أحلام مستغانمي ..بح بما تشاء في الطائرة ليس لنا أسماء

ماكنتوش 1988

مراقبه عامه
إنضم
26 يونيو 2011
المشاركات
31,855
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
ليست المصادفات منصفة. أشياء كثيرة وُضعت في مكانها الخطأ في الحياة، لذا تمضي لغير الذي يتمناها، وتضرب الأقدار مواعيد لغير الذين انتظروها، ويسخى الزمن بالساعات على غريبين، ويبخل بالدقائق على عاشقين. ويهِب مسافرين ضجرين فائضاً من الثرثرة، ويحرم المتلهّفين إلى لقاء، من كلمة لم يُسعفهم الفراق قولها. ويضع لساعات شخص في الطائرة بمحاذاتك، وفي متناول فضولك بكل أشيائه وحركاته ومطالعاته، ويحجُب عنك طلة الشخص الوحيد الذي لك فضول معرفة تفاصيله من بعدك، وماذا فعلت به السنون مذ ذلك الزمن، الذي كنت تحفظ عن ظهر قلب تفاصيله.


المصادفات باهرة حد الإرباك أحياناً، وظالمة غالباً حد التجنّي. الدليل أنني قضيت أكثر من 4 ساعات في الطائرة، جالسة إلى جوار رجل لا يعنيني ولا أعني له شيئاً، بينما قد تحلم امرأة أحبّته أن تهديها المصادفة دقائق معه، يكون فيها مربوطاً جوارها إلى مقعد، لتقول له ما لم يترك لها فرصة قوله حين مضى.

هو نفسه تمنّى لو كنت هي، وأنا أيضاً تمنيت لو لم يكن هو. لذا أخرجت جهاز الكمبيوتر ودفتراً عليه ملاحظات، ورحت خلال الساعة التي سبقت الغذاء أراجع بعض ما كتبت. أما هو فأخرج مجلات وراح يطالعها. رجل أربعيني بمظهر رياضي ومطالعات جادة. أول ما قاله إنه يتمنى ألا يتسبب تأخر طائرتنا عند الإقلاع في إخلافه طائرته إلى نيويورك. رويت له ضاحكة يوم تخلّفت عن رحلتي من نيويورك إلى باريس لجهلي للغة الإنجليزية، وقضيت الليل جالسة على مقعد مواجه لبوابة العبور حتى لا أتوه مجدداً وأخلف طائرة الصباح. علق ضاحكاً ومتعجباً من أمري: «لا يمكن للمرء أن يستغني اليوم عن اللغة الإنجليزية خاصة في أمريكا.. لعلك كنت في زيارة عائلية. على اللبناني أن يتعلم اليوم كل اللغات ليتمكن من زيارة أقاربه في كل القارات». قلت «لست لبنانية.. كنت هناك من أجل محاضرة في جامعة يالـ». «أنت أستاذة؟». «لا أنا روائية» دبّ فيه اهتمام ما «أنا باحث أقيم في أمريكا وانقطعت عن المطالعات الأدبية.. ما موضوع رواياتك؟». أجبت: «أكتب روايات تاريخية ببُعد عاطفي.. في الواقع مجالي المشاعر والنفس البشرية» رد بحماسة: «أحب هذا النوع من الروايات.. هل لي أن أعرف اسمك ربما عثرت لك على كتاب» قلت: «دعك من اسمي.. في السماء لا أسماء لنا».
كأنني لفظت كلمة السر التي انفتحت بها روح الرجل واطمأن لها قلبه. لعلّه كان يحتاج إلى قس في هيأة كاتب، ليس من جنسه ولا جنسيته ليبوح له في السماء بما سكت عنه في الأرض. وهكذا قضيت ساعتين أستمع للبوح الطازج لرجل جاء إلى بيروت وغادرها متعمّداً عدم اللقاء بامرأة أحبها.
بعد دردشة بسيطة، قال: «غادرت بيروت سعيداً. كانت بيروت يوماً هي «المدينة» وغدت مدينة كباقي المدن. جئتها في الأعياد لأثبت أن في إمكاني مواجهتها والتنقل والسهر فيها من دون أن ألتقي بتلك المرأة. كنت أخذت عهداً على نفسي ألّا أراها. في الواقع حين وصولي كان أول سؤال هو إن كانت هناك. كنت أريد أن أشعرها بأنها لم تعد موجودة بالنسبة إليّ».
بعد ساعتين من الجدل، انتهى الأمر بجاري بأن اعترف بطريقة ما بأنه لم يُشْفَ من تلك المرأة. لا أصدّق من البوح في السماء لأناس بلا أسماء!
وللحديث بقية..