية جدّ آية، والعظمة جدّ عظمة، ما أودعه الله -عز وجل- في بني البشر من النعمتين العظيمتين، ألا وهما نعمة الضحك والبكاء، ضحك وبكاء أودعهما الله النفس الإنسانية والأمة البشرية: {وَأَنَّ إِلَىٰ رَبّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ}[النجم:42، 43]. ضحكٌ أودعه الله النفس البشرية، لتعبّر به عن فرحها المرغوب ورضاها به وأنسها بما يسّر، وبكاء أُودِعَتْه النفس لتعبر به عن الخشية والفَرَق والخوف والوجل، ولربما هجم السرور على النفس فكان من فرط ما قد سرّها أبكاها، فهي تبكي في الأفراح والأحزان.
إنّ الله -عز وجل- أنشأ للإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء، وجعلها وفق أسرار أودعها فيه، يضحك لهذا، ويبكي لذاك، وقد يضحك غدا مما أبكاه اليوم، ويبكي اليوم مما أضحكه بالأمس، في غير جنون ولا ذهول، إنما هي حالات جبلية خلقها الله فيه: {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}[الذاريات : 21].
إن الله -عز وجل- أنعم عليكم بنعمة البكاء لتشكروه عليها، إذ كيف يعيش من لا يبكي؟! كيف تتفاعل نفسه مع الأحداث والمواقف؟! بماذا يترجم عن الحزن والأسى؟! بماذا يعبر عن الخشية والخوف من الله جل وعلا؟! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا يستَجاب لها).
البكاء قافلة ضخمة حطت ركائبها في سوق رحبة، ما ابتاع الناس منها فعلى ثلاثة أضرب:
* فضرب من الناس اشتروا بكاء العشاق والمشغوفين، أصحاب الهوى والتيم، أهل الصبابة والغرام، الذين هربوا من الرق الذي خُلِقوا له، وبَلَوا أنفسَهم برقِّ الهوى والشيطان، فاشترى هؤلاء القوم هذا الضرب من البكاء شراء مفتقرًا لشروط الصحّة، فابتاعوا بيعًا فاسدًا، ثم زادوا السقم علة والطين بِلَّة، حين أوقفوا هذه الدموع واحتبسوها في غير وجه شرعي، فبطل الوقف، وخسر الواقف، وهام الموقوف عليه، فما أعظمها شِقْوَةً! وما أوعرها هُوَّة!
فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه بـاكيـًا في كل حيـن مخـافة فرقـة أو لاشتيـاق
فتسخن عيـنه عند التلاقـي وتسخن عيـنه عند الفراق
ويبكـي إن نأوا شوقـًا إليهم ويبكي إن دنوا خوف الفراق
أعاذنا الله وإياكم من هذه الحال ومن حال أهل النار.
* وضربٌ من الناس ابتاعوا بكاء أهل الحزن على مصائبهم ورزاياهم، وعلى هذا الضرب جلّ الناس، فاقتصروا على سلعة وافقت جِبِلّتهم التي جبلهم الله عليها، فأصبحوا لا لهم ولا عليهم.
* وضرب ثالث اشتَروا بكاء الخشية من الله -عز وجل-، تلكم البضاعة التي زهد فيها معظم القوم إلا من رحم الله. آيات تتلى، وأحاديث تروى، ومواعظ تلقى، ولكن تدخل من اليمنى وتخرج من اليسرى، لا يخشع لها قلب، ولا تهتزّ لها نفس، ولا يسيل على أثرها دمع. اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع.
عباد الله، لقد أثنى الله -جلَّ وعلا- في كتابه على البكّائين من خشية الله وفي طاعة الله، الأتقياء الأنقياء ذوي الحساسية المرهفة، الذين لا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من حب لله وتعظيم له، وخشية وإجلال، فتفيض عيونهم بالدموع، قربة إلى الله وزلفى لديه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا *وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً *وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}[الإسراء:107-109]، وقال تعالى: {أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّيْنَ مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيَّةِ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْرٰءيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُ ٱلرَّحْمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا}[مريم:58]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَق}[المائدة:83]، وقال تعالى: {أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ *وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ *وَأَنتُمْ سَـٰمِدُونَ *فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ}[النجم:59-62].
عباد الله، البكاء من خشية الله وصف شريف ومسعى حميد، به وصف الله أنبياءه والذين أوتوا العلم من عباده، وقد ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجلًا ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) متفق عليه.
ويمتاز البكاء في الخلوة؛ لأن الخلوة مدعاة إلى قسوة القلب والجرأة على المعصية، فإذا ما جاهد الإنسان نفسه فيها واستشعر عظمة الله فاضت عيناه، فاستحق أن يكون تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله) رواه الترمذي.
صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلقد قال ذلك بأبي هو وأمي -صلوات الله وسلامه عليه-، قال ذلك وهو أتقى الناس لله، وأخشى الناس لله، وأكثر الناس بكاء من خشية الله.
.
وقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم-أنه كان إذا صلى سمِع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، أي: كصوت القدر إذا اشتدّ غليانه. رواه أبو داود وأحمد والنسائي.
وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم-أنه بكى على ابنه إبراهيم حينما رآه يجود بنفسه، فجعلت عيناه تذرفان الدموع، ثم قال: (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون) رواه البخاري ومسلم.
إن هذه الدموع الزكية التي سالت من عينه -صلى الله عليه وسلم-تمثل إحساسًا نبيلًا ومشاركة أسيفة للمحزونين والمكروبين، وهي لا تتعارض أبدا مع كونه -صلى الله عليه وسلم-مثلًا للشجاعة ورباطة الجأش والرضا بقضاء الله وقدره، ولكنه بكاء المصطفى الكريم في مواطن الرحمة والإشفاق، ومن لا يرحم لا يُرحم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ ما النجاة؟ قال: (أمسِك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) رواه أحمد والنسائي.
هذه حال النبي -صلى الله عليه وسلم-في بكائه من خشية الله، أخذها الصحابة -رضوان الله عليهم-، فقد روى الحاكم والبزار بسند حسن عن زيد بن أرقم قال: كنا مع أبي بكر -رضي الله عنه-بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-فاستسقى، فقدم له قدح من عسل مشوب بماء، فلما قربه إلى فيه بكى وبكى، حتى أبكى من حوله، فما استطاعوا أن يسألوه عن سبب بكائه، فسكتوا وما سكت، ثم رفع القدح إلى فيه مرة أخرى، فلما قرَّبه من فيه بكى وبكى، حتى أبكى من حوله، ثم سكتوا فسكت بعد ذلك، وبدأ يمسح الدموع من عينيه -رضي الله عنه-، فقالوا: ما أبكاك يا خليفة رسول الله؟! قال: كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في مكان ليس معنا فيه أحد وهو يقول: (إليكِ عني، إليك عني)، فقلت: يا رسول الله، من تخاطب وليس ها هنا أحد؟! قال -صلى الله عليه وسلم-: (هذه الدنيا تمثّلت لي فقلت لها: إليكِ عني، فقالت: إن نجوتَ مني فلن ينجو مني من بعدك)، فخشيت من هذا..
قام محمد بن المنكدر ذات ليلة فبكى، ثم اجتمع عليه أهله ليستعلموا عن سبب بكائه، فاستعجم لسانه، فدعوا أبا حازم، فلما دخل أبو حازم هدأ محمد بن المنكدر بعض الشيء، فسأله عن سبب بكائه فقال: تلوت قول الله -جلَّ وعلا-: {وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ}[الزمر:47]، فبكى أبو حازم، وعاد محمد بن المنكدر إلى البكاء، فقالوا: أتينا بك لتخفّف عنه فزدته بكاء: {وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ}.
كان الربيع بن خثيم يبكي بكاء شديدا، فلما رأت أمه ما يلقاه ولدها من البكاء والسهر نادته فقالت: يا بنيّ، لعلك قتلتَ قتيلا؟! فقال: نعم يا والدتي، قتلت قتيلًا، فقالت: ومن هذا القتيل يا بني، نتحمل إلى أهله فيُعفوك؟ والله، لو علموا ما تلقى من البكاء والسهر لقد رحموك، فقال الربيع: يا والدتي هي نفسي، يا والدتي هي نفسي.
عباد الله، هذا بكاء السلف، وهذه دموع البكائين تسيل، ولسان حالهم يقول:
نزف البكاء دموع عينـك فاستعر عينـا لغيرك دمعهـا مدرار
من ذا يعيـرك عينه تبكـي بهـا أرأيت عينا للدمـوع تعـار
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه لا بد من القلق والبكاء، إما في زاوية التعبّد والطاعة، أو في هاوية الطرد والإبعاد، فإما أن تحرق قلبك بنار الدمع على التقصير والشوق إلى لقاء العليّ القدير، وإلا فاعلم أن نار جهنم أشد حرًا: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}[التوبة:82].
فانظر -يا عبد الله- إلى البكائين الخاشعين تراهم على شواطئ أنهار الدموع نزولًا، فلو سرت عن هواك خطوات لاحت لك الخيام.
اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن هذا الدين وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ولا يفهم من الحث على البكاء والتباكي خشيةً لله، لا يفهم منه الدعوة إلى الكدر، ولا إلى الرهبنة، ولا إلى ما يقوله أحدهم: "ما ضحكت منذ أربعين سنة"، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم-إمام الأمة وقائد الملة كان يضحك، ولكنه لا يستجمع ضاحكًا، ولا يفرط في الضحك، فقد ثبت عنه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-أنه قال: (لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب) رواه ابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد بسند جيد.
ولا يضحك ويقهقه ويرفس الأرض برجله ويستلقي على قفاه إلا الذي قسا قلبه وغفل عن الموت ونسي ما بعده.
وقد يغرق البعض في الضحك حتى إنه لا يلين قلبه ولا تبكي عينه، ولا يتأثر بشيء ولو وعظه لقمان أو تليت عليه آيات القرآن، يطرب لأصوات المظلومين وأنات المنكوبين، قد نزع الله من قلبه الرحمة، وجرَّده من الخوف والرجاء، جفت مآقيه عن الدموع، فاعتاض عنها شرارا يقذفه من عينيه، يضحك للمصيبة تنال أخاه، يقهقه سخرية من كل صاحب سنة، إذا مرّ بذي صلاح غمز، وإن ذكر عنده ذو علم لمز: {إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ *وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ *وَإِذَا ٱنقَلَبُواْ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ *وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـؤُلاَء لَضَالُّونَ *وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَـٰفِظِينَ *فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ *عَلَى ٱلأَرَائِكِ يَنظُرُونَ *هَلْ ثُوّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُون}[المطففين:29-36]. فهؤلاء ضحكوا هنا فبكوا هناك، وهؤلاء بكوا هنا وسيضحكون هناك: {هَلْ جَزَاء ٱلإِحْسَـٰنِ إِلاَّ ٱلإِحْسَـٰنُ}[الرحمن:60].




نقلًا من موقع المنبر
للشيخ: سعود بن إبراهيم الشريم -حفظه الله-
 
إنضم
14 أكتوبر 2007
المشاركات
9,835
مستوى التفاعل
5
النقاط
0
اختي حور الدنيا وانا اقرا الموضوع حسيت براحه نفسيه وامان مع نفسي الحمدالله على نعمه الي رزقني الله سبحانه وهي ان الدنيا اخر همي والحمدالله عسى الله ان يرزقنا دموع الخشيه ورهبه منهه والرغبه لملاقاه وجهه الكريم اللهم امين مشكوره وجزاج الله خير
 

حبيبة أهلها

**مشرفة القسم الاسلامي**
إنضم
27 يونيو 2005
المشاركات
17,345
مستوى التفاعل
1
النقاط
0
الإقامة
السعوديـــــــة